قراءة في إجراءات الدلالة قصة السجن انموذجا للكاتبة هدى حجاجي

664

المكان بوصفه دالا فلسفيا
قراءة في إجراءات الدلالة
قصة السجن انموذجا للكاتبة هدى حجاجي

يقول سعيد بنكراد (التاريخ فعالية سردية)
هكذا تمارس قصة السجن أفقها الفلسفي في بناءها لهوية سردية تجمع بين الحدث الموصوف ( واقعي أو متخيل ) وبين نشاط المفاهيم التي ينتجها النص وهنا تكمن لعبة النص ( السجن ) الذي ينزاح عن الواقعة ليكشف نفسه في المفاهيم ( ذاتية / موضوعية / اجتماعية / سياسية / أخرى تتولد في افق المتلقي ) وهو اذ ينزاح ويكشف فانه يسقط أخرى تخلخل طريقة التفكير والنتيجة معا من خلال الاحالات على ( المحتمل والممكن ) وهذا هو وحده الذي يجعلنا من استعادة ما مضى بعقل ادبي ممغنط بفلسفة من خلال شكل القصة التي تحتضن ذلك لا من خلال ما تقوم به المفاهيم المجردة ذات اليقين المفهومي وهذا يعني ان القصة عقل ادبي يحمل تجربته معه بمعنى اخر ان السرد تشخيص لزمن في نسخة ممكنة ومحتملة في المدى تبقى الذاكرة الثقافية تلاحقها في براهين الوقائع متخيلة كانت او منتزعة او مستعادة او مؤولة او واقعية واذن فأول تقنية إجرائية للقصة هي الازاحة والاحلال مستفيدة من كفاءة الجملة الشعرية وتحريك المكان فلسفيا عبر اغراء الوصف بحدائق المفهوم حيث يقترب بدرجات متفاوتة منه وكذلك من تشخيص ثوابت الشخصية والمكان كما سنعرف لاحقا
تتقدم القصة بعنوان يطلق عليه بالعنوان الموضوعي كأشارة ان الحدث سيقع ضمن رقعته الدلالية وهي رقعة غنية جدا تشرع من السجن الذاتي الى السجن المكاني وبهذا يحسم العنوان كل المحتملات لصالحه منها الاحالات القريبة والبعيدة فمن المفردات ما يكون لها سعة وجودية كبيرة تمد انسابها الى ما يجاورها بالحتم التاريخي والسياسي والعقائدي من قبيل (العدل / الحرية / الظلم / الجريمة / الاستكبار) ومفردة السجن من هذه المفردات التي تتعدى الى أكثر من نسب ومن هنا فالعنوان مكان مؤول
تسارع القصة على المستوى الأيحائي ببداية ذات تقنيات مركبة يمكن تشخيصها بانها بداية خبرية بموجهات ايحائية شعرية بسياق وصفي تصف السجن من داخل وعي الشخصية الموصوفة وعلى المستوى الحكائي نرى انها من نوع البداية المتوسطة اذ انها تبدأ من وسط الحكاية رغم التحشيد المكثف الذي يجعلها متأرجحة مع نوع اخر هو نوع البداية المزامنة التي تتمتع بإيقاع سريع وكمية المعلومات الكبيرة
هذه القصة تؤسس خطابا ملونا في لهجة واحدة يجمع بين الهوية الذاتية التي تعني بتعبير ريكور ان الشيء يظل مطابقا لنفسه مع مرور الوقت وبين الهوية المطابقة والتي تعني ان الشيء يعتبر نفسه على ما هو عليه حاليا ((ياسر) مسجون سياسي كل جريمته أنه عبر عن رأيه في بلد يفتقد العدل والحرية)
لكن القصة لا تعتني بياسر من هذه الوجهة انما تنزاح الى تأسيس الهوية السردية التي من خلالها توزع دلالة المكان فلسفيا فالهوية السردية هي (ياسر المتشكل تأويليا) هنا المكان لا يروي حدثا وانما يشخص خبرة الزمن بالوقائع وبذلك يكون السرد (تأثيثا زمنيا للعالم لا يمكن ان يوجد الا من خلال قصصه ورواياته)
تجترح هذه القصة مسافات مختلفة هي ما يشرع لها أن تمارس إجراءات الدلالة الفلسفية للمكان لا بحسبه مطابقا بل مماثلا لأن المماثلة تنتج تعدد التأويل بينما المطابقة هي إحالة على واقعة ضمن مسافة انطباعية ومن هذه المسافات
1- (المسافة الشعرية) التي تقارب الواقعة لأجل اظهار وكشف الوقائع النفسية ويتجلى هذا في المقاطع الجمل التالية (كانت شباك العنكبوت المهملة سريري، والكلمات الساقطة مطري، أتواطأ ببطء مع الصوت على الموت/ فزت بالبراءة حين ضحكت في وجه ألمي/ ومن يهتم لأمرك، لألمك أو حتى ضحكة صفراء تخرج منك/ حتى أصبحت روحي ظلا لجثة هامدة فلا يخلو جسدي من ثقوب الليل والعتمة)
2- مسافة اليوتوبيا التي هي هنا وظيفة استكشاف الممكن والغير متحقق من الأفكار والميول والقيم في الخلاص (أقنع السجان في كل مرة أن صوته عذب لأتوضأ، لكنني فتحت فسحة للشمس بين القضبان/ في ضوئها الرمادي الخافت كنت أرتقب حريتي عبر شعاع من الضوء أو الأمل/ ولا يعيدني للواقع سوى صوت ابنتي يتردد في أذني: بابا أفق من نومك الساعة العاشرة صباحاً.
3- الاقتصار على المسافات الوصفية بما هي انجاز بنائي لا بما هي فائض دلالي (الأكل متعة تساعد على هزيمة هم التوقع وقلق الانتظار/ ثم طبلة الزنزانة يدور فيه المفتاح والباب بصرير مفصلاته الصدئة/ سرعان ما حجبته عنا كتلة الجسد الفارع (السجان). ثم يدفع به في زنزانة شبه مظلمة، الصمت ساكن في حوائطها وسقفها وأرضها الرطوبة
ان هذه المسافات تستثمرها ذات مشكلة تأويليا وبالأخرى هي مسافات بالضرورة تتوافر كي يجد المكان دلالته فلسفيا على مستوى الذات المغيبة (كنت بحاجة إلى معرفة كم مضى من الوقت بي هنا) (والجسد المحطم) طيلة عشرين عاما وعلى مستوى الاخر في لغة هي بالأيدي والصفعات واللكمات والركل بالأرجل ودبشكات البنادق وعلى مستوى الرؤية في فهم هذا العالم
ان هذه الذات هي فهم هرمنيوطيقي بحد ذاته لأن القصة هي انتاج واقعة لا إعادة انتاج واقعة والشخصية هي مفهوم تخييلي يتمثل في التعبيرات التي تحيل على موقعها الدلالي في الهم والوجع والسلوك الإنساني سلبا وايجابا
ان الشخصية هي تحقيق اشكال المفاهيم انزياحا وتأويلا وكل الدوال البلاغية والمنطقية والحجاجية انما تشير للشخصية لا الى الشخص

حيدر الأديب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع