التجربة الصوفية في الشعر الجزائري النسوي المعاصر

قراءة في نماذج:ديوان مرايا زرقاء أروى الشريف - ديوان أهازيج الروح صباح لخضاري

548
التجربة الصوفية في الشعر الجزائري النسوي المعاصر 
– قراءة في نماذج:
ديوان مرايا زرقاء أروى الشريف – ديوان أهازيج الروح صباح لخضاري
فردوس منصوري

مقدمة :

        تعتبر التجربة الشعرية الصوفية تجربة فريدة ومميزة تسمو بالمشاعر وتعبر عن تجربة روحية تعبيرا صادقا فهي مجموعة من التجليات الوجدانية المؤيدة بأطوار روحانية يسلكها جملة من الشعراء الذين يجتازون مرحلة الزهد في مراحل تتدرج حتى تبلغ بهم مدارج السالكين الواصلین.

       تميزت التجربة الشعرية في الشعر الجزائري النسوي المعاصر بجمالية اللغة وتنوع الأساليب وثراء المعاني، فقد عرفت الشاعرات الجزائريات التصوف ومدلوله الروحي والأدبي، وسعت إلى توظيفه في أشعارهن والتعمق أكثر في دلالاته و إيحاءاته و رموزه من خلال تجربتهن المتميزة، ومن هؤلاء الشاعرات؛ الشاعرة ” أروى الشريف* ”  والكاتبة ” صباح لخضاري*

فما هي السمات الصوفية البارزة في أسلوب كل من أروى الشريف وصباح لخضاري ..؟

أولا: تجليات صوفية عند ” أروى الشريف ”

  • تقديم الديوان: ” مرايا زرقاء ” للشاعرة ” أروى الشريف “:

        صدر ديوان ” مرايا زرقاء ” للشاعرةأروى الشريف ” عن ” دار الروح” بقسنطينة، سنة 2013، يتألف الديوان من” 32 ” قصيدة في ” 107 ” صفحة من الحجم المتوسط؛ من تقديم الشاعر والمترجم والناقد ” جلال جاف ” ،

         يتميز الغلاف بتقسيمه لثلاثة أجزاء: الجزء العلوي بلون أزرق سماوي يتوسطه اسم الكاتبة ، ثم يأتي العنوان في منتصف الصفحة تماما بلون أزرق وبخط واضح وعريض، مع صورة للطبيعة وصحراء الآهقار ، ليغوص الملاحظ للغلاف للحظة في عمق البيئة الصحراوية ومدى امتزاج الخلفية مع العنوان مشكلة خلفية صوفية بامتياز ، تسلب تفكير القارئ وإلهامه وتغوص بمخيلته إلى مدى توافق زرقة العنوان مع دلالاته ومع زرقة جبال الآهقار وامتزاجها بالرمال الذهبية ، لترسم لوحة صوفية تعكس عمق الطبيعة الصحراوية ..، وعمق الفكرة أو التوجه الفكري للكاتبة ..

  أما خلفية الكتاب جاءت بلون أزرق تحتوي على سيرة مختصرة للكاتبة..

      تبدأ رحلة الشاعرة بالغوص في بحر من الإشارات الصوفية والدلالات التي تعكس مقامات ومرايا اللون الأزرق من سماء وماء و جبال ” أهقار” تتفجر منها نواة الإبداع والخيال البعيد المدى، إذ تتمكن من تطوير أدوات الكتابة بلغة شعرية زرقاء معتمدة على تقنية ” التناص” مع نصوص تؤثث لخطاب سردي بحيث يمكنها من ابتكار لغة نثرية لا تقوم على الإبلاغ والإخبار بل على زخم ووهج صور شعرية جديدة تنبع من عناصر الزرقة ” الصهيل ، البريق ، دم الحريق “، حتى تتناسب مع موضوع كل قصيدة شعرية التصوير والإيحاء (1).

 كما لا تعطي الشاعرة تفاصيل عن الرجل و لا تكتب بدلالات الجسد لأنها اختارت لغة القداسة الشفيعة لروح الحبيب.  لرسم معالم حلم يضيء مسارات هي مقامات الروح  المتصوفة التي تشع زرقة و نورا ..

تركز الشاعرة على تشكيل فضاء النص مستلهمة ” العناصر الزرقاء” من بيئتها لتبعث الواحات من صمتها بألوانها الذهبية و تحولها إلى ألوان البحر و السماء وتمزج ألوانها الصحراوية بحميمية المشاعر و تنقل العرش إلى عرش الإنسان الأول حيث يكون الماء عنصر التكوين الأول وتلقي الضوء على رموز تجردت من بيئتها البكر(2)..

     و من الضروري الإشارة إلى أن الديوان مقسم إلى مجموعتين من النصوص الشعرية ترسمان تفرد عملية الكتابة عند الشاعرة بكونها رحلة داخل کون ضاج بانزياحات وصور لكل واحدة منها نمطية كتابة و إبداع تختلف باختلاف الإشارات النصية و الدلالات مما يدفعنا للقول أن عملية ” الفرادة ” عنصر أساسي في كتابة الشعر كخاصية تنفرد بها مدرسة الزرقة. استطاعت الشاعرة كتابة الديوان على أساس بناء فني هو آلية خلق و إبداع تتم في انحناءات حركة الإنتاج أي أن عملها يكتسي طابعا شعريا يكشف عن الحركة الباطنية لروح الأشياء الزرقاء وعمقها كتفجير ل ” نواة ” الشعر التي تتشبع بروح الزرقة وعمقها عند الشاعرة هو ارتباط وجداني وروحي بالأماكن، فتتجلى لغة شعرية خاصة لا تهب نفسها إلا لقارئ حريص (3)

  • سيميائية العنوان – صوفية العنونة – ودلالة اللون الأزرق:

العنوان مصطلح إجرائي ناجع في مقاربة النص الأدبي، و مفتاح أساسي يتسلح به المحلل للولوج إلى أغوار النص العميقة قصد استنطاقها و تأويلها(4).  وهو عبارة عن عتبة من عتبات النص، و مفتاح من أهم مفاتيحه، و هو بمثابة هوية النص..

لذا يعد العنوان نظاما سيميائيا ذا أبعاد دلالية، و أخرى رمزية، تغري الباحث لتتبع دلالاته، و محاولة فك شفراته الرامزة(5)، بغية استجلاء المفاهيم النصية المتراكمة داخل الحيز النصي.

و كذا لكونه أولى عتبات النص التي لا يجوز تخطيها، ولا تجاهلها، إن أراد القارئ التماس العلمية في التحليل والأقة في التأويل، فلا شيء كالعنوان يمدنا بزاد ثمين لتفكيك النص و دراسته، و هنا نصرح إنه يقدم لنا معرفة كبرى لضبط انسجام النص، و فهم ما غمض منه(6).

و في محاولتنا للوقوف على تجليات اللغة الصوفية في شعر ” أروى الشريف ” استوقفتنا قضية العنونة باعتبارها مؤشرا هاما في إضاءة عوالم النص و خفاياه ،

يظهر ديوان “مرايا زرقاء ” احتفاء خاصا باللون الأزرق؛ انطلاقا من العنوان.. ووصولا إلى توظيفه في قصائد الديوان؛

ما يجعلنا نطرح تساؤلا مهما، ما دلالة ” اللون الأزرق ” في الديوان ؟

لصوفية العنونة أهمية كبيرة في الكشف عن مدى علاقة عنونتها الصوفية بصوفية قصائدها ؛

      حيث يطرح عنوان هذا الديوان أسئلة متشاكلة بين نصوصه التي تنقسم إلى مجموعتين شعريتين، وجهت الشاعرة خطابها الشعري كنبع جمالي من آلية المكاشفة البصرية بين مرايا اللون الأزرق وموجهات النص، تجربة الشاعرة ” أروى الشريف” تقوم على أساس انعكاس اللون الأزرق في مرايا النصوص التي تتوسع بتأثير فعل ” اللون الأزرق” مسهما في تفعيل مسارات جديدة لإثارة الصور الشعرية السحرية في ذاكرة المتلقي، لذا فان لشعرية “الزرقة” أهمية معقدة ذات طابع إشكالي، كونها ترتبط بالتراث العالمي في أنساق التعبير و الإيحاء و هنا تكمن صعوبة اللغة المستعملة وكيفية تصوير وإبداع لون أزرق يطفو على كل النصوص(7)..

وإذا كان الشاعر الأزرق ” جلال جاف ” يشير إلى مفهوم الزرقة بمعناه العام كمدرسة شعرية: ” مدرسة الشعر الأزرق ” ، فإني أراها نوعا ما ” فلسفة خاصة ” ، ذلك أن المدارس الأدبية تشترك في مفهومها على أنها نتاج أدبي يتميز  بمجموعة من المبادئ الجمالية والفنية والفكرية ، وإن كانت شعرية الزرقة تتناسب مع هذا التعريف ، إلا أن مصطلح الفلسفة أبلغ وأوسع فالفلسفة بطبيعتها غير محدودة الفكرة تتقبل عدة جوانب وتأويلات، وكذلك الزرقة التي لمسناها في شعر ” أروى ” لا تقتصر على فكرة معينة بل تأخذ فكر القارئ إلى جو آخر من الإلهام والتخيل وتغوص بفكره في بحور إبداع لا متناهية، ليجد القارئ نفسه في عالم خاص بعيدا عن العالم الكائن ..

كما أن المدارس الأدبية تقتصر على زمن معين و تبدأ بالتلاشي بمجرد ظهور مدارس أخرى، في حين أرى أن شاعرية الزرقة قادرة على التغلغل في شتى الأنواع الأدبية باختلاف أزمنتها . كما يمكن أن تتبنى هذا النوع من الإبداع عدة مدارس أخرى..

لذا أجد مصطلح ” فلسفة الزرقة ” أو ” فلسفة الشعر الأزرق ” لائقا أكثر بهذا اللون الأدبي الخاص.. 

  • تجليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات صوفيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة في قصيـــــــــــــــــــــــــــــــدة ” الياقــــــــــــــــــــــــــــــوتة ” :

           إن تقنية التلاقح والتبادل بين الثقافات الإنسانية من رموز وأساطير العالم القديم وبين بصمات الصوفية مشبعة بإرث اكتسبته الشاعرة في كنف عائلة تمتد أصالتها في ريادة الزوايا يمكن استكشافها في قصيدة الياقوتة..”(8)

الشمس فرحة

 عانقت مجرات الذهول

 تركت السرير لها

ذهبت أخطو بعدها بعد المجهول

ما أسعدها بالتسبيح حول شفتيك.

كل الزوايا عسل، أغرقت السرير

يشدو البلبل على طاولتك كل الفرح (9)

        لقد حاولت الشاعرة ” أروى الشريف ” أن تستوحيَ فكرة القصيدة وموضوعها من خلال تجربة سيدي الشيخ وخصوصيتها في قصيدة الياقوتة.. فهو نص عبارة عن محاكاة لقصيدة ” الياقوتة ” * لسيدي الشيخ ”  .

غير أنّ البنية العامة للقصيدة وما تضمنته من تداعيات، هو ما قد تختلف فيه الشاعرة عن المتأثر به والمقتبس منه، بل إن بنية نص” الياقوتة ” هي بنية أخرى مستقلة ذات قسمات مختلفة وتنفرد بهويتها الخاصة حيث تعتمد فيها الشاعرة تجليات ذات طابع خاص، تستمدّ ركائزها ومعانيها من التجربة الصوفية التي تقوم على محور خيالي يعتمد على الذهن والمحاكاة ..

                                                          

  *الياقوتة: قصيدة صوفية نظمها عبد القادر بن محمد بن سليمان بن أبي سماحة الملقب بسيدي الشيخ واحد من الوجود الأكثر بروزا في الجنوب الغربي الجزائري على الصعيد الديني كما على الصعب التاريخي، جاءت في واحد وسبعين ومائة بيت.

   تعد الطبيعة من الرموز التي تغنى بها المتصوفة، فنستشعر الجمال الإلهي في الوجود من خلال الأبيات:

” الشمس خيمتي

الليل لوعتي

على خطى النجوم

أذوب بخورا وأنتشر

الليل نور خافت فوق صدر الضوء “(10)

إن الجمال الإلهي يغمر كل الوجود و الشاعرة تتغنى به في كل مظاهر الكون، في الشمس، في الليل و بين النجوم..، فنجد أن رمز الطبيعة انفتح على دلالات شتى، ليصور لنا الحب الإلهي وجمال الخلق في أبهى صوره ..

ولعل أهم ما يمكن استشعاره من خلال الأبيات، انغماس ذات الشاعرة ضمن عالمها المتخيل، فنلاحظ فناء الشاعرة في جوهر العالم المحسوس، فأصبحت ترى ذاتها من خلال عالمها المتصور،

كاتمة أسرارك أنا

خاتمة أحداثك أنا

حاملة اللواء أنا(11)

 

ثانيا: تجليات صوفية في شعر ” صباح لخضاري “

  • تقديم ديوان ” أهازيج الروح ” للكاتبة  ” صباح لخضاري ” :

ديوان أهازيج الروح للكاتبة الأستاذة ” صباح لخضاري ” عبارة عن نصوص شعرية صدر عن دار الروح بقسنطينة سنة 2015 ، جاء في 120 صفحة ، ويتضمن 21 قصيدة ، ديوان من القطع المتوسط ، ومن تقديم الأستاذ “ عبد الحكم بلحيا “،

العنوان ” أهازيج الروح ” جاء منفردا بذاته، مستقلا عن عناوين الأشعار في الديوان على عكس بعض الشعراء الذين يختارون عنوان إحدى القصائد كعنوان للديوان لتسليط الضوء ربما على قصيدة معينة؛

نرى أن ” صباح ” اختارت لديوانها عنوانا مستقلا بذاته جامعا لكل معاني القصائد؛ فهو بذلك” نص وباقي المقاطع ما هي إلا تفرعات نصية تنبع من العنوان الأم، والعلاقة بين هذا الدفق التفريعي والعنوان بوصفه متخيلا شعريا أو سرديا هي ليست علاقة اعتباطية، إنها علاقة طبيعية، منطقية، علاقة انتماء دلائلي “(12).

 وللوقوف أكثر على معنى العنوان نجد أن كلمة ” أهازيج “مأخوذة من” الهزج “، جاء في ” لسان العرب لإبن منظور ” في تعريف الهزج: الهَزَجُ: الفَرَحُ. والهَزَجُ: صوتٌ مُطْرِبٌ؛ وقيل: صوت فيه بَحَحٌ؛ وقيل: صوت دقيق مع ارتفاع. وكلُّ كلامٍ مُتقارِبٍ مُتدارِك: هَزَجٌ، والجمع أَهزاج. والهَزَجُ: نوع من أعاريض الشعر، وهو مفاعيلن مفاعيلن، على هذا البناء كله أَربعة أَجزاء، سمِّي بذلك لتقارب أَجزائه، وهو مُسَدَّس الأَصل، حملاً على صاحبيه في الدائرة، وهما الرجز والرمل إِذ تركيب كل واحد منهما من وتد مجموع وسببين خفيفين. وهَزَّجَ: تَغَنَّى؛ وتَهَزَّج: كهَزَّجَ. والهَزَج: من الأَغانيِّ وفيه تَرَنُّم؛ والهَزَجُ: تدارك الصوت في خِفَّة وسرعة؛ يقال: هو هَزِجُ الصوت هُزامِجُه أَي مُدارِكه(13)

       نرى أن التعاريف تصب في معنى واحد الإيقاع واللحن .. ؛ وتكمن الدلالة هنا في كونه يحمل الصورة الكلية عن المضمون، بحيث يربط عناوين الديوان ببعضها وبالعنوان العام، وهذا ما لمسناه في عناوين بعض القصائد التي جاءت في الديوان ” أغنية لليل ” ،” القيثارة ” ، ” غناؤك حياتي” ، ” أنشودة اعتذار ” ، ” أغنية لأرغون ” ، ” أنت قيثارتي “، و الملاحظ من خلال هذه العناوين أنها تنتمي إلى نفس الطابع الفني،  وكأنها ترانيم خاصة أو سيمفونيات هاربة من مقطوعات بتهوفن و موزارت.. ،

وكأني بالديوان عبارة عن دفتر نوتات موسيقية .. فيستشعر القارئ نفسه وكأنه قائد اوركسترا ليجد نفسه منسجما بذلك اللحن والطابع الفني ضمن عالم روحي موسيقي خاص.

هذا التجانس بين عناوين القصائد وعنوان الديوان جاء متناسبا أيضا مع الغلاف ومع ألوانه ليخلق تحفة فنية صوفية بامتياز .

” أهازيج الروح “ صوت يخرق صمت الموجودات المداهن، و یکسر نظام نمطيتها المعهود.. تتخذ فيه “صباح لخضاري” الشعر قنديلها الأبدي، لتضيء من خلال ذرات نوره  زوايا الروح المعتمة، وتتوغل في سراديبها جاعلة من نزيف القلب زادا للسفر، ومن فیوض الوجد بوصلة لاستكناه الخفي من حقائق الأشياء وعلاقاتها، واستكشاف المجهول من أبعاد الكون وأسراره(14).

و داخل ما يشبه الألعاب النارية، تؤدي شاعرتنا رقصتها ” الفنتازية ” في احتفال اللغة الزاخر، حيث تتأجج الأفكار والمشاعر، وتتوهج المعاني والدلالات، في أشكال هندسية متوالية، مشكلة نظاما وسط الضوضاء، ونسقا من اللعب والشغب الفنيين .

تفعل ذلك مثل صوفي مأخوذ بالوجد والوله، متدثرة  بـ “برنس “القوم” ( الجنيد، ابن عربي، النفري )، مستشعرة طيف “صلاح عبد الصبور” وهو يقف في زاوية مظلمة يشاهد ما يحدث بعده في العالم(15).

نحن أمام امرأة مسكونة بالضوء، تحيط بها الأنوار من كل الجهات، انطلاقا من اسمها ” صباح ” ، وانتهاء إلى لغتها المتشظية شذرات جمر وذرات ضوء، وإذا كان الشعر احتراقا وحرقا، فإن المسكونين بالنار هم أولى الناس بتعاطيه، مفجرين ” كبة اللهب” في عتمات الروح، ودياجير الكون، وغيابات الأشياء..

ولعل الشاعرة “صباح  لخضاري” تستمد شاعريتها، قبل كل شيء من اسمها، من زاوية أن لكل منا حظا من اسمه، فإذا كان الشعر لدى نزار قباني “طائرا أخضر “، وكانت الكتابة عند غيره “ومضة تتحول إلى اشتعال ” .. فكيف لصباح مخضوضر أن لا يكون شاعرا(16)؟

  • سيميائية الغلاف – صوفية الصورة – ودلالات اللون ” الأخضر المصفر ” :

واجهة الديوان عبارة عن تداخل بين اللون الأصفر الفاتح واللون الأخضر؛ ليشكلا معا خلفية متجانسة، ممتزجة في لون واحد وهو ” اللون الأخضر المصفر ” وهو لون متولد من امتزاج اللون الأخضر واللون الأصفر،

 فما هي الرمزية الصوفية لــــ اللون ” الأخضر المصفر ” في الغلاف ؟،

من أجل الوقوف على دلالة اللون الأخضر المصفر، لابد لنا من معرفة مدلولات الأخضر والأصفر لدى المتصوفة ومن ثم يتسنى لنا معرفة مدلولات اللون ” الأخضر المصفر”:

  • اللون الأخضر: من الألوان التي يمكن تقسيمها إلى مجموعتين: المجموعة الأولى تبدأ من: ” الأخضر المصفر ” ثم تتدرج حتى تصل إلى الأخضر القاتم، والمجموعة الثانية تتدرج من الأخضر القاتم حتى تصل إلى الأخضر المعتم..

واللون الأخضر هو نور مرتبة النفس الراضية ،وصاحب هذه المرتبة راضٍ بكل ما يقع في الكون ،ليقينه بأن القدر خيره وشره من الله تعالى، ولا راد لقضائه تعالى ،ومن صفات هذه المرتبة : الزهد فيما سوى الله ،والإخلاص والورع والنسيان والرضا بكل ما يقع في الوجود من غير اختلاج ولا توجه لرفع المكروه منه ولا اعتراض أصلاً لأنه مستغرق في شهود الجمال المطلق وقلبه مشغول بعالم اللاهوت(17).

  • اللون الأصفر : وهو نور مرتبة النفس اللوامة ، تتصف هذه المرتبة باللوم والفكر والعجب والاعتراض على الخلق والرياء الخفي وحب الشهوة والرياسة ولقد سماها تعالى باللوامة لأنها تقلب صاحبها في أكثر أحوالها ، وتفعل ما يخالف أمر الله إلا أنها ترجع باللوم على ما وقع : قال تعالى : ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ*وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾(18) ويرى السنوسي : أن صاحب هذه المرتبة له ميل وتعلق في مجاهدة النفس، وموافقة الشرع، وله نزوع باتجاه عمل الخير والعمل الصالح من قيام الليل والصيام والصدقة وغير ذلك من أفعال البر لكن يدخل عليها العجب وكذلك الرياء الخفي بأن يحب صاحبها أن يطلع الناس على ما هو عليه من الأعمال الصالحة(19).

إذا كانت مرتبة الأصفر تقضي بالميل والرغبة في المجاهدة ، فإن مرتبة الأخضر المصفر  تتبنى المجاهدة من أجل إصلاح الذات ، وتتخذ من خطى الشرع منهجا أوليا لها وأساسا مهما لتشيد عليه بناء الحقيقة، من غير أن يخالط هذا التوجه شيئا من الرياء أو العجب، كما أن مرتبة الأخضر المصفر تمثل اجتهاد وجدية صاحب هذه المرتبة في إزاحة بقية آثار مرتبة النفس الأمارة بالسوء بشكل كبير ولم يبق فيها إلا بعض الميول المشروعة البسيطة إلى جهة عالم الخلق(20).

فتكون دلالات مرتبة ” اللون الأخضر المصفر ” : ترك اللوم بحصول بوادر التمكين من ضبط النفس وإلزامها طريق الحق، وتنور الفكر بنور المعارف والمعاني الروحية ، وضمور تكرار العجب لما تحمله نسائم الحق من معارف ورتب ، واستقرارها في قلب من توجه لعالم اللاهوت ورغب ،فإذا تمكن الحال واستقر به لطيف الخاطر والمقال وذاق وعرف ، فلا اعتراض يكون لديه على الخلق ، لأن النظر قد تحول عنه فلا يرى سوى الحق ، وحين يكون المرء بهذا الوصف ، فلا رياء خفي ولا شهوة ولا حبٍ للرياسة إلا رياسة النفس بغية إرغامها في طلب الحق تعالى(21).

                إن الصبغة الصوفية التي شكلها اللون الأخضر المصفر تعززت في مفهومها بصورة المرأة على واجهة الديوان، لتعطي انطباعا روحيا صوفيا خالصا، يجمع مفهوم التعاريف ودلالاتها، ويعكس مراتب النفس؛ من النفس اللوامة إلى النفس الراضية في خشوع،..

          فالمتأمل لصورة المرأة على الغلاف يرى بها سحرا صوفيا، وغموضا يستدعي التأمل والتحليل..؛ انطلاقا من النظرة الحادة للعيون الكحيلة، التي بها نوع من الغموض الخاص ووصولا إلى الطابع الفني الصوفي الإجمالي الذي تكتسيه الصورة من رموز ودلالات، إضافة إلى الامتزاج السحري للألوان، حيث يظهر وكأنه لون واحد يتخلله إشعاع من النور ما يطفي عليه لمعة خاصة في بعض جوانبه وظلمة في جانب آخر،

وكأنه بذلك يرمز إلى الجوانب الباطنية للمرأة على الغلاف، فنستطيع بذلك استشعار ما يلوج داخلها من أفكار، وكأن صدى روحها انعكس إلى الخارج فصار بإمكاننا لمس روحها ..  ما منحها بذلك هيبة صوفية خاصة..

       كما لا يمكننا حصر دلالات الغلاف في مفهوم واحد يقتصر على الدلالات الصوفية للصورة أو اللون، خصوصا مع إشارة الكاتبة لـ اللون ” الأخضر المصفر ” في ديوانها بما وصفته في قصيدة ” ذكرى “ بـــ ” تخضر الصفرة ”  :

” عندما تتذكرين

تخضر الصفرة ..

ويشدو الأنين

ترنيمة الحنين.. ” (22)

وكأن تصميم الغلاف له حكاية وطيدة لذكرى لونية عايشتها الكاتبة..

  • تجليــــــــــــــــــــــــــــــــات صوفيـــــــــــــــــــــــــــــــــــة في قصيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدة الرجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع :

         قصيدة الرجوع هي القصيدة الثانية في ترتيب قصائد الديوان؛ ولعل أول مفتاح لفك شفرات القصيدة وفهم مدلولها هو العتبات النصية في مقدمة القصيدة والتي اعتمدتها الشاعرة ، فمن أهم خصائص الديوان نلاحظ كثرة التناص، حيث نجد الشاعرة تفتح بعض قصائد ديوانها بمقاطع لشعراء أمثال ” صلاح عبد الصبور” ، ” لوركا ” ، ” أبو العلاء المعري “، ” لويس أرغون ” …

        وبما أننا نقتصر في هذا التحليل على قصيدة الرجوع، فالشاعرة استندت في بداية قصيدتها على الآيات: 6، 7، 8، من سورة الانفطار، ونص شعري لمحي الدين ابن عربي..

       فما هي دلالة العتبات النصية في القصيدة ؟ وأين تكمن الجماليات الصوفية في القصيدة .. ؟

     لم يقصد ابن عربي بالألفاظ الغزلية الكثيرة التي ترددت في ” ترجمان الأشواق ” ظاهر مدلولاتها، حيث أنه في مقدمة شرحه لهذا الديوان قد دعا الله أن يعصم قارئه من أن يسبق خاطره إلى ما لا يليق بالنفوس الأبية، والهمم العلية ، المتعلقة بالأمور السماوية؛ وليس أدل عليه أيضا أن ابن عربي نفسه قد طلب إلى قاری دیوانه أن ينصرف عن الألفاظ الغزلية، وأن يقبل على ما وراء هذا الظاهر من المعاني الخفية، التي هي أبعد ما تكون عن عالم الحس وما فيه من المظاهر الدنيا، وأدنى ما تكون إلى عالم الروح وما يشتمل عليه من الحقائق العليا. (23)

 ذلك على الوجه الذي يفصح عنه ويدعو إليه في قوله:  ” كل ما أذكره مما جرى   ذكره، أو مثله أن تفهما”.. ( ابن عربي، ترجمان الأشواق ).

   وعلى هذا النحو نرى أن شاعرتنا خطت خطى ابن عربي في محاولة منها لتنبيه القارئ عن صرف نظره عن الكلمات الغزلية والتفكر في معناها الخفي، كاشفة للعامة حقيقة معانيه ومراميه، مستعملة الرمز الغزلي في حضرة الحب الإلهي،

وبربطنا لموضوع الحب الإلهي مع عنوان القصيدة ” الرجوع ” في محاولة للوصول إلى المعنى، نجد أن الشاعرة تريد الرجوع و سلك الطريق المؤدي إلى حضرة الذات الإلهية، وما عزز هذا المفهوم؛ الإشارة بالآيات من سورة الانفطار،..  

    إن مقام التوبة هو أول منزلة من منازل السالكين، و أول مقام من مقامات الطالبين المنقطعين إلى الله، و تحديد التوبة: انتباه القلب من رقدة الغفلة، و رؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة، أو هو “الرجوع عما كان مذموما بالتسرع إلى ما هو محمود فيه”(24)،

” متى الرجوع إليك

يا حبيبا اشتاقت

 إليه الروح

يا منبع الروح

يا روح الروح

متى الرجوع إليك “(25)

      وفي قصيدة ” الرجوع ” يتجلى لنا العشق الإلهي و اعتبار النفس و خلاصها معا في لقاء الله أو في الاستهداء بنوره، فنجد الشاعرة تعبر عن ضياعها وتيهها باحثة عن النور الإلهي في دروبها الموحشة..

وأنا تائهة

في بحر الأشجان

في غياهب الوحشة(26)

   للقصيدة نسق صوفي مميز، يتشكل من تراكيب الألفاظ وتكرارها و تقطعاتها، ما أعطى للقصيدة نظاما لفظيا وصوتيا مميزا، تعزز أيضا بدلالات الألفاظ، 

حآ .. بيــ ى .. بي..

رو.. دآ.. ني… ني..

إى.. لآ .. يك.. ليك..

فأجمع ما تناثر

من  صدى صوتي المنكسر(27)

فنستشعر اللحن الصوتي للكلمات ودقة تصوير الشاعرة لانعكاس صدى كلماتها، فيغرق القارئ ضمن الجو الروحي للألفاظ ..

           إن بنية القصيدة تتشكل داخل إطار تجربة صوفية هيأت لها الشاعر مفردات لغوية تشبه لغة الصوفيين الأوائل،

الويل لي

إن هجرت

الويل لي

 إن جفوت

ويا روحي وريحاني(28)

فيتبادر لذهن القارئ وهو يقرأ هذه المقاطع، جمالية الجمع والتوظيف مع أبيات قصيدة الحلاج:

” إِذا هَجَرتَ فَمَن لي

وَمَن يُجَمِّلُ كُلّي

وَمَي لِروحي وَراحي

يا أَكثَري وَأَقَلّي “(29)

       إن التجربة الصوفية عند ” صباح لخضاري ” تنحو منحنی ازدواجيا، لعبارات أفرغتها من معناها الأول وألبستها معنى جديدا، وهذا ما نلمسه بوضوح في آخر عبارة في القصيدة ؛

ما أحلى الرجوع إليك “.

 وهي عبارة مقتبسة عن ” نزار قباني “، فنستشعر جمالية التوظيف، الذي منحها بذلك معنى مغايرا للمعنى المألوف، حاملة بذلك دلالات جديدة في طابع صوفي خالص.

       *أروى الشريف: تاريخ الميلاد : 11-02-1971 عين الصفراء – الجزائر

مديرة تحرير مجلة الفكر للثقافة والإعلام .

  • في عام 1984 أصغر مقدمة نشاطات ثقافية في متوسطة الخوارزمي بالعين الصفراء.
  • في عام 1986 الحصول على الجائزة الأولى في مسابقة أحسن قصة بعنوان اللحن الأخير.
  • في عام 1988 المساهمة في تأسيس النادي الأدبي الثانوية الإمام مالك بالعين الصفراء.
    في عام 2004 أول تكريم على رواية “حلم الأندلس” التي كانت لا تزال في طور الإنجاز.
  • في نفس العام الالتحاق بجامعة تلمسان في شعبة اللغة الفرنسية.
  • في 2005 مستشارة أدبية في مسرح “العفسة تلمسان.
  • المساهمة في جمع النصوص اليونانية والفرنسية المترجمة إلى العربية.
  • الإنجاز تركيب شعري مسرحي: منعطفات الريح في ذكرى الشاعر ابن خميس / تلمسان.
  • إبداعات في الشعر في المناسبات الوطنية على المستوى المحلي.
  • في سنة 2006 الحصول على مرتبة شرفية في المسابقات الوطنية للشعر الجامعي ببسكرة.
  • الحصول على جائزة أحسن قصيدة في الذكرى الوطنية “عيد الطالب 19 مايو 1954” في جامعة تلمسان.
  • تنظيم مسابقة في الشعر وعضو تحكيم للدعم المعنوي للأحداث تلمسان.
  • المساهمة في تأسيس أول نادي للشعراء على مستوى جامعة تلمسان في سنة 2006.
  • حائزة على جائزة أحسن قصيدة لسنتين 2007/2008 جامعة تلمسان.
  • حائزة على شهادة ليسانس في اللغة الفرنسية – جامعة تلمسان 2008.
  • بتاريخ 8 مارس 2012 كرمت مديرية الثقافة لولاية النعامة الشاعرة و في نفس الوقت تعهدت بطبع ديوانها الأول عرفانا لها على نشاطاتها الثقافية ومواصلة إبداعها رغم ما تعرضت له من عوائق.
  • تكريم مديرية البيئة العامة للمشاركة بعرض مسرحي للحفاظ على البيئة إخراجا و تأليفا.

* البريد الالكتروني :  charifarwa8@gmail.com

               

قائمة المصادر  والمراجع :

  • جلال جاف، تقديم ديوان مرايا زرقاء، أروى الشريف، ديوان مرايا زرقاء، دار الروح للنشر والتوزيع،قسنطينة، 2013، ص 5.
  • نفسه، ص6 .
  • نفسه، ص8.
  • حمداوي جميل، السيميوقراطيا و العنونة، مجلة عالم الفكر، ع:03، مج:25، الكويت، 1997، ص9.
  • محمد فكري الجزار، العنوان وسميوقراطيا الاتصال الأدبي، الهيئة المصرية للكتاب، ط1، القاهرة، 1998، ص15.
  • مفتاح محمد، دينامية النص تنظر و انجاز، المركز الثقافي العربی، بیروت، ط2، 1990، ص72.
  • جلال جاف، مرجع سابق، ص 5.
  • نفسه، ص 11.
  • أروى الشريف، ديوان مرايا زرقاء، دار الروح للنشر والتوزيع، قسنطينة، 2013، ص 42.
  • نفسه، ص 42.
  • نفسه، ص 43.
  • بشير تاوريريت، سيميائية العلامة في قصيدة المهرولون لنزار قباني، محاضرات الملتقى الثالث للسيمياء والنص الأدبي، 20 أفريل 2004، منشورات جامعة محمد خيضر بسكرة، ص 101.
  • ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، ط2، م6، ج55، ص 4660 .
  • عبد الحكم بلحيا، تقديم ديوان أهازيج الروح, صباح لخضاري، ديوان أهازيج الروح، دار الروح، قسنطينة، 2015، ص 15 .
  • نفسه، ص12.
  • نفسه، ص 11.
  • الكسنزان، السيد محمد عبد الكريم، الطريقة العلية القادرية الكسنزانية، إصدارات دار التكية ببغداد،ص 112.
  • القرآن الكريم، سورة القيامة الآية: ( 01 – 02 ).
  • الكسنزان، مرجع سابق ، ينظر ص 109110 .
  • ضاري مظهر صالح، دلالة اللون في القرآن والفكر الصوفي، دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع،دمشق سوريا، ط1، 2012، 189.
  • نفسه، ص 189.
  • محمد مصطفى حلمي، الحب الإلهي في التصوف الإسلامي، دار القلم، القاهرة، ص 14.
  • صباح لخضاري، ديوان أهازيج الروح، دار الروح للنشر والتوزيع،قسنطينة، 2015،  ص 113.
  • الطوسي (السراج)، اللمع في التصوف، القاهرة، 1960، ص70.
  • صباح لخضاري، مرجع سابق، ص 24.
  • نفسه، ص24.
  • نفسه، ص 26.
  • نفسه، ص 30.
  • ديوان الحلاج،جمعه وقدمه سعيد ضناوي، دار صادر بيروت، ط2،2008،ص 95.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع