حوار بين الصّحفيّة وحيدة المي والرّوائي حسن سالمي

211

الكاتب حسن سالمي: لا يمكن لرواية واحدة أن تقول كلّ شيء…
حوار بين الصّحفيّة وحيدة المي والرّوائي حسن سالمي/تونس

فاز هذه السّنة بجائزة توفيق بكّار للرّواية العربيّة، يعكس الحياة في كتاباته بكلّ تناقضاتها ويحاول نقل عدسة السّرد إلى المواضع والأماكن المعتّمة. يسعى إلى التّجديد، ينتصر لمبدأ الاختلاف ويستثمره جماليا ودلاليّا، ويرى أنّه على الكاتب اليوم التّفكير بجدية في استعادة القارئ الهارب… الكاتب حسن سالمي جمعنا به هذا الحوار:

أجدّد التهاني بفوز روايتك ” الطيف” بجائزة توفيق بكار للرواية العربية.
شكرا أستاذة وحيدة على هذه التهنئة اللّطيفة وشكراعلى هذه الفرصة للحوار.
حرصت في هذه الرواية المتوّجة على التجديد من حيث التقنيات والآليات الفنية وتعدّد الأصوات، هل التجديد توجه ذاتي أم هو نتاج اطلاع على التحوّلات في الرواية العالمية؟

الرّواية هي بنت عصرها وسابقة له أحيانا، لكن لا يمكن أن يُكتب لها البقاء لو كتبت بشروط عصور سالفة. يمكن أن تستفيدمن الإرث السرديّ الكبير في العالموتهضم تجاربه العميقة على نحو ما. بيد أنّ التصاقها بواقعها الرّاهن ضمن دوائره المتشعّبة والمتداخلة، يفرض عليها أن تقوم على نظام أشبه ما يكون بالنّظام الذي تقوم عليه الدّول المتقدّمة. تقطع مع نظام الاستبداد والتعسّف وانحصار الفعل في جهة واحدة وتبشر بنظام جديد يقوم على التعدّد والموازنة بين مكوّناته،ويؤمن بحقّ الاختلاف وواجبه معا…في كلمة، التجديد في الكتابة على ضوء مبدأ التعدد، هو موقف ورؤية تنبع من ذات الكاتب أوّلا وقد تلتقي مع التجارب الأخرى في العالم.
هناك اشتغال كبير في روايتك على التّنوّع والتعدد في الشخوص والأحداث والمكان والزمان، ما الذي أراد حسن سالمي الكاتب قوله من خلال ذلك؟
عندما نتأمّل الكون من حولنا ونتأمّل مظاهر الحياة… سريعا ما نكتشف أنّ التعدّد في الأنواع والأجناسوالألوان والأشكال والأحجام والمسافات والأبعاد والأصوات والرّوائح والطّعائم ونحو ذلك هو قانون محوريٌّللكون يحفظ توازنه وتماسكه… كذلك عندما نتأمّل أنفسنا: مختلفون في كلّ شيء. سواءً من حيث الخِلقة أم من حيث الفكر والهوى والميل والمعتقد وما إلى ذلك… ما أريد قوله أنّ الاختلاف سنّة كونيّة كبرى، عندما تعسّف عليها الإنسان جنى على نفسه وحوّل تاريخه الى سلسلة فظيعة من الجرائم والمظالم. مهمّة المبدع أن ينتصر لمبدأ الاختلاف على طريقته وينزّله في نسيج العالم الذي يصنعه، ويثبت لنفسه ولغيره أنّه قادر على استيعاب المختلف ومن ثُمّ استثماره جماليّا ودلاليّا.
رغم الحرص على التجديد البنيوي والتقني لروايتك إلا أنّ مشغلها سرديّا أو تمثّلك للحياة لم يخرج عن هموم ومشاغل التونسي ما قبل الثورة وبعدها، ألا ترى أن التجديد يجب أن يكون شاملا أي شكلا ومضمونا؟

لا يمكن لرواية واحدة أن تقول كلّ شيء. هي تراهن على منطقة ما وتحاول أن تسلّط عليها الضّوء بما يخدم أهدافها. وأن تشتغل رواية الطّيف على هموم ومشاغل التّونسي فلا يعني أنّها فوّتت عليها فرصة توسيعدائرة تجديدها الى الحدّ المأمول. عندما خلَقَتْ نماذج تونسيّة هي في الحقيقة تعبّر من خلالها عن مشاكل وهموم الشّعوب العربيّة التي مرّت بزمن الاستبداد، ثمّ فاجأتها الثورة وما انعكس عنها من ردود أفعال ومواقف متباينة. وأمام القضايا الحارقة التي طرحتها اشتغلت على شكل النّص الذي يلائمها ويلائم شخوصها. وهذا الشّكل أزعم أنّه راهن على التّجريب الى الحدود القصوى الممكنة، ولا يسع المجال كي نأتي على مظاهره.

كيف يمكن للكاتب أن يتحرر من مسألة التجنيس الإبداعي ولا يغيّب روح النص وهويته سواء كان رواية أو قصة؟

تلك هي المعادلة… أمام التّحديات الجمّة التي تنتصب في وجه الرّواية، خصوصا قدرتها على منافسة طوفان الصّورة ووسائل التّواصل الاجتماعي ونحوهما، فإنّه توجّب تغيير قواعد كتابتها والتّعديد من منابع استلهاماتها. لقد أضحت الرّواية ملتقى لفنون شتّى وطرائق تعبيرية مختلفة من كلّ العالم. التّحدّي كيف تتعامل مع تلك الأجناس المفارقة لهويّتها وتحسن هضمها دون أن تذوب فيها؟ كيف تخرج من تلك الخلطة العجيبة دون أن تفقد هويّتها وما يمكن أن يميّزها من غيرها. المسألة دقيقة وحسّاسة جدّا. وأعتقد أنّ السّرّ يكمن في التمييز بين الثّوابت التي تضمن القدر الكافي من هويّتها والمتّحوّلات المفتوحة على آفاق الجمال وأشواق الفنّ.

تصر من خلال كتاباتك على حماية الهُويّة العربية من الذوبان وتنتقد الأعمال الرغبة في تحقيق النجاح على حساب القيم والمبادئ… ألا ترى أنك تضعنا أمام معادلة صعبة وتزج بالإبداع في الأحكام الأخلاقوية؟

أختلف معك في هذه النّقطة. أوّلا، لا يمكن الحسم بهذا الرّأي القاطع إلّا إذا أحطت بتجربة حسن سالمي ككل، ليس إلى حدود هذه اللّحظة فقط بل يجب أن تمتدّ الى كلّ المسيرة والتي لم تنته بعد. ثانيا من خلال الأعمال التي كتبتها ونشرتها والتي لم أنشرها بعد صنعت نماذج من الشّخصيات مختلفة في السّلوك والموقف والرّأي والفكر والانتماء والمنشأ من دون أن أسقطها في النّمط الواحد المكرور. وأزعم انّني وقَفت منها جميعا مسافة واحدة. ولم أجعل منها ظلّا لي. صحيح أن ذاتي تتسّرب أحيانا هنا وهناك ولكن المبدأ الغالب هو انعكاس الحياة على صفحات ما أكتب، والحياة كما أسلفت تقوم على التّعدّد والاختلاف في كلّ شيء. فضلا عن أنّ محاولة نقل عدسة السّرد دائما الى الأماكن والمواضع المعتّمة دون اعتبار للأحكام الأخلاقوية لأنّها نسبية تماما.

ألا ترى أنه أصبح من الضروري أن يغيّر الكاتب طريقته في الكتابة وأسلوبه في ظل مغريات عديدة قلّصت من أفق انتشار المكتوب الورقي؟
الحقيقة لم يتقلّص انتشار المكتوب الورقي فقط لأنّ الكاتب لم يغيّر من قواعد اللّعبة. والدّليل أنّ كثير من الأعمال الجيّدة التي راعى فيها كُتّابها هذا الجانب انحصر انتشارها فقط في جزء ضئيل من النّخبة. في حين لم تصل الى البقيّة الباقية والاختصار على أنّها مجرّد أغلفة على صفحات الفيسبوك… المشكلة أكبر بهذا بكثير. وعموما على الكاتب من جانبه أن يتنبّه الى هذه النّقطة المهمة ويجعل نصب عينيه كيفيّة إعادة الجماهير الهاربة من الكتاب الورقي وشدّها على نحو ينافس فيه جمال الصّورة والعوالم الافتراضية ووسائل التّواصل الاجتماعي مع مراعاة نمط عيش الانسان الجديد والضغوط التي يتعرّض إليها.
إذن كيف نعيد ترميم علاقة التونسي المعطوبة بالكتاب؟
سؤال كبير وصعب. ولا يمكن لبضعة أسطر أن تفي حقّه في الإجابة. لكن يمكن القول أن يساهم كلٌ من موقعه في حلّ هذا الاشكال. ابتداء من المناهج والبرامج التربويّة وتشجيع النّاشئة ومحاولة تعديل علاقتها بالحواسيب والهواتف الجوّالة، فظلا عن افساح المجال للكتاب والمبدعين في وسائل الاعلام المسموعة والمرئية بعد أن احتلّتها وجوه لا علاقة لها بالثقافة… بالإضافة الى مراجعة طرق النّشر وتطويرها وفق دراسات علميّة والخروج بالكتاب الى العالم الرّحب دون سجنه في الرفوف والمخازن.
كتبتَ القصة والقصة قصيرة جدا والرواية والنقد. ألا ترى أن التعدّد يؤدي إلى التشتّت؟
دائما يوجد شيء ما لا يستطيع ان يقوله هذا الجنس أو ذاك. ثمّة من يصمت عن أكثره ويحوّله إلى مجرّد حديث في المجالس مكتفيا بما استطاع جنسه الادبي من استيعابه. وثمّة من يُوهَب طرق القول فيجعل منها خزائن جميلة لمشاغله الإبداعية وقضاياه الحارقة. لا أعتبر ذلك تشتتا بل ميزة تثري تجربته وتنضج رؤيته الى الكتابة… فضلا عن هذا الاشتغال المتعدّد في طرق التعبير تأتي به سياقات خاصة تعترض الكاتب في حياته وليس له إلّا أن يلبّي.

صرحت في حوار سابق “ما ابتلينا به هو ظهور طبقة من الكُتَّابِ لا تقرأ كثيرا. والنّتيجة هي نصوص متعثّرة مازالت تحمل وهن البدايات “… نقرأ موقفك بين القسوة على الأقلام الجديدة والتعالي، ما رأيك؟
محدثّك أبعد ما يكون عن التّعالي. أنا صدعت بالحقيقة من وجهة نظري ونتيجة لما استقرّ في ذهني من تجارب عاينتها شخصيّا. وما دفَعني لهذا الموقف الذي وسمتيه بالقسوةإلّا الغيرة على الرّواية والكتابة عموما. انظري إلى حال الشّعر كيف أصبح بعد أن دخل عليه من ليس منه، ومن اقتصرت همّته على تسويد البياض دون أن يفوِّتَه إلى منازل الإبداع الحقيقيّة. انحصرت دائرته انحصارا شديدا، وكثير من دور النشر عزفت عن طباعته لكساده في السوق، وحينما يقام له مهرجانا لا يحضر فيه إلّا القلّة القليلة. ذلك أنّ الكثرة الكثيرة التي لم تمرّ بغربال النّقد أعطت صورة للمتلقّي على أنّ الشّعر كلّه أصبح رديئا… والحق أخشى على الرواية من هذا المصير. وللعلم فإنّ الكتّاب الذين لا يقرؤون لا أعنى بهم الأقلام الجديدة حصرا. فمن هؤلاء تجارب على حداثتها غاية في الأهميّة وأمامها الوقت كي تنضج وتأخذ المشعل عن جدارة.

انت بصدد كتابة ثلاثية “المحاق” في شكل مجلّد،والحال أن الإطالة لم تعد اليوم من سمات الكتابة الروائية، ما الدّاعي لذلك؟

لقد وضعت يدك على الجرح. عندما كتبت المحاق كتبتها بمعزل عن ظروف النّشر وعن القارئ. تركتها تنساب تلقائيّا في سبع سنوات كاملة. ولقد استنزفت منّي وقتا وجهدا وقلقا. لكنّي لم أتركها حتّى استوت على سوقها… وقسّمتها الى ثلاثة أجزاء في ألف صفحة. المفاجأة هي أنّني اصطدمت بالواقع بعد ذلك. اصطدمت بظروف النّشر سواء من حيث جديّة انتشارها أو من حيث كلفتها أو من حيث ذهابها إلى ناشر يأكل عرقي ويحتكرها لنفسه بضع سنين مع الدّفع من جيبي مسبقا! حتّى المسابقات كان حجمها الكبير عائقا أمامها. فمن هي اللّجنة التي تصبر على قراءة ألف صفحة كاملة؟ !… بعد سنوات أخرى أعدت الاشتغال عليها وتعاملت معها بصرامة كاتب القصّة القصيرة جدّا، ولكن بحذر شديد ووعي شقيّ. فالمهمة كانت صعبة للغاية… المهم صارت اليوم في جزئين في حجم مقبول ولكن ما زالت تنتظر حظّها في النّشر…

من هو حسن سالمي؟
حسن سالمي أديب تونسي من مواليد 1971 بتوزر. صدر له: “التيه” (مجموعة قصصيّة) /”البدايات” (رواية)/”زُغْدَة” (مجموعة قصصيّة) /”الدّماء لا تنبت القمح” (قصص قصيرة جدّا) /”مأدبة للغبار” (قصص قصيرة جدّا) /”الإشارات” (دراسات نقديّة) /”الطيف”(رواية).
له في انتظار الطبع: “المحاق” (رواية في جزئين) /”غوانتانامو ” (رواية)/ “أرض الزّعفران” (رواية للناشئين) /”وطن وضباع”(رواية للناشئين).
شارك في عدد من المسابقات وفاز بعدة جوائز منها جائزة توفيق بكار للرواية العربيّة هذه السّنة، عضو باتحاد الكتاب التونسيين وأمين مال جمعيّة مداد للقراءة والكتاب…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع