قصة قصيرة/جارنا في مدينة الثورة الحلقة(الحلقة 1 و 2)

145

قصة قصيرة
جارنا في مدينة الثورة
الحلقة الأولى ..
بقلم جبار ال مهودر

ما أن ودعت امي جارتها حتى سمعت ضجةً وضوضاء في بيت (أم كاظم) الذي لا يبعد كثيراً عن بيتنا، شاهدت مجموعة من رفاق المنظمة الحزبية يحيطون بالدار.
وقف كاظم مشدوهاً، وهم يطلبون منه التوقيع على بلاغ للحضور الى دائرة شهادة الجنسية، مستصحباً معه الاوراق الرسمية للعائلة.
فقد تناهى الى سمعه هذه الايام، تسفير كثير من العوائل عبر الحدود الايرانية بحجة التبعية، فأوجس في نفسه خيفةً، وسارع للالتحاق بالمنظمة الحزبية ليدرأ عن نفسه خطر التسفير.
كان جارنا كاظم اربعينياً، ذو قامة طويلة من الكرد الفيليين وجهه مشرب بالحمرة، اتصف بالجدية وصفاء السريرة، يكتسب معاش عائلته من الأعمال الحرة.
شارك جيرانه أفراحهم واتراحهم، وأمهُ امرأة طاعنة في السن تتوكأ على عصا، ترعى أحفادها الذين لم يتجاوز عمر كبيرهم (جواد) التاسعة، تتبعهم بعيونها وهم يلعبون مع الأطفال.

ذات مرة سمعني حفيدها اردد محادثة باللغة الانكليزية، فظن اني اسخر من لهجته المخلوطة بالكردية، فأسرع الى جدته التي جاءت تشكوني الى والدي.

قال لهم كاظم: لقد عشتُ معكم كثيراً، وأنتم اعرف بهويتي وانتمائي، إلا انهم أحجموا عنه، وأخبروه: انهم ينفذون الأوامر من دون استفسار او تبرير، وشعارهم (الله، الوطن، القائد).

لم يَعُد قادراً على التفكير، ولم يبق في نفسه أمل، نسى طموحه، وقضى ليلته تلك يقلبه القلق، وتتقاذفه الهواجس …
أخيراً جاء الصباح قبل موعده، مئات العوائل سبقت كاظم الى دائرة شهادة الجنسية، لإعادة النظر وتقرير المصير.
مرّ الوقت بطيئاً مثقلاً بالألم، تسمرت ساعاته كخيولٍ غرست قوائمها في بركة من الوحل ..
سأله ضابط الجنسية عن عنوانه وأمواله المنقولة وغير المنقولة، ثم طلب منه المستمسكات الثبوتية له ولأسرته.
قال كاظم بعفوية صادقة:
مستمسكاتي حبُ الوطن، وقبور أجدادي في النجف الاشرف.. والدم الذي ننزفه على هذه التربة المعجونة بعرق جباهنا!
اطرق ضابط الشرطة برأسه، كأنه خجل من سؤاله.
اخرج كاظم بطاقة الأحوال المدنية، وشهادة الجنسية، وسند ملكية الدار التي يسكنها.
اعتذر منه ضابط الشرطة قائلاُ: ان الأرض وطن الإنسانية جميعاً، وخير الأوطان ما حملك.
اخرج مظروفاً من جارور مكتبه، وضع فيه الأوراق الرسمية للعائلة وكتب عليه
(كاظم كريم رحيمة الجادري)
وأخبره انهم موقوفون بحكم القانون لتسفيرهم الى الحدود.
اذاً وقع المحذور وسمع ما كان خائفاً من ان يسمعه، وبهذه السهولة قررت السلطة اجتثاثه من جذوره، التي تشده الى الارض التي عاش فيها.
طلب ان يمهله الى يوم غدٍ، ليودع أقرباءه وجيرانه، فأذن له على وجل، خوفاً من ان يشي به واش.
عند الصباح حضر رفاق كاظم بسلاحهم على مرأى الجيران، الذين تجمعوا لتوديع جارهم الطيب.
أقامت نساء المحلة عزاءً داخل الدار، وهنّ يحطن بأم كاظم، ويلعنّ السلطة التي تريد إبعادها إلى الحدود.
اما جواد فقد حفر الارض التي كان يلعب عليها مع أصحابه، وأخذ حفنة من ترابها في صرةٍ، حملها معه الى ارض الغربة، وقيل انه نثرهُ في ارض الدار التي تملّكها بعد سنوات في وطنه الجديد، جاعلاً منها مسجداً طهوراً في صلاته.
تعلقت طفلة من الجيران بزميلتها المسفّرة، تريد الذهاب معها، وسط دهشة رجال السلطة، الذين هددوا بتسفيرها معهم، لولا ان امها التي احتضنتها وحمتها من قسوتهم.
تعالت أصوات الاحتجاج والاستنكار من أهالي المحلة، وهم يلوحون بأيديهم من وراء المركبة التي أقلت المسافرين، مخلفةً وراءها غباراً ملأ الفضاء.
يتبــع الحلقة 2

جارنا في مدينة الثورة
الحلقة الثانية
بقلم: جبار ال مهودر

عشرات العوائل تنتظر تسفيرها في (كراج رقم 1).
شعر كاظم ان البلاء يوشكُ ان يعمهم، والظلام يلفهم في دياجيه الحالكة.
بعد الإجراءات الروتينية طلبوا منه التوقيع ببصمة إبهامه اليسرى على ورقة لا يعلم ما فيها.
كانت المركبة التي أقلتهم الى الحدود من النوع الذي يستخدمه رجال الشرطة في نقل المجرمين.
اذْ حُشرت الى جنب عائلة كاظم، عائلة اخرى ساقها القدر الى المصير نفسه، فيما جلس شرطيان ببندقيتيهما خلف الباب الموصد.
انطلقت المركبة عبر قناة الجيش، تحثُ السير باتجاه المنطقة الحدودية في (زرباطية).
نظر جواد الى الديار التي خلفه، فجمع ذهنه وحشدَ ذكرياته، تراءت له مرابع الصبا، وآثار أقدامه على تراب ساحة الدار، استعرض أسماء أصدقائه، وعلى عجل من سرعة المركبة، شاهد طائرة ورقية لطفل علقت بعمود الكهرباء، سقطت دمعةٌ من عينه لم يستطع حبسها.

هناك في أبعد نقطة من حدود الوطن، توقفت العجلة ليترجل المبعدون، بعد أربع ساعات من السير المجهد.

نظرَ كاظم حوله فلم يجد غير صحراء قفر، ليس فيها ما يستظلون به من حر الشمس وسخونة الأرض، ولا ما يبلّون به ظمأ ريقهم.
أثّرَ هول الصدمة، وترك ديار الأحبة في قواهم، ولم تَعُد أم كاظم قادرة على حمل نفسها.
ظن ان قبورهم ستكون بطون الحيوانات المفترسة، التي تجوب الصحاري.
حاول ان يجد ما يروي ظمأهم فخاب مسعاه.
توجه صوب العلم العراقي، الذي يعلو المخفر الحدودي خلفه، فلمح من يأمره بالابتعاد، لوح لهم بقطعة قماش كان يتقي بها الشمس، فلم يعبأ له أحد، أراد ان يقترب منهم فصوب اليه الشرطي بندقيته.
أشار لهم بيده نحو أطفاله وأمه العجوز… اقترب منه ضابط المخفر، ونصحه بالابتعاد.
أخبره ان امه العجوز والأطفال بحاجة الى الماء.
اجابه ضابط المخفر:
ان الأوامر تفيد بإطلاق النار على كل من يحاول العودة، وان المخفر تحت المراقبة.

سألهُ وهو يحاول ان ينزع الأمل من قلبه: عن الذنب الذي اقترفه؟
ثم ناشده متوسلاً ان ينجد الأطفال والمرأة العجوز.
رَقّ قلب الرجل وقال: سوف أتحمل المسؤولية، ولا أدري ما يكون، أومأ الى جواد ان يتبعه الى المخفر.

وفي خلوة من عيون من حوله، قدم له وجبة طعام، وفاكهة وملأ له وعاء كبيراً من الماء حمله معه، وأخبره ان يأتي ليلاً خفية عند نفاده.

لما عاد جواد الى عائلته، وجد اباه قلقاً لتأخرهِ، وحَسبَ انهم احتجزوه، كما احتجزوا كثيراً من الشباب الذين هجروا عوائلهم.

وجد كاظم أنيساً له في رب العائلة التي أصطحبتهم، فتشا معاً في ما يمكن فعله، وانتهيا الى المضي باتجاه المخفر الإيراني، ما دامت بلادهم لفظتهم ولا تريد عودتهم.
حثوا الخطى نحو مصير مجهول، أجهد التعب ام كاظم فلم تعنها قدماها على المشي، اعتلّت صحتها وثقل جسدها، فحملها ولدها على ظهره وانفاسها تخالط انفاسه.
لم يستمر ذلك الزفير طويلاً، فقد أرهقتها الرحلة الطويلة وشاقتها النكبة، وأحست بوطأة المرض تقعدُ بها.
طلبت من ولدها التريث الى حين، أوصته ان يكون قبرها في أرض الوطن، قبل ان تطأ أقدامها الارض الايرانية.
عند هضبة تشرف على طريق السير المتعب … باتجاه الحدود، ألحد كاظم امه ووضع على قبرها صخرة، اتخذها الجنود موضعاً بين سواتر القتال، ابان الحرب التي اندلعت بعد شهور من تلك السنة.
في الوقت الذي التحقت فيه امُ كاظم بربها، كانت لجنة فرز دور المهجرين تقف عند باب بيتها لتضمه الى دور عقارات الدولة، تمهيداً الى اعلان بيعها في مزايدة علنية …
ذات اليوم مساءً، توقفت امام الدار سيارة موحلة، عليها نعش ملفوف بالعلم العراقي، تنتظر من يحمل الابن الأصغر لام كاظم الذي وصل من الجبهة الشرقية.
حمل الجيران النعش في تشييع مهيب، طافوا به الدار، ثم واروه ثرى الأجداد.

قيل ان الذين سكنوا بيت ام كاظم، ممن تعاقبوا على شرائه، لم يهنأ أحدٌ منهم بالعيش فيه، فقد سُمعت فيه أصوات أطفال يلعبون، وقال اخرون انهم رأوا أم كاظم تهشُ بعصاها على من يعتدي على احفادها وهم يلعبون.

انتهت

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع