الشكوى لم تعد تنفع.. لغير الله

177

الشكوى لم تعد تنفع.. لغير الله
إيناس ثابت – اليمن

مرآتي يا مرأتي هل تخبريني، من هي أجمل فتاة في الحيّ؟ قالتها ويدها تمسك بمرآتها ووجهها ينعكس على صفحة لامعة ذهبية الأطراف مستطيلة الشكل، مليئة بالنقوش والزخارف على الحواف، تبدو عليها قسمات وجه لم يغب عنه الجمال، فيرضي العين ويرفع نبضات القلب؛ المرآة التي اشترتها من سوق العتقيات بسعر بخس.

تحسست وجهها بأطراف أناملها، وتأملت أنفها الجميل وشفتيها الممتلئتين. لكن بعض خصلات بيضاء، بدأت تشتعل في شعرها الأسود. دققت النظر في وجهها وإشارات تثير القلق بدت حول عينيها، وخشيت أن يهرب منها الزمن، بفعل الأيام والليالي الطويلة التي انقضت، وبدأت التجاعيد الخفيفة تغزو وجهها وتزحف إلى عنقها، فتنهدت بعمق لتسرقها الأماني إلى أعماق نفسها، وما فات من عمرها القاحل ولم يأت أميرها بعد ليخطبها.

كانت تسبح في الأحلام الهاربة، إلى كوكب الحب وأرض الخيال. حيث كانت تتمنى لو خُلقت أميرة في قصر منيف، حيطانه من خشب الورد مزدانة بالرسوم الملونة، من الأشجار والأنهار، وسقفه كأساطير أقمار الزمان.

ثم يأتي ويركع أمامها أمير وسيم، رسم الله ملامحه بعناية، وقد تخلى عن إمارته كرمى لعينيها المكحولتين، يردفها وراءه على حصان مطهم أبيض، يطوف بها العالم في رمشة عين. أو صاحب عربة مذهبة يستقبلها فاتحا لها قلبه وذراعاه، كسندريلا حلم الفتيات، بل يكفيها أن يكون رجلا شهما ومتواضعا فحسب.. وهذه آخر الأحلام.

في رحلات أحلامها؟ لم تعد تنقب عن الرفاهة ونعيم الذهب والماس، بل عن طيف نفس من أرض خبزها الأمان. فلم يعد يعنِي لها ترف الحلى والثياب، كل ما ترجوه حبا صادقا إذا ملكته؟ كأنما نالت الفردوس وارتاحت من شدة المعاناة. هكذا أقنعت نفسها: فهل ينقلب خيط أملي إلى حبل غليظ يطوق عنقي بالأوهام؟ لماذا ياربي خلقتني أنثى ولم تعطني ما أشتهي، وتركتني في أرض بوار؟ لا ينبت لي رجاء في رجل يحبني ويحميني من غدر الزمان.

زمّت شفتيها وخبأت مرآتها في الدرج، وشردت تراقب الشارع متكئة على حديد النافذة، حين تناهى إلى سمعها صوت والدتها، تذكرها بشراء حاجات المنزل من الطعام. بدلت ملابسها ودست النقود في حقيبتها. وعند مغادرتها مرت بها جارتها في الطابق العلوي، سيدة جميلة ترتدي فستانا أنيقا، وتضع بلا تكلف مساحيق الزينة على وجهها الجميل، ورائحة طيب تتردد من جسدها وطيات ثوبها، فابتسمت لها ثم لوحت بيدها وتجاوزتها بهدوء.

ألقت نظرة على ملابسها، وهي ترتدي قميصا بنيا داكن اللون وبنطالا أسود، وجهها بلا مساحيق، وشعرها منهدل إلى الخلف، فاستدارت وعادت أدراجها إلى الداخل، وراحت تطالع وجهها في المرآة. رباه؛ لِمَ لَمْ يكن حظي يوما كبقية النساء! ما هذه الألوان القاتمة التي تلف جسدي! ثم فتحت الخزانة واختارت قميصا أصفر اللون. هو أفضل ما عندها من ثياب، فارتدته وتركت شعرها يستريح على كتفيها، وتناولت أحمر الشفاه خلسة من غرفة أمها. كان جافا لم يستخدمه أحد منذ وقت طويل، لكن لم يزل فيه رمق من الطراوة واللون. خجلت أن تراها أمها فألقته في الحقيبة، وفي الخارج رشت عطرا خفيفا على عنقها، وطبعت الأحمر على شفتيها ودلكتهما بلا مرآة.

راحت تسير في الشارع دون أن يلتفت نحوها أحد، كانت تقول في سرها: لعل اليوم مختلف عما سواه..!؟ وهكذا دخلت المتجر واشترت ما تحتاجه، ثم غادرته مصابة بخيبة أمل. لكنها كانت قد اتخذت قرارا بالاهتمام بنفسها وتغيير مظهرها، فليس من أنثى في نظرها أفضل منها؟ ماذا تزيد عنها سلمى ومنى أو ليلى.. وكل النساء؟!

وضعت ماتحمله من أكياس مؤونة ثقيلة على الأرض لترتاح، عندما أبصرت رجلا يتجه نحوها هادئ العينين باسم الثغر والشفتين، فرقت لمبسمه ورجف قلبها بين أضلعها. تهيأت؛ ورتبت ياقة قميصها حتى اقترب منها ووقف قيد خطوة إلى جانبها، وقال لها بوداعة وتهذيب: هل تسمحين لي يا سيدتي أن أساعدك في حمل الأكياس؟

يا لمعجزات الأنبياء! حدث ما كانت ترجوه وتتمناه. هذه فرصتها قد أقبلت ولا ينبغي أن تفلت منها. تظاهرت بدور المعترض لوقت يسير، فأمانيها تكاد تتحقق في حساب حظها اليوم. ترددت قليلا ثم حركت له رأسها بالموافقة. ومشيا جنبا إلى جنب وهو يقول لها: كنت أراقبك كل يوم وأنت تغادرين المنزل حتى تعودي، فهل تعيشين بمفردك؟

ابتسمت في داخلها وأدركت أن الرجل لم يكن يراقبها، بل كان يلاحقها ويهتم لأمرها. سرحت بعيدا في فكرها وقالت لنفسها: ما كنت أبحث عنه صار بالقرب مني، يراقبني ويمشي إلى جنبي. لماذا يا ترى لماذا لم يجمعني به حظي العاثر قبل اليوم؟ وأجابته ببعض التحفظ والخجل: لست وحيدة يا سيدي فأنا أقيم في المنزل مع والدتي. ثم أكملت بصراحة: هي سيدة كبيرة السن ثقيلة السمع لا تمشي، قليلا ما تغادر المنزل أو تغادر الكرسي المتحرك.

سكتت قليلا ثم تشجعت وسألته: من أنت يا سيدي وهل تقيم معنا في ذات الحي؟ لم أرك هنا قبل اليوم؟ ربما قدمت حديثا يا سيدي؟ قال لها وهو يشير إلى دارة فخمة، ذات باب عريض وفناء واسع للغاية: هذا هو بيتي يا سيدتي. ردت عليه بتعجب: لكن هذا المنزل لأبي مريم!؟ وذريته الرجل من البنات كما أعرف ولم أسمع أن له ابنا شابا؟

توتر قليلا وازدرد ريقه وقال: هي بعض المشاكل الأسرية أبعدتني عن المنزل لسنوات طويلة. ارتبكت قليلا وخرج صوتها متقطعا: أعتذر منك فمعرفتي بهم بسيطة للغاية. خف توتره قليلا وبدا مرتاحا وفي حال أفضل.

هكذا وصلا معا إلى المبنى حيث تقيم، وأبت عليه شهامته أن تصعد بالأكياس بمفردها، فأصر عليها أن يحملها حتى المطبخ. ارتجفت يداها وارتفع وجيب قلبها، وتردد صوت الآه في صدرها وراحت تفكر: ربما أراد معرفة أي طابق أقيم فيه، ليتقرب مني وربما ليأتي ويطلبني؟ ولو حدث ما تمنت؟ لوافقت بلا تردد. فقد مرَّ سحره على روحها اليائسة، وتحيرت فيه أهو هدية السماء في يومها بل في حياتها كلها؟ ثم أومأت برأسها إشارة بالقبول.

صعدا الدرج وكانت تتقدمه ويسير خلفها، حتى وصلا إلى باب البيت وقلبها يخفق ويعانق قلبه، وعيناها تتوسلان ابتسامته، وفي الداخل راح يراقب بخلسة ملحوظة تفاصيل البيت الصغير. أوصل لها حمولتها ثم انصرف وهو يبش لها ويهمس في أذنها عن إعاجبه بالصدفة السعيدة، ويحدد لها موعدا للقائها في الغد في ذات المكان.

زلزل الوعد كيانها وراودتها الأماني وتجددت الأحلام، وحلق قلبها فرحا بهذا اللقاء. غنت ورقصت ليلها وراحت تعاين شكلها في المرآة الصغيرة، تلك التي اشترتها من سوق العتقيات بثمن بخس، وتردد في نفسها: مرآتي يامرآتي يا سر بسمتي وسعادتي؟ الأجمل في الحيّ هي التي صبرت ولاقت. فمن تكون سعيدة الحظ غيري؟

انقضى الليل مملا طويلا تفيض فيه الأماني ويتجدد معه الأمل. تركت رأسها يستريح أو يتعب على وسادة الأحلام، لتمضي الساعة تلو الساعة ببطء وهي تحلم في حضرة الانتظار. ليست في يقظة أو منام، كان كل همها ينحصر في لقاء الغد، حيث ألقى النور في قلبه على حواشي قلبها في الظلام. حتى أنساها وجوده أن تسأله عن اسمه!

انقلب عالمها الصغير رأسا على عقب، في كون بعيد المدى شديد الاتساع. وأحلام راودتها طوال الليل. باتت الحقيقة مجسدة بين كفيها في ظلام الليل، ومنديل حرير يمسح على قلبها وعينيها ويبرد لوعة الانتظار. وأتى الصباح المنشود، فاستقبلت الدنيا بنفس رحبة، كسماء الله الواسعة وانبعثت الحياة في شراينها من جديد.

كان حسنا سماويا تنزّل عليها ومسح على وجهها آيات الجمال، فاشتعلت عيناها بالبريق وفاض خداها بلون الورد، وأضاءت في نفسها شمس النهار. أطبقت جفنيها على صورته لتتذكر تفاصيله. هكذا انبعثت الحياة من جديد في أوصالها، وانتعش جسدها بروائح الورد والريحان، وتسربت من شفتيها الأماني لتروي فمها الظمآن.

وضعت قليلا من أحمر الشفاه، ولم تبالغ في رش العطور. لكنها انتعلت حذاء مرتفع الكعب، واستطلعت صورتها وقميصها الأصفر في المرآة، التي اشترتها من سوق العتقيات بثمن بخس: مرآتي يا مرآتي؟ أرأيت كيف سكبت الدنيا حلاوتها، في تفاصيل وجهي وقسماتي وجسمي؟ فالله لم يخلق أبهى وأجمل مما خلقه من صورتي فيكِ!

غادرت المنزل بحجة شراء لوازم البيت، وانتظرته بلا ملل حتى فات الوقت. لكنها بقيت تنتظره بإصرار في ذات المكان. تأخر عن موعده كثيرا لكنها انتظرته حتى دهمها اليأس، وأهلكتها آلآم قدميها الواهنتين. فاستسلمت للواقع المر وقد أنهكتها الخيبة وطول الانتظار. وحينما انقطع أملها حملت أكياسها وعادت أدراجها إلى البيت.

صعدت الدرج تلهث من شدة التعب، وما لاقته في يومها من العناء، لتجد باب الشقة مفتوحا على مصراعيه. دخلت تنادي والدتها لكن أمها لا تسمع بطبيعة الحال. مضت إلى الداخل فلم تر التلفاز في مكانه، فراحت تفتش عن علبة الحلي والمال القليل؟ فإذا بالعلبة قد اختفت مع المال والحلي والتلفاز. والشكوى لم تعد تنفع.. لغير الله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع