قارئة الفنجان

232

لم تكن تلك التي قرات فنجان عبد الحليم حافظ و لم تكن قارئة غيب بل كانت
فناجينها من ماء و ماء ورد، توزعه على بعض المارين ببابها . كل صباح تستيقظ
باكرا و تقف مبتسمة تنظر في عيون المارة لم تكن فناجينها المعطرة متاحة
للكل بل كانت تنتقي ضيوفها و الفنجان لم يكن صدقة او هبة بل كان فقط عربون ود
و محبة . أصبح لها من الرواد الكثيرون الذين أدمنوا ماءها و اصبحت لفناجينها
حكايات و حكايات . هل السر في الماء او العطر او في سكونها او في سحر
نظرتها الهادئة ..
سمعت بها و يا ليتني ما سمعت . كيف لي انا الكافرة بالعرافات و المسكونة
بالسؤال بحثا عن يقين أضاع سبيله كلما اصابه الذهول . كيف لي أن اعدم الشك
بشك آخر اختُزِل في فنجان ماء و عطر ورد .
أغلقت باب الحيرة وسلكت دروبا لا ادرك لها مصيرا. مررت من بابها و بقلبي
لهفة لقاء و سؤال. هل ستغريها هذه المرأة النافرة أم ستشيح بوجهها عني ؟ هل
سيليق بي ماء الورد و الفنجان ؟ و الصبح ، هل سيترك عبوسه و انا بحضرة عرافة
الورد ؟
مدت يديها و عينيها تنظر خلفي تشير إليّ بالاقتراب. ذهلت فالنظرة لم تكن لي
أما الإشارة فصوبي. التفت أبحث عن جواب لتساؤلي فجاء همسها خفيفا لطيفا انتِ
يا من عبرت الي قادمة من هناك .
من أي هناك انا قادمة لقد طُفت حولي كلي و لم أجد الا اللاهناك يتقاذفني
فراغها و يرددني صداها . هل كنت أنا أم ظلي . هل العرافات يخاطبن أطيافنا
؟هل يكفرن بأجسادنا المتشكلة ؟ أم نحن لا نرى منا إلا تلك الكومة التي تتحمل
آلامنا و انزعاجنا و تفاهاتنا و مرات كثيرة تتحمل مسخنا ..

اقتربتُ و اقتربتْ ارتعشت يداي ارتعشت يداها همستْ همستُ .امتلأ المكان ،لم
يعد مجرد زقاق ضيق بحي شعبي يرتاده مارون يبحثون عن أوهام معطَّرة تُصبُّ في
فنجان ورد . تمنيت لو كان بالفنجان مرارة قهوة تخلع عن أحلامي ورديتها و
تلوث زرقة سمائها . لم تعد الزرقة تغريني أنا الغارقة فيّ و في اشيائي الصغيرة
الدقيقة و أمكنتي الضيقة . لم أعد أدري أي لون ساقني إليها و أي ضياء أنشد
شروقه بزاويتي المنغلقة جدا ..
أخذت يدي بين كفيها الدافئتين و بقلبي سؤال ، أي رؤيا لاحت لها هل كانت باردة
ببرودة يدي ام كانت بردا و سلاما … اعادت الهمس “يا ولدي …” ولد ! أأبدو
ذكرا بعينيها و انا الأنثى التي اغوته بقضم تفاحة ملعونة و نزلنا معا إليها
.نظرت إلى الفنجان ثم إلى قارئته كانت تخاطب
الفراغ بداخله لم أكن هناك و كلامها لم يكن لي . بحثت في قاع الفنجان عن
قرينها أو قريني
لم اجد الا الفراغ الذي صاحبني و لازال . لم تهتم بحيرتي او برعشتي بل أكملت
حديثها “يا ولدي لن تموت شهيدا . ..” يااه لماذا تنْحل المعنى و المعنى بقلب
الكلمة أسير .
هل اختلطت الصورة بالروح و اصبحنا شخصا واحدا في قلب الرؤيا لماذا تفضحنا
الفناجين . و هل من أدمن العشق لن يموت إلا شهيدا .
تذكرت ان بالقلب قلبا آخر و أن بالفكر فكرا آخر و اننا تعاهدنا على التحام
أزلي و ان الوقت مجرد عبث و الحقيقة لا ندركها الا نحن الاثنان .
و ما لاح بالفنجان لم نكن الا نحن ” الواحد” من منا سيموت شهيدا و من منا سيظل
على اثر الذكرى و تذكرت ان الولد انت و الشهادة لن تكون إلا لي انا تلك الانثى
التي أضاعت أحلامها حين نفختَ بكفيها فرحا يخشى كل صبح قادم بسر ملغوم .
يا ترى اي سر بقعر الفنجان و اي مجهول ينتظرني هناك .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع