هبِّ الهَوا؛ وِتْجَرِّحِ المَوّال

189

هبِّ الهَوا؛ وِتْجَرِّحِ المَوّال

إبراهيم يوسف – لبنان

بلا كمَّامات..؟ ليلة
عذبة من الأحلام

تجوّلتُ فيها مُحَلِّقا
بلا خشية
بين الأرض والسماء

تَباركَ الصبرُ والصمودُ والقدرة على التّحمل
وقسوة بالغة بفعل العزلة في المنازل
وأعصاب تهالكتْ وتحوّلتْ إلى أشواك
من الحبس في سجن بلا نوافذ
يرزح تحت غضب السماء… وكَيْدِ الوباء
و لقاحات غامضة.. عَصِيَّة على العارفين
وإدراك الباحثين العلماء

علاوة عن إيمان متأرجح.. بين الشك
واليقين وبين الخوف والضجر؛ والرجاء

وأذان يتواصل في “بربور، ورأس النبع”
في أربعة مساجد تختلف فيها مواعيد
النداء… حي على الصلاة… حي الفلاح

وإذ نُوْدِيَ على الناس لِيَذَروا البيع
يوم الجمعة… ويهبوا
إلى المساجد والباحات
لصلاة المغفرة والاستسقاء
والخشوع بين يدي الله
بفعل الجفاف والوباء والفساد؟
هبّ المؤمنون لتلبية النداء

لكن طفلا وحيدا..؟ ممن أتوا
يقيمون صلاة الاستسقاء؟ حمل
مظلة تَقِيهِ “محنة” المطر!
وأما السماء؟
فلم تمطر يوما بلا سَحاب

وجرس كنيسة.. تردّد صداه في الجوار
يودِّع راحلا غيّبه الموت
دون أن يتوقف أو ينحسر… الوباء!
بفعل صلوات ليست مشفوعة بالإيمان

من يدري أن لا تنشأ بعد كوڤيد
مفاهيم “حضارة” مختلفة لم نعرفها
ولم تكن أبدا في الحسبان

حضارة التّخلي المفرط…. أو
التَّمسك بشدة، على الجانبين

“وإن كان شيئا في الكون لا يضيع
وليس من شيء يُخْلق، وكل شيء يتحوّل؟”
فثمة شعور مفزع… ومريب؟
أن شيئا ما..؟ لن يعود كما كان

فلننتظر؛ لو عشنا..؟ لنسمع ما يقوله
العرّافون في مطلع المقبل من الأعوام

لكنني في كل الأحوال لستُ واثقا
أن زلزالا مدمرا لن يضرب الكوكب؟
ليعاد بناؤه من جديد بشكل أفضل

أو وباءً “مساعدا” آخر يطحن البشر
ينقله على شبكته عنكبوت هجين
أفادنا قليلا.. وألْحَقَ بنا أسوأ الضرر
يشبه شهوة القطّ ومتعته العالية
وهو يستمرىء لحس دمه عن المبرد

وتبقى “أحلام الزمرّد”
والتفاؤل القسري المؤقت؟!
ورِقّة المرأة وطهارتها
العوامل المساعدة.. تفتح
بابا واسعا للفَرَج من همٍّ مقيم

“يتجلى” في نص جديد
أحضن فيه وأُقَبِّلُ من أرغب ممن
أحببتهم بلا كمامات؛ أو حذر

“يا همومَ الحبّ يا قُبَلُ ** في بحارِ الشّوقِ تغتسلُ
كلّما قلنا صفا زمنٌ ***** رَجِعَتْ كالرِّيح تشتعلُ

هاتِ لي عُمري فأجعلهُ ***طائراً في الأرضِ ينتقلُ
أنا يومَ البُعْدِ أغنيةٌ ***** تأخذُ الدُّنيا وتَرتَحِلُ”

الأخوان رحباني

لا أنصحكُ يا صديقي — أو– صديقتي؟
بقراءة النص وإغفال الوصلات المرفقة

دقّقتُ الحركات، وقرأتُ قصيدتي للمرة الأخيرة بعين الرضا، ورحتُ أتأمل صورة المرأة في بداية النص، تلقي برأسها على صدر الرجل وتوحي بالمودة والأمان. وقرأت عن مناعة القطيع، فلم يفدني.. بل استفزني ما قرأت.

ثم رددتُ على رسالة تصلني من اليمن، مساء الخميس من كل أسبوع. ولمّا كان الحبّ غاية الخلق والأمل؟ سأُحِبُّ بعقلي ووجداني من يوقف معصية الفساد في لبنان، ويخفف عن المصابين الوباء. ومن يرفع الظلم عن اليمن؟ يغفر له ويتولاه الباري برحمته. كذلك رحت أستعرض أحداث يومي، بعينِ التفاؤلٍ ورجاءٍ لم ينقطع بعد.

هكذا حملني انتشار الوباء، وسرعة العدوى من الفم إلى مجنون ليلى. مسرحية شعرية يقول فيها شوقي على لسان قيس بن الملوّح: مُنَى النَّفْسِ لَيْلَى قَرِّبي فَاكِ من فَمِي * كَمَا لَفَّ مِنْقَارِيْهِمَا غَرِدَانِ – نَذُقْ قُبْلَةً لا يُعْرَفُ البُؤْسُ بَعْدَها * وَلا السُّقْمُ رُوْحَانَا وَلا الجَسَدَانِ. فتّشتُ عن الأبيات وأنا في السرير، وفاجأتني أنها مغنّاة على لسان طلال المدّاح قيثارة الشرق طيّب الله مثواه. وخِلتُه للحقّ! مع ملائكة الفردوس يحيي حفلة طرب هذا المساء؟


تذكرتُ بعض مضمون المسرحية، والحب الذي تردّد صداه عبر الزمن ولا أحسبه يوما يختفي؟ ودهمني فيض من الوداعة والحنين، ليردني إلى الماضي أيام قرأت فيها المسرحية، وأول فتاة استجابتْ لعاطفتي في مراهقتي.
كاد الليل يأفل وكنت من شدة نشوتي أغني؛ على هذه الحال غزاني النعاس.. وبعدها لا أعرف حقا متى غفوت؟

https://www.youtube.com/watch?v=lE9VhIU6WB0

في الأحلام تتسارع الذكريات وتتشابك وتتعقد وقد تطول؟ وربما تحلو أو تتنافر بفوضى وتتآلف في غير انسجام. لكن لا حدود ياصاحبي للأحلام. كانت ليلتي حبلى بسعادة عشتها في السماء لا على الأرض. سماء تخيِّم على الخلق وتمنح رحمتها وبركتها للمؤمنين والكافرين على السواء. لهذا أرجوك يا صاحبي؟ والرجاء أعلى مرتبة من التمني، أن لا تَسَلْني ولا تحرجني فيما لا ينفعك، ولا ينفعني في التدقيق معي متى وأين وكيف؟ وتَحْمِلني أن أشرح ما قد يخطر لك في بال، فلا أجد نفسي ملزما بالتفسير والإيضاح، عمن يكون هؤلاء ممن رأيتهم في المنام؟

https://www.youtube.com/watch?v=jFK3GBH_NwQ

هكذا كنت أنتقل كرمشة الجفن أطوي المسافات وأختصر الزمن. بدأتُ رحلتي في اللعب بالكرة يتقاذفها تلامذة الصف الثالث ابتدائي على المرجة في “حُشْبَى”، حينما تحدّى حسين الحسيني قيصر يونس الأستاذ الصارم، وقذف الكرة في وجهه وأنهى رحلته. فترك زوّادته وأفل عائدا إلى الضيعة بمفرده، ليهجر المدرسة أياما بعد الواقعة قبل أن يعود إلى صفِّه من جديد. والمعلم الخصم تأمله طويلا وهو يميل بوجهه ويدخل الصف، فيلقي حطبة المدفأة في الزاوية المخصصة دون أن يلتفت إليه. مع ذلك لم يثأر منه أو ينل من يديه بقضيب الرمّان.

وإذا بي في فوضى الحلم وفارق الزمان؟ ومكان مختلف في الجنوب، ليس بعيدا من حدودنا مع فلسطين، أنحرف بعد انتهاء المدرسة عصرا وشقيقي إلى جانبي، نحمل حقائبنا على ظهورنا ونمشي الهوينى مسافة بعيدة، منهِكة للقدمين إلى منزل”السكاكيني” مكان إقامتنا، عبر درب يتفرع من طريق رئيسة تصل من النبطية إلى زبدين. فطريقُ رِجْلٍ ترابية إلى حاروف، بعد منزلنا المتواضع ذي القرميد الأحمر، الذي حسبته في طفولتي قصرا عظيما.

لو سمعتُ يومَها بڤرساي؟ لشبّهتُ البيت به. ما من حصاة أو حجر صادفته في الطريق، إلا وقذته بحذائي البالي.
ولما لم يكن في قصر ڤرساي كلّه غرفة طعام واحدة؟ كنا نجلس في بهو يتصل بغرفتيّ نوم ومطبخ ودار للضيوف.

كان الطعام جاهزا لدى وصولنا، وزوجة أخي الأكبر اتخذت مكانا لها، وراحت تتأملني بسعادة وابتسامة مكتومة، فهمتُ معناها على الفور؟ فقد ضبطتني بالجرم المشهود ألهو مع نهاد مساء البارحة. وشاهدتْ بعينها ما فعلناه.

لكنها تبسَّمَت لي بسعادة ملحوظة. لها الرحمة من عمق قلبي ماتت ولم تشِ بسري. ثم وجدتني انتقل مع شقيقي الأصغر، ونحن في الكوكسينل قبل صيدا صعودا إلى دير المخلص. حيث اصطحبنا ابني من الصف الداخلي، إبان الحرب الأهلية ودخول السوريين إلى بيروت؛ وعدنا إلى صيدا فتناولنا معه وجبة الغداء في استراحةٍ على البحر.

وحينما عدنا به؟ عدَّدَ لِعَمِّهِ أرقام خمس عشرة لوحة من المركبات التي صادفناها في الطريق، وشقيقي تعجّب منه يحفظ هذه الأرقام، وأبدى دهشته أمامنا، مما سينتفع به الطفل من حشو رأسه بالأرقام! وعند المدخل إلى الباحة قطفت زوجة أخي حفنتين من الزيتون. ثم تلقى مصروف الأسبوع وهو يؤشر لنا بيده ويغادر إلى الداخل.

كنت تلميذا وقد نضبت نقودي؟ فقطعت المسافة من كرك نوح، على أطراف مدينة زحلة إلى الضيعة مشيا على الأقدام. والطريق طويلة وشاقة وخالية من العمران؛ فلم يتجاوزني خلال رحلتي إلا عدد نادر من المركبات. وفي أول طريق الدرجة كانت نور تنتظرني وتحمل طفلها الذي لم أره بعد. هكذا حضنت حفيدي وحملتُه طول الطريق.

ثم توقفنا أول الضيعة وشربنا من عين حمدة وغسلنا وجوهنا. وفي اليوم التالي تأهبنا لزيارة السيدة زينب، وفاء لنذرٍ خصصته من أجلنا زوجة أخي، رفيق دربي عبر الطريق الترابية عند رجوعنا من المدرسة إلى زبدين.

ومن القبة في طرابلس توجهنا إلى زغرتا ومَجدليّا، حيث التقينا جميل بو ضاهر في منزله وأم جميل رحبت بقدومنا، وأصرّت على البقاء معهم للغداء في الحديقة تحت زيتونة معمرة في فناء مكشوف على السماء.

أمّ جميل التي اشتاقتْ للأولاد، راحت تناديهم ليتوقفوا عن اللعب ويغسلوا أيديهم. بعد أن حضّرت لنا المشاوي وكبابا محشوة بالجوز. ثم استعانت بنظارتها وإبرتِها وبدأت تنقب عن الشّوك في أصابِعهم للجلوس إلى الطعام.

راودَني الحنين في نومي إلى البكاءِ بين يدي أم جميل، تفيء بمحبتها على الجميع، وأنا أسمع حديثها المترفع يُقَصِّرُ عنه أكرم الفرسان. أم جميل الطوباوية الطاهرة سهرتْ على أسرتِها وبذلتْ نفسها وضنى قلبها، فلم يُغْرِهَا مال ولم تتعثر بكبوة لم تتجاوزها في الطريق. نذرتْ حالها لمحبَّةِ النّاس. فلِمَ لا تكون أم جميل “رَفْقَا” رقم اثنين!؟

وفي حديقة اللكسونبورغ، قريبا من الپانتيون وجامعة السوربون. لا أدري ما الذي حمل صديقي “فؤاد عطا الله” الماروني المفترض أنه متنور؟ ليبعد عنه كلبا جميلا أبيض دنا منه برفسة من قدميه، وصاحبة الكلب طارت من عقلها وقالت لنا بغيظ واحتقار: أنتم متوحشون؟ وغادرت بعد أن أطلقت في وجهينا قاموسا من السباب.

هدى الطفلة الساحرة كفراشة وأحلى. حملتُها في نومي واشتريت لها إسوارة من الذهب الخالص. أحْبَبْتُ وجهها الملائكي وعينيها المكحولتين، و(لَيْسَ) المسيح فيها.. وخبزه. هدى التي أحبَّتني أمُّها.. فماتت ولم تبح بسري.

وسمر دخلتْ علينا ببسمتها المعبِّرة الرائعة، تحمل لنا أوركيديه كقلبها الصافي وعينيها البنفسجيتين. سمر طفلة متفوقة حملتها طويلا ولاطفت شعرها، وتأملت قدرة الله في عمق عينيها. الشوك وفرح الذكريات الحزينة ما انفكت تزورنا في المنام. السر تعرفه الطفلة المتفوقة والأم الرائعة التي لم تنسنا يوما. أوليتُ الأوركيديه عناية خاصة وعندما خسرتْ أزهارها؟ واصلتُ العناية بها فبرعمتْ وأزهرتْ على التوالي لأربعة مواسم وثلاث سنوات.

رأيت مروان في طفولته يقود سيارة أبيه في غفلة منه، ويلقي بلائمة الصدم على صاحب سيارة الأجرة.. والحاجة جميلة سمعتها تنادي نعجتها، والنعجة فهمتْ وأقبلتْ إليها لتغسل صوفها، وتطعمها بقايا من قشور بطيخ وخضار.

ليلى سكرية أعارتني قبعة مكسيكية في رحلة إلى جزيرة الأرانب. كنا ثلالث عائلات وقطعنا المسافة بين الميناء والجزيرة، على قارب قديم خفت أن يغرق بنا “وأوديسيوس” لا يحسن العوم. وفي الجزيرة ملأت سلتي سمكا.

رأيت في الحارة سيدة تشد طفلها وهو يؤخر سيرها، يتأمل بفضول ملحوظ معاقا مبتور الساق يعرج في الطريق، والرجل تبسم للطفل وألقى عليه تحية بإشارة من يده. لكن الأم انتحت بطفلها جانبا؛ وقد تجاوزا الرجل وهي تقول له: ما فعلته ليس عيبا فحسب؟ بل هو عارٌ عليّ وعليك يا حبيبي.. أرجو أن تدرك يا صغيري معنى العيب والعار؟

رأيت فيضا من الناس في نومي، ممن أحببتهم ولهم في قلبي أغلى ذكريات. ما من طفل وطفلة رأيتها في حلمي، إلا حملتها وقبّلتها في فمها، وما من امرأة أو رجل قريب أو صديق صادفني؟ إلاّ حضنته بلا خوف فقبلتُه وقبَّلني؛ دون أن يغيب عن إدراكي أنني في حلم وأنه زمن انتشار الوباء! وما من مكان عرفته في طفولتي ومراهقتي وشبابي؟ إلا عشت فيه أحلى اللحظات. لعل حمّى المشاعر ووطأة الوباء؟ تحملنا إلى فردوس من الأحلام، فتشيع في النفس المودة والرجاء. هكذا قضيت ليلتي أتنفس ملء رِئتي، وأتجول بلا كمامة محلقا بين أرض وسماء.

هدى، وسمر، ونور: أسامينا؟ شو تعبوا أهالينا تلاقوها؟ الأسامي كلام .. شو خصّ الكلام .. عينينا هنِّي أسامينا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع