القضبان لا تصنع سجنا
قراءة غير عادية في رواية بتصنيف استثنائي (بقلم الكاتبة التونسية حبيبة المحرزي)
حبيبة المحرزي
يوم بدأت قراءة الرّواية “القضبان لا تصنع سجنا ” لجبّار عبّود آل مهودر العراقيّ والّتي أهداها لي مشكورا يوم زار تونس مع مجموعة طيبة من المجالس العراقية أثناء تظاهرة “تونس تحتضن بغداد” أواخر سنة 2021 .
تقدّمت في فصولها بكمّ من الرّعب والتّوجّس من أن يكون اللّاحق أفظع واشنع. ممّا طوته الصّفحات المقروءة وكم تمنّيت أن تكون بعيدة عن الواقع وان تكون من محض الخيال لا غير ولم أسأل المؤلّف خوفا من إجابة تؤكد تخوّفي وتوثّق فظاعات موجعة مؤلمة.
مضيت في القراءة بوجع كبير وعاتبت الكاتب في سرّي “لماذا هذا الكمّ من الأذى والأسى؟”
ركنت الرّواية جانبا أيّاما واسابيع وظللت في حيرة من أمري لكنّ شيئا ما في صفحاتها يشدّني إليها وشيء آخر موجع جدّا يقول كفاك ألما وتالّما. ثم قرّرت قراءتها لكن بحزن كبير، حزن لا يضاهي قيد ذرّة ممّا ضرّج الشّخوص الذين حوّموا في أحداث الرّواية بأرواحهم الّتي صودرت منهم أو بنفسيّة شوّهها الجلاّد من أجل كلمة حقّ أو رفض لقرار ظالم مستبدّ. وركبني عناد أصمّ بألاّ أسأل الكاتب إن كانت الرّواية سيرة ذاتيّة بكمّ يمتدّ إلى المعاناة الجماعيّة.
وصدّرت الخيال حاضنة للأحداث مستندة إلى تصنيف على الغلاف ك “رواية” لكنّ دقّة الوصف والغوص في المآسي والتي بعضها سمعنا عنه وأقحمته الشاشات والهوائيات والأنترنيت فضاءاتنا ليكون مادّة إعلاميّة في أخبار متفرّقة معدّلة خوفا على مشاعر المشاهدين وسلامتهم الأمنيّة وراحة بالهم. لكن وامام التّشرذم والتّخبّط بين كمّ لا يطاق من الأذى المادّيّ والمعنويّ الذي طفحت به فصول الرواية وأمام غرق الأحداث في العنف والجريمة بقرارات سياسيّة آثمة متجبّرة قرّرت أن أسال الكاتب إن كانت الأحداث والشّخوص باسمائهم ونسبهم وأماكن تواجدهم حقيقة أم خيالا؟
وكم تمنّيت وأملت أن يخفّف عنّي وعن كلّ من يقرأ الرّواية الحمل والضّنك بأن يبشّرنا بأنّ كلّ ما في الرّواية لا يعدو أن يكون من محض الخيال وقد بيّتّ في نفسي أن الومه واعاتبه على هذا الإغراق في الالم والعذاب والجلد للباثّ والمتلقّي .. لكنّ الجواب نسج ثوب الحداد على بني الإنسان وما عانوه من ظلم الطّغاة والظّالمين. هي الحقيقة والواقع بعينهما موثّقان بالأسماء والألقاب والأماكن والتّواريخ.
جواب الكاتب “جبار عبود آل مهودر” هو الذي جعلني أصنّف المؤلّف لا هو بالسّيرة الذّاتيّة مثل “سبعون” نعيمة ولا “حياتي” لأحمد أمين ولا “أيام” طه حسين, ولا بالرواية كمساحة إبداعية عادية يمتزج فيها الخيال بالواقع .
“القضبان لا تصنع سجنا” هي بين هذا وذاك لذلك فتصنيفها استثنائيّ. وتأكيد الكاتب على الواقعية بكل أبعادها ومؤثّثاتها كان آخر مسمار في نعش السلم الافتراضي الذي يتشبّث به المتلقّي وهو يغرق في تفاصيل موجعة بإثم إجراميّ انتقاميّ معيب مشين. لكن حتى وإن ادّعى أنّ الأحداث خياليّة ما كنت لاصدّقه لأنّ كلّ حرف وكلّ كلمة وكلّ تركيب يطقّ أذى وأسى لا يمكن أن يكون إلاّ من قلب المحنة والمعاناة الحقيقية الواقعيّة.
رواية بغلاف أسود سواد حداد الثكلى والارملة سواد جلباب الخنساء وأمّ الشّهيد وابنة القتيل وكلّ المضطهدين المهجّرين في سلسلة آثمة كانت وماتزال تعيد إلى الأذهان مآسي جمّة لا تحصى ولا تعدّ.
حداد عامّ متوزّع على الغلاف كلّه وجها وجنبا وقفا ، لكن نورا يطق من بين قضبان حديديّة لنافذة سجنيّة يتوسّطها القضيب الحديديّ الاسود القاتم فاصلا بيّنا، وعلى الجانبين تتداعى القتامة بانعكاس الضوء على بقية القضبان فتتماهى مع البياض تأثرا وتجانسا مع ضوء يتسرّب في تؤدة نحو الأسفل منسّبا قتامة المشهد. كفارقة مشهديّة تقوم على التضادّ بين الاسود والأبيض. الابيض الّذي يجمًل السّواد بتقنية تذكّرني ” ببيير سولاج ” فنان السّواد والذي بلوحة تغرق في السّواد، يطقّ منها قبس مبيضّ ينقذ السواد من سواده وينتزعه من حداده ويبعث املا لدى المتلقي يجعل نقطة البياض مهما كان صغر حجمها و مكانها فهي شرارة الجمال الضّدّيّ الذي ينسف كلّ قتامة ويخالط التّشاؤم بالتفاؤل. ذاك البياض ثمّن السّواد واغرقه في الماضويّة المنقضية المتهاوية في غياهب مرّت وانتهت لتفسح المجال للنّور يبشّر بتعميم البياض الآخذ في الانتشار كأمل منتظر حتميّ.
بياض مندفع ينحدر نحو الأسفل، نحو الرعية المظلومة المضطهدة. حتّى يبلغ آخر الصّفحة بذاك الظّل المنساب تحت الحروف اللاّتينيّة في امتداد خلفيّ خفيّ يفتح أملا على مستقبل أفضل بدأ في أعلى لغلاف وانتهى أسفله في امتداد إلى الفضاء المحيط.
العنوان برتقاليّ ناريّ بلون لباس السّجناء والمقادين إلى المقصلة أو المشنقة. ليدلّ كلّ حرف فيه على من أعدم وعذّب وذاق مرارة الدّهاليز التّعذيبيّة الآثمة وساحت دماؤه ظلما وتوقّفت أنفاسه ظلما وغدرا. ليرتسم اسم المؤلف بالابيض النّورانيّ المتسرّب من بين القضبان وكأنّه امتداد للأمل وانتصار ودليل على النّصر والثّبات ليكون شاهدا على فظاعات مشينة موجعة عايشها واكتوى بنارها المؤلّف وأهله وجيرانه ومعارفه.
على الغلاف الخلفي كلمة الكاتب والشاعر عبد الزهرة الديراوي يثبت فيها واقعيّة الأحداث بكلّ تجرّد مع الزمان والمكان والشخوص أيضا.. شهادة غاصت في الرواية وعلاقتها بالمؤلف معاناة وحياة وابداعا وتوثيقا.
النّصّ الموازي “العتبات” في رواية “القضبان لا تصنع سجنا”
يقسٌم المؤلّـف الادبي حسب النقاد الغربيين أمثال” جيلبير جينيت “والنقاد العرب، حديثا إلى قسمين هامّين هما النّصّ الموازي والنّصّ الادبيّ الرّوائيّ “الفوقيّ”.
_النّصّ الموازي:
هو كلّ ما يحيط بالنًصّ الرّوائيّ الإبداعيّ ويجاوره أو يتعالق معه من نصوص تتباين طولا ومصدرا وجنسا وهي “عتبات” داخليّة وخارجيّة بعضها تسبق النّصّ ومنها ما ينتشر على الغلاف الخارجيّ كصورة الغلاف وألوانه وتخرّجاته الفنّيّة وقد تناولناها بالدّرس سابقا، وبعضها داخلية تسبق النّصّ أو تلحق به. والعنوان هو العتبة الأهمّ من حيث التّكثيف والتّرميز والإحالة والايحاء والتأثير في المتلقّي تأثيرا استباقيّا.محفّزا على اكتشاف النّصّ الرّوائيّ.
هذه العتبات الًتي يسبق بعضها النًصً الرّوائيّ بطريقة متتالية في نسق خطّيّ. أوّلها وأهمّها “القضبان لا تصنع سجنا” بتصدير ببيتين شعريين للدّكتور أمين الياسي بنفس دينيّ عقائديّ تربويّ لتظهر في عجز البيت الثّاني فكرة صياغة العنوان باختلاف طفيف في اليقين من عدم انقضاء الحدث في المستقبل “لن تصنع ..” ثمّ “بشكر وتقدير” الاساتذة الذين ساهموا في إخراج المؤلف في أحسن صورة فنّيّة أدبيّة ثمً الإهداء والّذي خالف المألوف إذ نجد المهدى آليه راحل، لفّه السّجن الابديّ وهو أهمّ شخصية معرقلة محبطة طول فصول الرواية لأنّ صلته بالمحتوى هي صلة السّبب بالنّتيجة، وهو حاضر من خلال أفعاله الدالة عليه والمشيرة إليه كهرم مؤذ عنه تمتدٌ أيادي عماله لتطبيق أوامره الإجرامية.
ثم مخطوط رسالة من “حسين الحكيم” تتبعها الرّسالة المرقونة الواضحة مذيّلة بالباعث والمكان والزّمان ثمّ كلمة السّيد “كمال السيد” مع التّاريخ يليها تمهيد من الكاتب يليه حديث شريف للرّسول صلعم مع تعليل لوجود الرّواية. هذه كلّها عتبات سبقت النّصّ الأدبي الروائي ومهدت له لكنّ الأهمّ من كلّ ذلك الملاحق والّتي أخذت صبغة توثيقيّة لأماكن السّجون وإسمائها مفصّلة مبوّبة لتكون اللاّحقة الثّانية بأسماء العوائل الّتي اعتقلت في صحراء (الشّيحيّات) سنة 1972.لتكون اللاحقة الثّالثة بأسماء” شهداء أهالي بلد”.امّا اللاّحقة الرّابعة فهي وثيقة الأمم المتّحدة بأسماء السّجناء السّياسيّين …أمّا الخامسة فهي الأعنف والأشدّ توثيقا وتأثيرا ووخزا في الضّمير الإنسانيّ كصفعة ستظلّ حيّة متجدّدة وهي وثائق وصور من داخل السّجن .بدءا بالمفتاح وانتهاء بصور معدّلة مؤرّخة بفترة واكبت غزوة الكويت وارتباك السلطة وسعيها لتجميل صورتها خوفا من تمرّد شعبيّ يخلخل عرش الاستبداد وذلك بإضهار السّجناء في أبهى صورهم وتالفهم وسعادتهم التي قد يغبنون عليها ممن هم خارج “القضبان”
والعتبات تحوي العناوين الفرعية للفصول وبعض الهوامش التوضيحية التفسيرية التعريفية التي تتوزع على أسفل الصفحات.
إذن فالنص الموازي هو ما يواجهه المتلقّي وينبشه قبل الولوج إلى النّصّ الرّوائيّ ليضعها في الإطار العامّ التّوضيحيّ لنصّ سيكتشفه المتلقّي وقد خزّن مؤشّرات ومؤيّدات تمكّنه من تكهّن نسبيّ لما سيكشف عنه النّص الروائيّ لتبيّن مدى التعالق بينه وبين النص الموازي الذي كشف عن التّيمة قبل خوض غمار القراءة.
وكاتب “القضبان لا تصنع سجنا ” رسم الطّريق بوجع فيه من التّحدّي ما يجعله يبطل مفهوما ثابتا عالقا بالإنسان منذ الأزل والمتمثّل في التّلازم بين القضبان والسّجون. غير أن عتبة هامّة جدّا هي الّتي ستتداولها الألسن وتصطفيها كجزء من كلّ مهمّ أهمّ.
* عتبة العنوان
هو أهمّ “العتبات ” كما يسمًيها الناقد الفرنسي” جيرار جنيت”
العتبة الأولى في رواية المؤلف “جبّار عبّود آل مهودر ”
العنوان “القضبان لا تصنع سجنا” الذي بتركيبته الدّلاليّة قد عصف بالمألوف وغيّر ما تصالحت عليه البشريّة وطبّقته تطبيقا إلزاميا في كل العصور والأماكن. والعنوان هو أوّل ملامسة من المتلقّي لما يسبق اكتشاف الّنّصّ الرّوائي وما تتقدّمه من مستلزمات تعريفيّة توضيحيّة تفسيريّة. وهو المدخل الأوّل للولوج إلى عوالم الرّواية الّتي تتتالى وتتداعى عموديّا عن عنوان هو همزة الوصل التّرتيبيّة اللغوية الاولى بين الباثّ كصاحب مشروع تواصليّ تأثيريّ والمتلقّي الخالي الذّهن من مضمون مازال مغلقا معتًما ضبابيّا رغم التّمعّن في العتبات السّابقة اللاّحقة. بيد أنّ العنوان الّذي سيظلّ نقطة مرجعيّة يتفقًدها القارئ بعد أن خزّنها في رف من الذاكرة سيظل كنقطة ضوئية تنير دروب النّصّ الرّوائي وكأننا بالقارئ سيحاول التثبّت من مدى المطابقة بين العنوان كعتبة من النّصّ الموازي، والنّص الادبي الروائي الفوقيّ، وهو يمضي بين الفصول وما ترشح به من دلالات فكرية اجتماعية ثقافية عقائدية نفسيّة وجدانية، سيقيّم حجم التًراكم الدّلاليّ الّذي خزّنه العنوان من مكنونات السّرد المتماهي مع مرجعيّة ثابتة للمؤلف بثقافة معيّنة وبكمّ من التّجارب الّتي تحيد بالأحداث إلى الواقعيّة الموثّقة في أجواء لا تتملّص من الزّمان والمكان بتحديد توثيقيّ تسجيليّ. والعنوان وان يسعى العديد من الكتاب اليوم إلى كسر هيمنته الاشتمالية بصوغ عنوان فيه من التلميح والتّرميز ما يثير استغراب القارئ وتعجّبه لانّه يوثّق موقفا ورفضا أو اتّفاقا أو تصالحا ما. وقد يكون له وقع الصّدمة على المتلقّي لإثارة فضوله لفكٌ طلاسم العنوان الغرائبيّ المتمدّد كنصّ تامّ البناء أو مختصرا مقتضبا لتتبعثر حوله الافتراضات والتكهّنات. هذا العنوان الذي قد يكون رمزيا غرائبيا أو اسم علم بطل الرواية أو كنيته أو مقتطف ببنية نحويّة تركيبيّية تامّة الإسناد من داخل تعرّجات الرّواية ودروبها وقد يكون بكثافة محيلة على أعمق دلالة سيتبيٌنها القارئ لاحقا بما أنّ العنوان يمثّل سلطة النّصّ وواجهته الإعلاميّة الّتي ستتردّد بدلالات مختلفة متنوّعة تتوزّع على جلّ الفصول.
العنوان هو الجزء الدّالّ لفظا عمّا ينطوي عليه النّصّ لذا فقد حرص الكاتب “جبّار عبّود آل مهودر” على حسن تدبير أمره ليقدًم كمّا من الدّلالات والاضاءات والإشارات الّتي تحيل على مضمون النّص الذي معه يكوّنان بنية معادلية تشوّق المتلقّي للولوج إلى عالم الرّواية مهما كانت صيغته أو تركيبته أو صلته بالأحداث والشّخوص.
“القضبان لا تصنع سجنا” عنوان بكم من الموروث المأساوي المشترك الّذي لا يمكن للقارئ أن يكون خالي الذهن منه تماما.
فالسّجن أو القضبان لها إحالات جماعيّة قديمة قدم الخطإ والصّواب والجريمة والعقاب، موروثة كانت أو وليدة العصر ومن هنا سيبني تصوّرا وثيق الصّلة بالمكان الثّابت المغلق المحدّد “السّجن” “ذي الجدران الملطّخة بالدّم والقيح المتيبّس
من العنوان تنطلق حيرة المتلقّي وينشأ عنده ارتباك معرفيّ مفاده التّوصّل إلى مدى تعالق العنوان بالنّصّ الرّوائيّ وصلته بالدّلالات والأبعاد الفكريّة والايديولوجيّة ومدى “صلة القضبان باللاّسجن ”
علاقة العنوان بالنّصّ لغويّا وتركيبيّا :
“القضبان لا تصنع سجنا” عنوان سيجده القارئ في كلّ مؤثّثات النّصّ تامّا مضمرا أو مجزًءا مصرّحا به كمسرح بركح يبدو للقارئ استثنائيا لا يهمّ إلاّ المجرمين ولا يحوي بين جدرانه إلاّ المارقين المذنبين واجمالا فهو في حلّ منه لكنّه سيسعى إلى تعقّب السّارد الّذي سيأخذ بيده لجولات وصولات ظلميّة إجراميّة موجعة نازفة لأنه هو أحد “أبطالها” الشاهدين المتضرّرين. لكنّ الكاتب ومن موقعه لحظة الكتابة البعيدة عن زمن الأحداث يعتبره ركنا من أركان الماضي الذي خزّنته الذّاكرة بوجع شديد مازال متمكنا من الوجدان وهذا ما ستؤكده الجملة الاولى التصنيفيّة في النص الداخلي أو ما يسمّيه جيلبير جوليت بالنّصّ الفوقي والٌتي عنها ستتداعى أكثر من 420 صفحة من الرّواية بوقائع هي من الكمّ الموروث المشترك إن لم يكن واقعا معيشا فهو ثابت متاكد عند القارئ ولو من باب الشهادة والمتابعة التسجيليّة .. ويمكن للمتلقّي أن يتوقّف مستفسرا عن الدافع الذي جعل العنوان على هذه الشّاكلة. هل هو للتاريخ ؟ هل هو موضوع النّصّ وتيمته ؟ هل هو خلاصة تجربة ذاتيّة مرّة؟
العنوان وبلونه البرتقاليّ “الإعداميّ” سيأسر القارئ وقد تومض تلك الصّور التي خزّنتها الذّاكرة لملابس بذات اللون ساعات الذبّح وإراقة الدّماء…
وعلى المستوى اللغوي وكعلامة سيميائية “السّجن ” كمعظلة عنفيّة يطقّ منها تاريخ ملوّث والام واحزان وانتهاكات لا تنسى.
أما على المستوى التركيبي فهو مفعول في جملة اسمية مركبة إخبارية تقريرية تكونت من مبتدأ وخبر .
الرّكيزة الّتي تنتصب مبهمة أمام المتلقّي الّذي ينتظر إخبارا عنها كمتمّم يوضّح غموضا مقصودا، غموض بمفارقة متعمدة بين مصطلحين متلازمين متلاحمين في المخيال البشريّ المطلق. غير أن تركيب الجملة سيربك المتلقي إدراكيٌا وهو يعاين مفارقة نفي ما هو في الأصل مثبت .
المبتدأ “القضبان ” وهو جمع تكسير مفرده قضيب. وهو شكلا ذو بعد طوليّ يحوي إحالة على المادّة التصنيفيّة المتعارف عليها عند الباثّ والمتلقّي ومن حولهم. فالقضيب هو حتما من حديد دون حاجة إلى تمييز نوعيّ يصنفه في خانة أخرى فهو ليس من الذهب ولا من الفضة ولا من الخشب. واذا وردت القضبان معرفة بالألف واللام فليس لإحالة مختصرة خاصة بل لتعميم الحكم الدّلاليّ الّذي أخبر به المتلقّي. فالقضبان خرجت من حيّز الرّواية ومن حيّز العراق ومن حيّز العصر المثبت في النص بتفاصيله إلى التّعميم والإطلاق والتّمدّد في الزمان والمكان وبين الفئات والمجموعات والشّعوب والأمم. هذا التّعريف الّذي سيحيد بالعنوان من مجرّد دلالة آنيّة ظرفيّة إلى المعادلة الازليّة الابديّة كحكم باتّ قارّ بنفس حكميّ وعظيّ إرشادي. وعبر المخيال الانسانيّ فإن كلمة “القضبان ” تهرول بالذّاكرة مباشرة إلى “السّجن ” كدلالة حتميّة لا تحتاج تفسيرا ولا تعليلا ولا سوابق ولا لواحق وهي جزء من كلّ لا يتجزأ أي القضبان تعني السّجن بكلّ أهواله واغواله وان اختلفت تخريجاته التّاديبيّة أو العقابيّة او الظّلميّة …لكن هذا الانصهار بين التّسمية ودلالتها الشّائعة سيبطل مفعول الاصطلاح والتعريف والتصنيف بالخبر
“لا تصنع سجنا”الخبر الّذي ورد جملة فعليّة منفيّة نفيا قاطعا يطوّح بالدّلالة المستخلصة من المبتدإ “لا ” هذا النّفي الذي سبق ذكر صنو له في عجز البيت الثّاني للشاعر الدكتور أمين الياسي والذي استثنى الماضي والحاضر ليجعل أداة النفي “لن” الدّالّة على اليقين من نفي الحدث في المستقبل نفيا تاما. والكاتب “جبار عبّود آل مهودر” مدّد النّفي ليكون مطلقا ماضيا وحاضرا ومستقبلا ب”لا” الّتي بها أبطل مبتدأ مثبتا متمكّنا من المخيال البشريّ ليهدم المنظومة السّجنيّة ويطوّح بمخزون اصطلاحيّ معرفيّ. والفعل المنفيّ ” تصنع” دلاليا يعني صنع الشيء أي تشكيله وتكييفه من موادّ أوّليّة لاستخدامه لغرض ما . “تصنع” عوض تبني أو تشيد لتأكيد النّيّة الإجراميّة بما ستصنعه ايادي المجرم في أماكن مغلقة أو هي زنازين وعنابر ووسائل تعذيبية ظلمية قد تكون من صناعة موادّ حديدية أو كهربائية أو ناريّة. لأن الصّنع متعدّد الأساليب والمحتويات بقصد مضمر. “”تصنع” مضارع غير منقض في الزّمان اي انّ النّفي مستمرّ في المطلق بل هو حكم باتّ يهوي بما ظنّه القارئ ثابتا “سجنا” والتنكير المحض مقصود احتقارا وتتفيها وتقويضا لمفهوم متمكّن غارق في المآسي والمواجع المتكرّرة منذ خلق الانسان” ليكون بعضه عدوّا لبعض ..
إذن فالعتبة الاولى في الرواية الغير عادية عنوان غير عادي أيضا. عنوان عليه اتّكا جسد النص المرهق الذي أثقل الذّاكرة الفردية للمؤلف كجزء لا يتجزأ من معاناة جماعية ثابتة صاحبته أو سبقته أو لحقت به. والسجن ورد في مقام مجرّد متمّم مفعول به منصوب لا هو بالفاعل في الجملة الفعليّة الواقعة خبرا ولا بالعنصر الأساسيّ في الجملة الاسميّة المركّبة. لكنّ الرّوائيّ سيستمدّ أحداثه الّتي ارتبطت بالسّجن ارتباطا مباشرا كمكان مغلق استثنائيّ فيه سالت الدماء وازهقت الأرواح وتعرت النساء والسّجن سجون توزّعت على مناطق متقاربة متباعدة من أرض وطن مستباح شعبه معذّبة بعض طوائفه. والكاتب يجعل المكان فاعلا بمحتويّاته بقصدية مبيّتة لأنها تعكس تجربة سجين في سجن بقضبان لم يؤمن بها ولم تردع من كانوا خلفها عن النّضال والإصرار والثّبات على المبدإ بنسفها نسفا طبيعيّا ارتبط بانبثاق نور الحقّ مثلما تثبته الصّورة على أعلى واجهة الغلاف “الاسود” هذا الحكم المبطل لفاعلية آثمة سالبة للحرّيّة دون وجه حقّ. حكم صار مصطفى كحكمة تعكس التّجارب الإنسانيّة الّتي خطّت حقائق ودلائل لو كنه الإنسان وخاصّة الجبابرة والطّغاة مغزاها ما بنوا سجونا بقضبان لأنها لن تلجم صوت الحقّ ولن تحبط عزيمة من تساوى عنده الموت والحياة في سبيل معتقد يؤمن به ويدافع عنه دون أن يضرّ بالآخر.. هي ارتعاشة السّلطة يين المتشبّثين بكراسي الطّغيان ب”قضبان” عاجزة عن تأدية الوظيفة القمعيّة الكيديّة للاانسانيّة.
عنوان مركّب بكمّ من الأسى الذي تمخّضت عنه حكمة مستمرّة غير منقضية في الزّمن المطلق لتصبح مؤشّرا عكسيّا محبطا لكلّ الحركات القمعيّة الّتي تتفنّن في تشييد السّجون بقضبان لن تقدر على كبح جماح من هم على حقّ. لتصل إلى أنّ القضبان مهما غلظت واستطالت وتكثًفت وان سجنت الأجساد واخفتها عن العالم الخارجي فلن تكبح جماح الحقّ والتّوق إلى الحرّيّة والًتي يظلّ قمعها أمرا مستنكرا مضرّجا يهوي بالفواعل إلى الدّرك الأسفل وكأنّهم لم يسمعوا قول علي ابن ابي طالب رضي اللّه عنه ” متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟
الشخوص في رواية “القضبان لا تصنع سجنا’ هل هم ضحايا عابرون أم شهود وثقوا مظالم الدكتانور؟.
تنبسط الرواية عادة على مسرح قد يتعدد الممثلون عليه ويختلفون حسب خيارات المؤلف وفق معايير يحدّدها مسبقا تخدم التيمة التي ستتكفّل الشٌخوص أو الأبطال بتاثيث مقوّماتها والذين سيقذف بهم فيها تباعا او بالتوازي ليكون بعضهم شخوصا مساعدة تدفع بالأحداث نحو الأفضل وأخرى معرقلة تعوق الخير وتنشر الشّرّ وفي هذا الخضمّ المتلاطم يتولى المؤلف تحريكها بكل حرية وفق المنظومة الرّوائيّة وتعالقاتها السّرديّة المتنامية لانّه خلق الشّخصيّة الرّوائيّة وليست الشخصية نفسها فهو من يحييها ويقتلها ويحشرها ضمن الخيّرين أو الشّرّيرين، إلا أن الأمر في “القضبان لا تصنع سجنا” يختلف اختلافا جذريا إذ أن الكاتب لم يختر شخصيّاته وانما هي التي اختارته أو اعترضت سبيله دون قصد أو بقصد أو بالأصح هو القدر الذي بث الابطال على اختلاف أعمالهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية والعقائدية والاجتماعية. حوله واجتمع بهم في الواقع المضرج بالحقيقة المرٌة داخل أطر زمانية متقاربة أو متباعدة وأماكن مغلقة أو مفتوحة . شخوص مرسّمة في الواقع الحياتي وفي السٌجلّ البشريّ لا الإنسانيّ، على الأقل لفئة منهم, لأنّ الإنسانيّة تتبرّأ من شقّ فاعل متنفّذ تجرّد من كلّ تراحم جُبل عليه الإنسان ككائن تميّز عن سائر المخلوقات بانسانيّته لاغير. .
شخوص بأسمائها وألقابها ومحيطها ومهمتها. شخصيات تتحرك وفق اللامعقول واللامألوف ظلما وقمعا وإجراما مفروضا أو قهرا وتعذيبا متلقٌى تذكر بعهود تجبر الحاكم وغطرسته والتاريخ مضرّج بسجلاّت دامية مرعبة لم ولن تتخلص منها الذّاكرة البشريّة مهما تعاقبت الأزمنة وتلاحقت.
شخوص الرواية يتقدمون بالاحداث ويتطورون للتأثير على المتلقي وفق أنساق مختلفة إو متماثلة لإيفاء التّيمة او بالأصح المحتوى التعبيري الدّلاليّ حقه ليبلغ بهم مرحلة الإقناع والتأثير بواقعية الأحداث بأبطال يشهدون بالحقيقة ويوثقون لمرحلة حولها لغط كثير ومواقف تتقارع بالحجة والدليل على أنها مرحلة قمع وظلم وتجبر .
والشخوص أو الابطال هم الذين سيتولون نقل ما خزّنه الراوي من افكارها ومواقفها وأفعالها الثٌابتة. هؤلاء الأبطال الذين دأبنا أدبيا على حفظ بعض منهم كشخصيات ثابتة في المخيال الإنساني الادبي الحضاري هم الأهم من كلّ مؤثّثات الرواية. فمن منا لا يذكر “سعيد مهران “للص والكلاب ومن لا يذكر “جون فالجون “للبؤساء”ومن لا يذكر الزين في” عرس الزين”؟ هذه شخصيات خلقها المؤلفون لتتقمص أدوارا رسخت في الذاكرة الإنسانية لأنها تحشر في الحقيقة ضمن منظومة تصوّر الواقع على اختلاف حالاته في تفاعل مع شخصيات أخرى مساعدة أو معرقلة. هذا بالنسبة إلى الرواية بشخوص روائية مكلفة بمهمة وقتية من قبل كاتب يبلغ فكرة بشخوص سينتهون بانتهاء الرواية.
فكيف سيكون الشأن إذا كانت الشخصيات ثابتة في السجلات المدنية الحياتية ومنها من سيوثق ضمن المتوفّين أو المفقودين لتظلّ ذكراهم تنزف فقدا ووجعا؟
أنواع الشخوص :
_الشخصيات الرٌئيسيّة والثانوية:
المشكل الذي يعترض الدّارس للرواية كيف سيرتٌب الشخصيات؟ ومن الاولى بالبطولة؟
البطل “الرٌئيس”الذي تخيره الكاتب فعليا ولو بكم من الوجع هو الذي خصه بالاهداء “إلى الرئيس صدام حسين” اهداء كاد يرتّب الكاتب ضمن مجموعة النابحين”عاش الرٌئيس” لأنّه خالف المألوف ونسف كل ما اصطلح عليه في عالم الادب، اذ من المتفق عليه أن يهدى الأثر الادبي الى حبيب غائب أو حاضر أو إلى والدين سهرا وضحّيا أو.الى صاحب فضل …لكن أن تهدى الرواية لشخص انتهى ذات عيد اضحى وانتهت معه حقبة “ظلمية تعسفية” فهذا هو الشاذٌ الغريب العجيب. لكن للمؤلف تبريراته إذ سيكون المهدى له شخصية حاضرة مسيطرة باذرع أخطبوطية تستطيل وتتفرّع شرا واذى بأعوان وسجانين وجلادين وواشين .غير أنني أرى أن اليطولة متقاسمة بينه كفاعل له كل وسائل الغطرسة والتسلط مع “محمود” البطل الفعلي في الزاوية المقابلة بالمقاومة والثبات على المبدإ والتحمل الذي لا يحتمل . والبقية كلها شخصيات ثانوية أن اصطفت يمينا أو يسارا فهي في خدمة هذا أو دعم ذاك. شخصيات تحوز الريادة حينا ثم تتهاوى كلاحقة لا تغير شيئا من الواقع مهما كان نوعه شرا أو خيرا
هي إذن المفارقات التي يتكفل الادب بتخليدها ضمن أثر واحد مغلق ثابت لا شك فيه .وهو جمع الجلاد مع المجلود .الظالم مع المظلوم .في حيز واحد ضيق جدا “صفحات الكتاب” لتركن كوثيقة لا تغيٌبها الظلمات .
الشخصيات وبتصنيف السلب والايجاب، نوعان: مساعدة ومعرقلة والتي لا يمكن تصنيفها تصنيفا باتٌا لأن زاوية التٌقييم تختلف بين
_”المحمودين”و “الصدّامين”
_الشخصيات المساعدة والمعرقلة وهي شخصيات نامية متطورة تساعد على الخير او الشٌرّ وفق مقومات الفضيلة والرذيلة والمنفعة والمضرّة، لكن الأمر يختلف وفق زاوية المصلحة ايضا فمن يراه الحاكم مساعدا يذود على مصالحه بالحديد والنار تجده العامّة عميلا وخائنا غدٌارا معرقلا مثل والد هدى الذي “يضطلع بدور حزبيّ بعثيٌ في المنطقة” ليرتب ضمن الشخصيات المعرقلة لحركات التحرر والنضال الفكري كواش وعميل للنظام.
والرواية وثقت عديد الشخصيات التي دفعت الثمن غاليا نتيجة مساعدة المفتّش عنه أو الملاحقين، على الهروب أو الاختباء بل إن حسن أخا محمود والذي وقع في الأسر في الحرب ضد إيران يتدرج من الجندي الملقى في أتون المعارك دون اقتناع أو رضى ليصبح أكثر تسطيحا وسلبية لانه صار محميّا بالأسر ” والذي يرى فيه الاب والأسرة كلها أخفّ الضّررين. قال أبوه :(أسير خير من أن يأتي ملفوفا بالعلم) فما بالك بالجلاّدين والمعذٌبين والقتٌالين والمروّعين؟ والذين ومن منظار انسانيّ لا يمكن حشرهم الا في بوتقة الشخصيّات المعرقلة “الصّدّاميّة” لأنها في تضادّ مصلحيٌ إذ تتوزع هذه الشخوص ضمن مراكز متضادة من حيث الغاية من العرقلة ودلالتها الفعلية. ففئة تعرقل الحاكم في بث شروره وتسلطه كمحمود وباقر القبنجي شقيق “الشهيد عزالدين القبنجي “و “كاظم النعماني “شقيق الشٌيخ محمٌد رضا النٌعماني مؤلف “سنوات المحنة” ومن هم على نهجه سائرون أي أنهم أبطال قاوموا وكافحوا رغم ما يترصدهم من عقوبات تصل حد الإعدام في المقابل آخرون يعرقلون العامة ويتجسسون عليهم ويمنعون الخير ويخدمون الشر ويتفننون في إرساء سواري له حديدية نارية .
المؤلٌف لم يكتف بشخوص تعايشت مع الأذى أو كانت سببا فيه بل إنه جعلها في تناصٌ حادٌ مع رموز للشٌرّ العميق والذين يظلون عبرة لمن يعتبر وليكون للرواية بعد حضاريّ ولو بالقياس إذ يقول محمود في التّكهّن بنهاية الطاغية:( قال السيد باقر القبنجي …لا يختلف كثيرا عن غيره. فقد انتهت قصة فرعون بالماء ونمرود ببعوضة وابرهة بالحجارة … واتاتورك بالنّمل الاحمر وهتلر بالانتحار وماذلك على الله بعزيز). هي التراكمات المصيرية والتي ضرّجت الحقب الزمانية بالظلم والغطرسة والتي ستمهد لنهاية مماثلة بهؤلاء الذين طغوا في الأرض وتجبٌروا ولم يكونوا عبرة “لمن يعتبر”
بعض الشخصيات الفاعلة الفعليّة حاضرة من خلال أفعالها ونتائج ممارساتها (لا يقوى على الاستقامة في خطواته إثر التّعذيب الّذي تلقّاه من الرٌائد حذيفة (عامر) )والذي في تدرج هرميٌ سلطويٌ يكون كامثاله المكلٌفين بأعمال قذرة، حلقة رابطة بين الحاكم الاعلى والشرطيٌين المنفٌذين الذين يظلان من الشخصيات المسطحة المنبطحة التي لا تتطور ولا تتغير مهمتها ابدا تنفّذ أوامر وتقوم بأفعال دوريّة دون إدراك والأدهى والأمرّ أنّهم يتجزدون من كلٌ القيم الإنسانية ليتقاضوا أجرا ، لذا فلا يمكن ترتيبهم الا في اسفل الدرك الظٌلميٌ العنفيٌ.
والبطل “محمود” العليم بالباطن والظاهر وان تتبع المشاهدات ونقل الأفعال والحركات والاقوال ولو “الحوار الباطني” في مشاهد مسرحية تقدم للمتلقي على “الركح” كي يصنفها في الخانة الصحيحة كاشفا بذلك بواطن هذه الشخصيات وانتماءاتها الفكريّة والعقائديّة والسّياسيّة. غير أن الكاتب قد عمد إلى إقحام شخصيٌات أخرى تخمينا بالاسترجاع وانطلاقا من النهايات معتمدا المخاتلة انطلاقا ممّا سبق النّهاية التي تصبح الرٌكيزة ومنها ينهض المخيال بتعقب الأحداث بما سبق منها وما لحق. فيقول “لم يستطع الأب أن يتغلب على عواطفه…. رمى بضاعته التي أعدّها إلى محمود في الشارع. فلم يعد يحتمل فاسلم الروح إلى بارئها…) محمود الغارق في الظلمات سطر الأحداث ونقل اطوارها انطلاقا من النتيجة العدمية المأساوية موت “الاب” كمدا وحزنا والتي سيكون انطلاق الرواية من على قبره في لوحة تعبيرية مرة بطعم الفقد والأسى المعلقم. أسى من يحمل إحساسا ببعض بعض من مسؤولية تراكمية، بدأت بالتمرد والمعارضة وانتهت بفقد عزيز قريب سيسرع إلى مثواه الأخير باكيا معتذرا ، ساعة هبت عليه نسمات “الحرية” ولم تمنعه “القضبان التي لم تصنع سجنا”
_أسماء الشخوص وعلاقتها بالانتماء إلى قطبين متصلرعين في الرواية::
من المألوف أن الروائيٌين أو القاصين يسمون الشخوص تسميات توحي بتصنيف ما وفق المتعارف عليه من حيث القيم الثابتة أي اسما يطابق المسمّى. فيسمّى طيبا من هو طيب وسيسند إليه السارد كل ماله بالطيبة صلة، وسعيدا من هو في رغد وسعادة وجبّار من له من قوّة الجبابرة…
وقد تكون المطابقة عكسية فيسمى الطالح صالحا والشقي سعيدا والمنافق صادقا والفاشل ناجحا والقبيحة جميلة والعاهرة شريفة.
غير أن الأمر فاق المعقول في “القضبان لا تصنع سجنا “باستثناء البطل والذي يذكرنا ب”الفتى” في “أيام طه حسين” فقد ركن إلى الغائب المفرد “المحمود” ليكون ساردا فوقيّا يواكب الأحداث ويصف الاوجاع والآلام والمعاناة من شق شفيف أراده فاصلا بين محمود و”جبّار” هو هروب أو تنسيب لاحمال دكت فترة شبابه ومعه أهله فنفض اسمه ولقبه بعيدا في ركن ما على الغلاف. واختيار “محمود” وان كان من الحمد فهو بصيغة اسم المفعول اي من وقع عليه الفعل وليس فاعلا في تلك الفترة وقد تحيل التسمية على الرضا بالمقدر وإثبات الانتماء القدري. للمؤلف “جبار” الذي “أخرج نفسه عن ذاكرته” ليكون “محمود ” الذي سيعرّي ما عائاه مع “المحمودين” من ظلم وقهر فردي وجماعي ليصبح الحمد صفة فيه قارة تعكس التحدي والصبر .ومحمود بطل مثل أحد قطبي الصراع مع القطب السّلطويّ..و”المحمود” المحبوب المسالم في الرواية يقابله “صدّام” صيغة مبالغة على وزن “فعٌال” من صدم يصدم الشّيء ضربه ودفعه .هذا شرح الفعل المجرد الصحيح السالم فما بالك بفعّال وما تكدٌسه من دلالات المبالغة في العنف والتسلّط والصّدم والصٌدام حتى يصير صفة فيه قارة أيضا والغريب أنه اسم علم حقيقيّ لم يختره المؤلف والذي قد يكون عاف الوزن “فعٌال” في” جبٌار ” فنسف كلٌ نقطة التقاء أو اتٌفاق مع من اسمه على وزن “فعّال” فاستلف “محمود ” ونفض عنه”جبٌار ” في المساحة الروائية. فإذا “محمود” ضدّ “صّدّام.”
أما بقية الشّخوص فهي حقا المحيّرة المربكة حتى أنّ الكاتب يؤكٌد أنّ أبطال روايته بتلك الاسماء فعلا بدءا ب”كرامة” والتي قضت فداء للكرامة أو “هدى” والتي مثلت الهدي بعينه رغم المؤثرات البيئية العائلية العمودية فهي ابنة من يتقرب للسلطة ويشي ويورط ويساهم في الترحيل والتقتيل. وهو أحد اذرعة الاخطبوط الخلفيّة الأخيرة المسطٌحة التابعة الخادمة لتتواصل التقاطعات بين الشخصيات واسمائها والتي يقر الكاتب بأنها شخصيات واقعية ثابتة حوله، معها تقابل و.تحدّث وسجن ووثّق حصص التّعذيب والتّرهيب والتّجويع أو أنّه تولّى النقل على لسان شخوص آخرين كانوا حاضرين شهودا أو ضحايا اجرام الحكام في حق من يختلف عنهم أو يخالفهم الرأي .
إذن شخصيات “القضبان لا تصنع سجنا” هي ادوات حية ناطقة نابضة كأداة تبلغ للمتلقي رؤية الكاتب وآراءه في نقل صادق بشهود وحجج دامغة وهل هناك أبلغ وأصدق من سرد الاسماء والألقاب والأزمنة والأمكنة المتجذرة في الواقع والتي اصطفاها السارد لتخلد في أثر ادبي راق كي لا تذروها رياح النسيان؟
_فنيا الشخوص هي الطاقة الدّافعة الّتي تمضي بالأحداث نحو التصعيد الهلاميّ جرٌاء التّوتّر وأحيانا نتيجة التّعاون والانفراج لأنّها في الاصل وعن طريقها وثٌق الراوي أحداثا ووقائع كادت تتلاشى وتغيب في غياهب الماضي الأليم بانتهاء الأذى أو رحيل الفاعل.
شخوص مثلت الجدلية القائمة منذ الأزل بين الخير والشر بين الحب والكره بين الحياة والعدم .وان كان الراوي قد استمات في نسبة الأفعال والأحداث إلى أصحابها كشخصيّات رئيسيّة ذات فاعليّة تقريريّة مصيريّة او ثانوية مسطّحة تؤدّي الدّور نفسه دون تغيير أو تطوير .والبطل “محمود” وبكل صدقية حياديّة فإنه خير من جسّم الصراع القطبيٌ الأكثر حدة مع الآخرين .حيث أصبح هو المحور الذي تتحرك حوله الشخوص وهو الناقل للمرئيّ والمسموع والمحكيّ وهو همزة الوصل التي أخرجت فظاعات مرسّمة في غياهب السجون وظلماتها إلى النور لعل ابن آدم يعتبر منها ولا يكون “صدّاميٌا ” منجبٌرا .
وفي النهاية فالرواية أحيت من طوتهم اللٌحود وذكٌرت بمن كادت الذاكرة المرهقة تنساهم.
المكان والزمان في” سجن لا تصنعه القضبان”
**1** المكان: لا يمكن لكلٌ كائن حيّ أن يثبت ويحقّق وجوده خارج حدود المكان والزمان. فهما مقوّمان متلازمان متشابكان في المسيرة الكونية كلها وقد دأب الروائيّون وبنسب متفاوتة على ايلائهما اهتماما خاصّا باعتبارهما من المقوّمات الأساسيّة لكلّ انتاج سرديّ. وإذا كان الزّمان رهين الإدراك المباشر الحاصل من خلال الأفعال الٌتي تنجز فيه وتوثّق كمحطّات بأوقات دقيقة فإن المكان مقوّم ثابت مرئيٌ ملموس محسوس ولو في المتخيّل المبنيّ على ما يخزنه العقل من صور واشكال لأماكن من الواقع أو من المتخيّل المحكيّ أو الاسطوري . .
فكيف تعامل الروائي “جبار عبود آل مهودر “مع المكان الذي تلون بألوانه وتضرج باوجاعه والامه وشهد على سقام ايامه؟
أ_ سيميائيّة المكان في “القضبان لا تصنع سجنا “تتمثل سيميائيٌة المكان في “القضبان لا تصنع سجنا” في معناها البنيويّ اللسانيّ بدءا بالعنوان الذي ورد فيه “المكان” الاكثر إيذاء ومقتا عقابيّا للإنسان بإحالة حتمية على انعدام الحرية وما ارتسم جراءها من فظائع الحرمان والتّعذيب والتّنكيل. فالعنوان حدّد قبلة الأحداث وشيد المكان الذي سيكون على علاقة تداع بالسّوابق واللواحق. هذا الجزء المكانيّ الإدراكيٌ الحسٌيّ من جهة والمكان الفيزيائيّ المحدّد بضوابط مرسومة ضمن منظومة الفضاء الروائيّ والذي يمثل المكان جزءا منه اي المسرح الذي عليه وفيه وحوله ستجري الأحداث بكل أطوارها
ونظرا لاهمّيّة المكان في القصّة والرواية وكل ابداع سردي فقد خصٌص له العلماء دراسات مختلفة متنوًعة تسلّط الاهتمام على هذا المكوًن الحتميٌ في الأثر الادبي السردي ومنها علم Topologie والذي يهتم بخصائص المكان وعلاقاته المختلفة بالاشياء.لان للمكان سيميائيٌة مرجعية موثقة حسب المجموعة المتفاعلة تفاعلا مباشرا أو غير مباشر مع الاحداث المتعاقبة او المتراكمة فيه.
الكاتب في هذه الرواية ربط المكان بالمصير كعلاقة الجزء بالكلّ واذا توشّح الغلاف بسواد “السجن” والقضبان التي لم تصنع سجنا يخمد صوت الحق فإن الراوي المهووس بالمكان الصارخ بالاذى جعله جزءا من عناوين الفصول “مظاهرة في بغداد” البوابة الشرقية”باستيل العراق” زنزانة رقم ٢ق ٢ “من نخيل البصرة إلى بساتين بلد” الرئيس في الدجيل” بغداد ترحب بكم”يوميات زنزانة” عيد في زنزانة”
هي عناوين تحدّد الاماكن كوثائق مكانية ثابتة تقوٌي مصداقيّة الأحداث بل هي ختم يعرّف بالوطن ويؤكد صلة البعض بالكلّ. أعلام “بغداد” و”البصرة ” أماكن تنضح عراقا بأماكن مفتوحة ممتدة حينا “النخيل والبساتين….”مغلقة مؤذية حينا آخر “الزنزانة” ليكون الانطلاق من وضع الختام في الرّواية من “مقبرة وادي النّجف” وهو المكان المتكفل باحتواء آخر نقطة فاصلة بين الحياة والآخرة واصلة بين العدم و”جنات عدن” وفق معتقد الابطال داخل الرواية. وبالنسبة إلى البطل “محمود”فهي نقطة النهاية والبداية اي انتهاء الحبس والتعذيب والتنكيل داخل الزنزانات المغلقة وابتداء الحرية والانطلاق في أرض الله الواسعة. وكأننا بالمكان حاضنة متكفلة بالربط بين معاناة الدنيا ونعيم الآخرة والراوي الذي خيٌر الانطلاق من مكان مفتوح لكنه بمؤثثات مغلقة ليست اجمل ولا أوسع من زنازين السجن. هذا الحضور بكمّ ارتداديّ تتداعى بعده الذّاكرة تهرش حيٌزات مكانيّة كانت أضيق وأشدّ ضيما من قبر أبيه الذي عانق “حجارته الباردة”.. و” جدار القبر” كأمكنة صامتة حولها وعليها تتحرك الشخوص بكمٌ متراكم من الاتساق الوظيفية للاماكن و هو عنصر غالب في الرواية حامل للدلالات حولها تتحرّك الشّخوص ليتكفًل السّارد بدعوة الذّكريات للهجوم في مكان هو الفاصل بين الحياة والموت. لتكون المعاني الّتي توصّل إليها من خلال طبيعة الكلمة ذاتها “المقبرة” اسم مكان من قبر الشيء دفنه واخفاه عن الأعين لتظلّ داخل النٌصٌ الرّوائيّ بارتداد واقعي مأساوي ملموس.
.ب_ صلة المكان بالواقع في رواية “القضبان لا تصنع سجنا”
اذا كان المتلقي خالي الذهن من سيرة الراوي والذي استحوذ على البطولة في التقدم بالاحداث مع التكفّل بروايتها مع نزعة توثيقية للاماكن المفتوحة والمغلقة فإنه وفي الذاكرة الجماعية الإنسانية وجدنا الكاتب يعطل السرد ليتفرغ لوصف المكان حرصا منه على المصداقية فيما يروي لبجعل المكان الموصوف مماثلا للحقيقة في الفضاء الخارجيّ الحقيقيٌ وذلك باستخدام عناصر المكان الفيزيائيّة لتجسيده بحيث يجعل المكان مرتسما أمام القارئ بمظهره الداخلي والخارجي بل وكأنّي به يأخذ المتلقي في جولة داخل سجن حفظ كل مكوناته بمفعول الزمان اي طول المدة التي قضاها فيه إذ يقول في صفحة عدد ٧٨ “أبنية انتزع الجلاد منها مقومات الحياة ، على شكل مستطيل غير متساوية الاضلاع ، يتكون ضلعه الأيمن للداخل إليه من البوّابة الرّئيسيّة من أربع زنزانات مساحة الواحدة منها (٣,٥م ×٢,٥م) تتبعها قاعتان مساحة الواحدة منها أكبر قليلا واربع زنزانات مع مغاسل في الضّلع المقابل للبوٌابة الرئيسيّة، وثلاث زنزانات تنتهي بمغاسل أخرى على الجانب الأيسر المقابل للقاعتين، فضلا عن محجر صغير يستخدم للعقوبة ،تتوسط القسم ساحة مسورة تفتح عليها أبواب الزنزانات ….هناك غرفة الموصل …وغرفة البصرة …وغرفة العمارة وغرفة النجف ….
هي أسماء الأماكن التي منها انتزعت السجينات ليرافقهن الموطن بثقل التسمية والراوي حين عمد إلى إسقاط مجموعة من الصفات الطوبوغرافية على الفضاء أو المكان الروائيّ ليجعل منه حاضنة للقيم الرمزية المنبثقة عن ذات المكان وذلك لكشف العلاقة بين المكان والشخصية “السجينات والسّجّانين”. كما أن اختلاف هذه الصفات وتنوّعها من مكان إلى آخر في الفضاء الروائيّ يمكن أن يعكس لنا الفروق الاجتماعية والنفسية والايديولوجية لدى شخوص الرّواية. فالزّنزانة والتّواجد فيها يكشف رؤية الشخوص للعالم وموقفهم منه وقد تكشف عن الوضع النفسي للشخصيات في حياتهم اللاشعورية بحيث يصير للمكان بعد نفسي يعكس ما يثيره من انفعال سلبي او ايجابي في تلك الفترة وفق وضعية كل شخصية على حدة.
يقول في الصفحة ١١٠ “بدأ المكان موحشا غارقا في الصمت، تقاذفته الهواجس والأفكار …سمع عن أقبية السجون وعذابات قصر النهاية وصيت الأمن العامة”
المكان يعبر عمّا ينتظر الموقوفين من عذابات ويكيف دواخلهم وفق ما اصطلح عليه ليصير لها بعد نفسيّ كارضية حتمية للوحشة والتوتر والمكان يصبح بذلك عاكسا لما يثيره من انفعال سلبيّ ناتج عن التعذيب الجسدي والنفسي او ايجابي إذا اقترن بالتحدي والصمود تحت الجلد والقمع.
ج_المكان صفاته ودوره في تنوير المتلقي
من يقرأ الرواية سيلاحظ أن الكاتب وعلى امتداد الأحداث واضطراب الشخوص ستجده يعرض مشاهد مكانيٌة شاملة وهو بذلك يهدّئ الحركة السّردية الصاخبة المتوتّرة الحادّة للتخفيف من حدّة الأحداث الموجعة القهريّة من خلال بثٌ تأويلات تضمينية كالتفاعل إيجابيا مع المكان كان يصور لنا السجين يتوضّا ويصلي ويتلو القرآن وهو في الزنزانة. او يردد اشعار أسلافه الصّامدين. أو يتحدث أحدهم عن علاقة غرامية مر بها.
والكاتب نجده ينقل صفات المكان وأشكاله وألوانه لاستثمارها في الكشف عن جانب من الأحداث مثل “حركة المكان” وهي حركة تنطوي على أهمية تقييمية نظرا لكونها تغوص في “مفهوم الحرية” حرية الإنسان في استخدام المكان وتكييفه بما يخدم قناعاته الثابتة والتي من أجلها اضطر إلى التفاعل السلمي مع مكان ابعد ما يكون عن السلم. إذ يقول في الصفحة١١٤ “ملأت أرجاء المكان ثرثرة الضباط وأصوات ضحكاتهم، تأتي من بعيد، خالطتها آهات المعذٌبين” المكان واحد لكن التفاعل مع الشخوص مختلف. ليدخل المكان في اتحاد مع الشخوص الفاعلة ذات السيطرة والقوة الظلميّة المتصادمة في نفس المكان مع أصوات متأوهة موجعة معذٌبة. ليصبح المكان مبعثا للأذيٌة بأحداث نقص ما أو عاهة تكوينية معيشية إذ يقول السارد “انسداد أنابيب الصرف الصٌحّي في المعتقلات والسّجون هي جزء من مسلسل التعذيب …”والكاتب سيجعل من هذه الأماكن شواهد تساعده في عملية التخزين والتّذكّر “. حفرت الذكريات على جدرانها اسماء وتاريخ سنوات مختلفة لشهداء وسجناء قضت عليهم محكمة الثورة بالاعدام أو السجن فلم يجدوا غير جدار الاسمنت يلوحون له بوصاياهم الأخيرة.”
والمكان الحاضر في الرواية والبعيد حتما عن زمن السرد مكان غلبت عليه صفات الانغلاق والانسداد والظلمة والوحشة. ولا نجد للانفتاح والاتساع مكانا الا الحدود التي ترحّل إليها العائلات من الأكراد أو العائلات المتهمة بالانتماء إلى إيران أو المتصالحة معها عقائديا أو فكريا. هي أماكن مفتوحة لكنها باتجاه واحد شبيه بطريق الموت الذي يمثل نقطة النهاية دون عودة.
د_الصور الفنية وعلاقتها بالمكان في الرواية :
هي صور ستساعد الروائيّ بطريقة تفاعليّة مع المكان ليوظف الصورة الفنية التي هي نتاج فاعلية الخيال مع ما خزنت الذاكرة من علامات ثابتة يمكن تقاسمها مع المتلقي والتي لا تعني نقل الفضاء المكانيٌ وتصويره أو نسخه وانما نجد الكاتب قد اكسبه صفة “سيميوطيقية” بإعطائه قيمة دلاليّة تميّز بين الظّواهر المكانيّة التي لا يختلف بعضها عن بعض في الواقع وما يطرأ عليها من تغيير نوعي وظيفي جراء الأحداث المستجدة وزاوية النظر ومنطلق التقييم الذي يكسب المكان صفات مختلفة. فالسحن عند السجان هو مكان العمل وكسب الرزق وعند المسجون مكان للتعذيب والانتهاك والانهاك وعند الأهل جحيم يصطلي بناره أبناؤهم وذويهم.
هذه الصور الفنية تتعدى عند المتلقي حدود الرواية إلى المكان بعناصره الفيزيائية إلى المشاركة الوجدانية لأن الصورة الفنية لها وثيق الصلة بكل الاحاسيس الممكنة التي يتكون منها نسيج الإدراك الإنساني الذي يعطي أبعادا حسية لما لا وجود له إلا بالوعي بضرورة إضفاء الواقعية على ماهو تصوًريّ محض عند المتلقّي ليبسطه الكاتب على مساحة الرواية من منطلق العليم بالباطن والظاهر، وهنا تكمن براعة الكاتب في سحب القارئ إلى عالم كان يجهله أو كانت له عنه صورة ضبابية ليكون للأحداث مساحة بعلامات توثيقية ثابتة لا لبس فيها كصورة ضخ الدماء على الجدران وبقع القيح على الأرضية والأبواب. وهي صور تجتثٌ المكان من دوره الطبيعي المألوف لتخشره ضمن منظومة العنف والظلم والعقاب والتشفي.
والكاتب ينتقي مادته المحسوسة من الطبيعة أو من الحياة الإنسانية اليومية بخيرها إذا كانت خارج القضبان وفي الوسط العائلي وشرها إذا كانت بين القضبان والغاية حتما إثارة التأثير أو الانفعال الإنساني تازرا مع الضحية وسخطا على الطاغية، من منطلق الراوي الشخصية والذي حرص على جعل المكان بكل صفاته شاهدا على ما لحق بالشخوص من إهانة وتعذيب ظلت شواهده المتلاحقة راسخة على الجدران والأبواب والأرضية.
والمعاني التي نتوصل إليها من خلال طبيعة الكلمة وتواجدها في النص مركزية أساسية مساهمة في البناء الهيكلي للرواية ومن خلال توظيفها في إطار الصورة الفنية فضلا عن علاقتها ببقية عناصر الرواية من شخصيات وحدث ومكان وزمان حيث تخرج هذه الكلمات أن وظفناها رمزيا عن معناها الاصلي الحقيقي الحسي فالدماء التي تجري في عروق البشر تصبح دليلا عن التعذيب والجدران التي تحمي من البرد والحر تصبح دليل الحبس وانعدام الحرية.
والدلالة لا تنبثق حتما من المكان بل من احد عناصره أو أحد متعلقاته والفيصل في ذلك هو السياق المكاني في النص الروائيٌ وتفاعل عناصر الرواية داخل هذا السياق مثل ماقصه سامي على أصدقائه في قصة هولاكو مع الخليفة الذي وضع في السجن ومنع عنه الطعام وعندما طلب أكلا ” أرسل له طبقا فيه جواهر من الذّهب والفضٌة.. “. وهي قصة وان كانت ضعيفة السند إلا أنها تعكس أن السياق هو الذي يحدد الفاعلية لاغير. فالذهب لا قيمة له بين “القضبان” وبين يدي جائع يبحث عما يسد الرمق لا ما يكون الثروة التي حرمها المكان من كل جماليٌتها الحسية والدلالية .
والكاتب لم يغيب الالوان في الوصف لارتباطه بالقيمة “السيكولوجية” والاجتماعية لأن اللون ينطبع في لاوعي المتلقي ليدخل في جدال مع ماخزنته الذاكرة من صور مألوفة معروفة خارج الفضاء الروائي .واللون ينوع الاهتمام بالقيمة الجمالية للموصوف خاصة ماله صلة بالمكان فالشعر الذي يعتبر من الفنون والإبداع يصبح وسيلة التورط والاجرام من منظور الضابط والشرطيّ ” خلال تنظيفه المروحة السقفية سنة ١٩٨٣ عثر مراقب زنزانة (٤ق١) على ورقة ملفوفة بعناية كتبت عليها قصيدة شعر….سأله هل انت شاعر؟…إذن فالمكان هو الذي صنف القصيدة كعمل ثوري نضالي اجرامي مثله مثل شعر مظفر النواب الذي مات في المنفى وأحمد مطر ومحمود درويش. ولو وجدت القصيدة أو قرئت في حفل ثقافي لقوبلت بالتصفيق والتثمين.
والمكان في الرواية يظل محايدا لا تصنيف له دون تدخل الكاتب العليم بالظاهر والباطن والذي يغير ايقاع السرد عند تغيير المكان إذ أن تفاعل العناصر المكانية وتضادها يشكلان بعدا “جماليا”مؤثرا في المتلقي لأن المكان يصبح حقيقة معاشة بأبعاد دلالية وليدة اللحظة قد تتجاوز الدلالة التاريخية والسياسية بتشابك العلاقات مع الشخصيات. لان لا قيمة لها إلا بتجذرها في المكان المحدد لقيمتها الوجودية المصيرية الحضارية. لذلك يحرص الروائي على بناء توافق وتلاؤم بين المكان والشخصية لذا فإنه يجعل المكان منسجما مع الشخصية وطبائعها ومزاجها.اذ يصبح المكان خزانا حقيقيا للحالة الشعورية والذهنية للشخصيات.
5_اللغة الموظفة لوصف المكان .اللغة هي السفينة الحاملة للمكان وطوبوغرافيته .وباللغة يحقٌق المكان دلالته الخاصّة وتماسكه ليرتسم في ذهن المتلقي كمساحة عليها يتحرك الابطال ليوثقوا أحداثا وحقائق ثابتة خاصة وأن القارئ قد خزن في ذهنه منذ اصطدم بصره بال”السجن والقضبان” و”جبار عبود آل مهودر” والذي يعلم أو أنه سيعلم أنه سجين سياسي سابق.
الروائيّ مدعوٌ قبل تعقٌب احالات المكان إلى تخير البناء اللغوي الذي تقيمه الكلمات انصياعا لأغراض التخييل والتوثيق فهو نتاج مجموعة من الأساليب اللغوية المختلفة والمختلقة في النص لتشيّد الفضاء المكاني بطرق قد تختلف عن صورته في مخيال المتلقي كعالم خارجي لأن المكان رهين اخراج وتأثيث وان كان المنطلق واقعا فإن الكاتب هو الذي يهيّئه أما ليكسب به تعاطفا من المتلقي أو ليحدث فيه رجة ناتجة عن صدمة لفظية باستعمال الوصف والمظاهر الحسية الموجودة عليه في فضاء الرواية المنقول عن المكان الحقيقي من قبل كاتب كان من الشخوص المؤثثة المتأثرة بالمكان إن كان مقبرة أو مكتبة أو منزلا أو ساحة حرب مثل قوله: “كان القصف على أشده ورائحة الموت والبارود تلفّ المكان.. والقذائف تسقط كالمطر. اخترق فيها النخيل والأشجار ..” هذا تفاعل مقصود بين مؤثثات المكان والأحداث الطارئة والتي تتصاعد بقيمة تأثيريّة في المتلقي والذي سيتغايش مع اللحظات الفارقة المؤثرة في مكان خرج عن تصنيفه الطبيعي “النخيل والأشجار ..”والتي خرجت من حيزها الطبيعي الإيجابي كمساعدة على الحياة
خلاصة القول إن المكان في “القضبان لا تصنع سجنا مقوم أساسي يضاهي الشخوص في تفاعلات وان اختلفت باختلاف الأزمنة والخلفيات العقائدية والاجتماعية والسياسية فقد استطاع” جبار عبود آل مهودر” أن يستنزف من المكان طاقته التعبيرية التاليفية التوثيقية إذ سمى الاماكن باسمائها وحقيقتها وتحولاتها ليكون اقرب إلى التصديق من متلق عاصر هذه الأحداث المأساوية عن بعد عن طريق وسائل الإعلام التي تكتفي بالتسميات فسجن “ابوغريب “حاضر في الرصيد المكاني الذي جمعه القارئ من فظاعات الحرب والمظالم لكن الكاتب صور العالم الداخلي والنفسي للمكان الذي كان أتون التعذيب بكل مؤثثاته الثابتة كالزنازين والارضيات الاسمنتية والمتنقلة كالسٌياط ووسائل التعذيب الكهربائية والسٌلاسل والأصفاد.
الرواية بكم هائل من الأسى لا يملك القارئ الا أن يساند فيها الراوي ويشد على يديه كصامد في وجه الظلم ومجاهد تقمٌص دور الكاميرا المخزٌنة للصور والمشاهد والمشاعر والأحاسيس لتفضح فظاعات حاكم شوه الأماكن وضرٌجها ظلما ليجمٌل مكان الديكتاتورية المتجبٌرة.
*2*الزمان في “القضبان لا تصنع سجنا “
سبق القول بأن الزمان والمكان مقومان متلازمان في العمل الروائي. ومثلما استهل الكاتب روايته بالمكان كمحطة فارقة أو هي نقطة الالتقاء المحايدة التي وحدها جمعت ما لم يجمع منذ أمد. جمعت الحيٌ بالميٌت في موقف اعتباري مأساوي تراجيديٌ.
هي رواية بزمن دائريّ عبثيّ.تدور رحاه دون توقف لتقنع المتلقي الغافل بأن لكل شيء بداية ونهاية .هي فلسفة الوجود المقرٌة بالعدم كحقيقة ثابتة متجذرة في المخيال الانسانيّ دون استثناء.
والزمن في هذه الرواية بالذات هو محورها ونقطة الارتكاز فيها بما انها كأثر ادبي بفنية زمنية ثابتة. والزمن في الرواية هو بالأساس تعبير من الكاتب عن رؤيا كونية حياتية إنسانية وفق الآليات التي استعملها واستحضرها خاصة لتاثيث الزمن الروائي انطلاقا من الزمن الواقعي والذي وان اتفق معه في الحيثيات والمحطات الزمنية الثابتة فالاختلاف أيضا وارد لأن السارد ينتقي ما يخدم التيمة ويهمل ما لا يخدم سير أحداث الرواية.
أ_سيميائية الزمان في “سجن لا تصنعه القضبان”
تتمثٌل سيميائيّة الزمان في الرواية في معناها البنيويٌ اللساني المتدرٌج من الزمن البعيد إلى القريب أو الحاضر بكل المرتٌبات الزمنية من ظروف واسماء زمان وتواريخ.
ليست الرواية سوى نسق بنيوي ينتظم فيها الزمن السردي لأن الزمن مثل مقومات السرد كلها يكوّن نسقا لغويا مما حدا بالشكلاتيين إلى تقسيم النص الروائي إلى متن ومبنى حكائي إذ اعتبروا المتن هو المادة الأولية الخام للقص أو السرد وهي في رواية “القضبان لا تصنع سجنا” كل الحكاية التي تبدأ قبل الاعتقال وتنتهي بعد إطلاق السراح واسترداد الحرية المسلوبة سابقا للبطل “محمود ” وانتهاء بالمجموعة الثالثة التي سيطلق سراحها في ٢٠٠١.
هو إذن الزمن الحاوي لكل التقطيعات والتجزؤات داخل الرواية، والمتن هو تقريبا الإطار المحيط من يوم بدأت معاناة البطل جراء معتقد مختلف عن معتقد حاكم متجبر إلى يوم رأى النور خارج القضبان بامتداد بعديٌ للواحق زمنية مرتبطة بأحداث الرواية ارتباط السبب بالنتيجة وحرصا من الكاتب على تجنب التغاضي عن مواقف قد تظل مفتوحة مشوشة لدى المتلقي دون نهايات كمصير أحد الابطال أو نهاية مجموعة ما .
هذه الأحداث المنفصلة هي الديمومة التي ترتبها في الزمان والتي حرص المؤلف على تتبع نسق سردي خطي ثابت خاصة إذا تتبعنا بعض العناوين التي اقتصرت على الزمن وتحديده تحديدا دقيقا فجاءت التواريخ مرتبة ترتيبا زمنيا تصاعديٌا واقعيا فالعناوين التي اتبع فيها التزمين الثابت بدأت بــ :
_محكمة الثورة يومي ٢٥/٢٦/آب ١٩٨١
_الاثنين ٢٥/كانون الثاني ١٩٨٣
_أعياد الميلاد سنة ١٩٨٤
_شهر رمضان في الزنزانة
عيد في زنزانة
_وثبة رمضان سنة ١٩٨٧
_يوميات زنزانة
١١ شبّاط ١٩٩٠
_١٧/كانون الثاني ١٩٩١
لتنتهي بخروج المجموعة الثالثة سنة ٢٠٠١
ولو انها ترتبت في الرواية فالأحداث متداخلة متقاربة متقارعة ليكون الزمان أكثر تنوعا داخل النص في مراوحة بين الماضي والحاضر والمستقبل، وفق منهج اعتباريٌ للأحداث تصنٌفها كقيم بنسبيٌة ثابتة وفق منطلق المؤلف وزاوية النٌظر التي اختارها منذ البدء.
والقص هو بالأساس التفاعل الزمني الحدثي داخل الديمومة. وفق اختيار السارد وما يلزمه من ترتيب أو تشظ يشد المتلقي ويحكم العقدة ويخدم الحبكة كي ينأى بمؤلفه عن التسجيل التوثيقي التاريخي ليرتقي إلى الابداع الرّوائيّ الأدبي.
في هذه “الخيمة” الزمنية القاتمة نتابع المبنى الحكائي الذي تصرف فيه السارد بالتقديم والتأخير لكن بإصرار على تحديد الزمن بدقة خاصة في الأحداث المصيرية المرتبطة بالشخوص بقطع النظر عن حضورهم أو غيابهم. هذا السرد لا يخلو من كشف متدرج لايديولوجية الكاتب والتي تسلح بها منذ البدء ليكشف للمتلقي الأسباب والمسببات لهذه الماسي المتداعية والتي وعن غير قصد اغرق فيها القارئ كي يتحرر من بعض حمل أو هي اوزار تشد على الذهن والفكر بتحريض من ذاكرة ترفض النسيان.
أحداث ومستجدات وان وردت موثقة بالزمان المدقق والمكان المحدد فإنها لم ترد في قص خطي روتيني بل سيتكفل القاص بتوزيعها ونثرها تقديما وتاخيرا وقفزا مثل قوله “مرت السنون”وتأجيلا مثل قوله “سيأتي على ذكرها لاحقا” وإسقاطا لاحداث لا تخدم الخط القصصي التصاعدي تأثيرا في المتلقي وتوثيقا للذاكرة الجماعية، ليكون السرد
أما بالاسترجاع وهو ذاكرة النص الفعلية إذ ينقطع زمن السرد الحاضر لاستدعاء الماضي وهي تقنية تتمحور حول تجربة الذٌات ويمكن أن يكون استرجاعها داخليا لصيق بالسارد أو خارجيا مرتبط بشخوص أخرى مساعدة أو معرقلة بفاعليٌة ثابتة في الواقع المخزن في الذاكرة، مثل قوله في صفحة ١٤١ “ألتقى محمود في موقف ٣٢ برجل آخر من أهالي البصرة جيء به خريف ستة ١٩٨٢ اسمه (قاسم معاوية حسين الطائي)…مثل هذه الأحداث والحقائق كثيرة وغير منتظمة وكان الدافع لاستحضار الحدث خارج عن نطاق المؤلف الذي حاول إلى حد الإجهاد أن يكون أمينا في نقل هذه الاحداث ليجعل روايته ببعد سيميائي ثابت يحيد بها عن التسجيل و التخييل أو بالاستباق الذي مثل ما يدفع به الى المتلقي كي يتكهن ويستعد للقادم من الأحداث لأن السارد عليم بالاحداث كلها ما ظهر منها وما بطن وهو يخاتل القارئ بما يحقق له الهدف المرسوم منذ التفكير في الكتابة بعد “الخروج من الذاكرة”,والذي لم يكن إلا تمويها ليتبرا من بطل بكم مأساوي قد يعجّزه عن سرد ما قضّ مضجعه ماضيا وحاضرا ومستقبلا .فيقول في ص ٢١١ ” ورغم حاجتهم لمزيد من الطعام غير أن وفرته أو تنوعه يولد لديهم شعورا بالجوع الذي ينتظرهم وعشرة الايام اللاحقة ”
واذا كان السرد هو أكثر الفنون الأدبية التصاقا بالزمن خاصة وأننا امام نص منطلقه التجربة الشخصية أي أنه اقرب إلى السيرة الذاتية لذلك حرص الكاتب على ذكر التواريخ بدقة مثل قوله في ص ٣٤٦ “صباح يوم ٩ / ٤/٢٠٠٣ بعد سقوط الصنم …” التأكيد على الحدث وزمانه وابطاله توثيقا وكسرا لخط مأساويّ متنام انتهى في الواقع الذي عابنه السارد ومعه المتلقي أيضا. هي نقطة التقاء واتفاق وانفراج فعلي والكاتب المهووس بالزمان “الذي لن يعود منه ماذهب”وفي عدة مواضع نجده يهتم بالكم اي المدة دون ربطها بالتاريخ أو الترتيب في الزمان ففي ص ٣١٢ يقول ” خلال الأيام السبعة التي قضوها في الأمن العامة ” الكم يصبح اولى من التاريخ للدلالة والتأكيد على المعاناة وطولها.
بيد أن الكاتب وان سرد أحداثا مؤرخة موثوقا في صحتها بالزمان والمكان فإن بعد زمن السرد عن زمن الأحداث قد يكون عدٌل الوتيرة ونسّب كمّ الأذى الذي لحق بالشخوص رأفة بالقارئ وربما عشيرة من قضى هناك في إحدى الزنازين والمعتقلات رغم أنه صار يكتب بعين أخرى لا تخشى رقيبا ولا واشيا مرتزقا ولم يعد يرهب “من هوى صنمه “ذات يوم. وان الكلمة التي من اجلها سجن وعُذٌب صارت حرة طليقة تحلٌق في الأجواء لتصل غرب الأرض ومشرقها وحتى تونس..
ب. جدليٌة العلاقة بين الزمان والإنسان في ” السجن الذي لا تصنعه القضبان”
يتصدّر الزمن الدٌراسات الفلسفيّة والفيزيائيٌة والأدبية خاصة على مستوى علاقته بالوجود الانسانيّ بما أنه الحاضنة المتغيرة المتجددة التي يتحرك ضمنها البشر وفق محطات ثابتة في المنظومة الكونية والتي تخرج في الغالب عن الإرادة الإنسانية المحدودة .
وفي “القضبان لا تصنع سجنا” استطاع الكاتب تناول الزمن المرتبط بالشخصيات المحورية والتي يستحضرها عبر “ذاكرة أخرج منها نفسه” منذ البداية تجنبا لجلد الذات وبحثا عن درجة من الحياد فإذا به يغرق في اوجاعها وآلامها التي خزٌنتها الذاكرة الفردية والجماعية في غفلة منه ومنهم لذا فقد ورد السّرد في شكل احداث وثيقة الصلة بالشخوص، مهما كانت درجة فاعليتها بالحضور أو بالغياب.
الزمن الذي تحركت فيه الشخوص كفاعلة أو مفعول بها كمساعدة أو معرقلة كايجابية أو سلبية،هو زمن بقيمة تسجيلية تقنع المتلقي بأنه إزاء حقيقة ثابتة غالبا ما تكون صادمة موجعة فهي موثّقة بالزمان ومعه المكان بل أن الكاتب وبتقنية المونولوج استطاع أن يكشف الباطن بأحداث متتالية في الزمن المنقضي ولم يكتف بالظاهر لغاية التأثير في المتلقي لانه باثّ شخصية محورية أساسية “محمود”والذي هو “جبار” الذي تبرأ من صيغة المبالغة المتوافقة مع “صدّام”
“محمود “حيٌ بتصنيف وجودي لكنه وككائن فعلي توقفت حياته بين القضبان ليلتقي منذ اللحظات الأولى ” زمن الحرية” بالاب الذي مات لكنه حيّ”عند ربه يرزق” هو شهيد في جنات النعيم .
“الشخوص” التي ورد جلها بالاسم الثلاثي واللقب العائلي وان طواها الزمن المطلق فزمن الرواية خلدها وجعلها تحيا وتذكر حاضرا ومستقبلا .هذه الرغبة في التدوين والتخليد هي التي حدت بالكاتب ومن منطلق واقعي أن يكون القص متشظيا متداخلا تحدده الوضعيات والتي قد تستوجب قفزة ورائية بين رفوف الذاكرة التي تتراكم فيها احداث ومشاعر وأحاسيس مازالت تتأذٌى من مجرد التذكر رغم أنه وكسبا للمصداقية التسجيلية التاريخية فقد عمد إلى ترتيب الأحداث وفق تدرج زمني خطي الا نه وبتناول المقتطفات والحقائق التي بها اثث الرواية كسّر الزمن استرجاعا أو استباقا بتفاعل يعكس موقفه مما يصف ويسرد .
بدأ الزمن بالحد الفاصل بين الماضي والمستقبل اي بالحاضر وهو الفيصل بين زمن السجن والعذاب والتعذيب وزمن الحرية المضرجة بمآسي ستنطلق في نقطة زمنية فارقة لقاء محمود بقبر والده الذي لم يودعه ولم يره منذ سنين .
زمن منه ستتقارع أزمنة وتتعارك في خضمّ ظلميّ تجبّري. مأساوي. نقطة البداية هي في الأصل نقطة النهاية او هي بداية الغاية الزمنية وانتهاؤها خاصة وأن المتلقي ليس خالي الذهن من المأساة وعمقها وبكم معرفي حول حقبة طويلة من حكم استبدادي بدأت فضائحه تعلن يوم سقط الصنم. زمن دائري عدميٌ فلسفي. قد يؤسٌس ويذكّر بعدمية الوجود المرتبط اساسا بالنهاية الحتمية لكل مخلوق بل والكون كله مادام البطل يؤمن بالبعث ويوم الحشر وخير حجة على هذه العبثية الحتمية نهاية الحاكم الذي حكم حكم من لا يؤمن بالنهاية الحتمية الا للمظلومين .
البطل الحقيقي الذي تملص من ذاكرته المثقلة بالهموم والاوجاع. أخرج نفسه ليقف قرب قبر ابيه “يحصي بقايا أيامه وماتبقى له…”” “ليجد أيامه التي تركها في مقبرة وادي النجف..” لأن الزمن المتبقي “الايام”هي حلقات من سلسلة زمنية ضاربة في متاهات ماض باسى وأوجاع يعجز الزمن اللاحق على ترميم جروحها وطمس سماتها لأن الزمن مقيد ومنقول وفق تحركات الشخص وتفاعله مع ما حوله وقد تعدى الفرد والموطن والوطن إلى “الأمة” كلها والتي “اتفقوا على ألا يتفقوا “حتى في تحديد يوم رمضان أو العيد يقول في ص ٢٣٤””سأل أباه يوما : لم الاختلاف في تحديد يوم العيد كل سنة؟ ” هو الهم الجماعي الذي وان بدا مجرد اختلاف فهو في الحقيقة خلاف جذري بين حكام يربطون الزمن والتواريخ بأهداف انتقامية سياسية موبوءة.
فعد الايام والتقليل منها يعكس ماخلفته القضبان من دمار نفسي لبطل بات لا يثق في المستقبل..
صورة باستعارة مشهدية مؤثرة تكشف كمّ الأسى المتخلّد بالذّمّة..ليكون التٌأبين والرّثاء والوجع والأسى بين من اختفى ومن يبحث عن اختفاء بين احضان من فقد .
الزمن الذي ارتبط بأحداث موثٌقة حقيقية يجعل عمليٌة الاسترجاع والتٌدقيق والتحرٌي مكلفة مرهقة لأن الكاتب وان حاول الإطلالة من زاوية السارد الموثق لتاريخ موجع مرعب فهو لم يتخلص من كم وجعي، كل ما حوله يذكره به خاصة الشخوص الذين لازموا الراوي بالحضور فيما قبل وما بعد “”أمٌه واخته مريم وهدى”. هذه الشخوص وغيرها ممن كانوا على صلة بالسارد مباشرة أو غير مباشرة هي في الحقيقة اختام شاهدة حبلى بتراكمات وجعية مقارنة بازمنة موثقة في الذاكرة الإنسانية. وكان الشخوص تتولى مهمة المساعدة على التذكر لمن “أخرج نفسه من ذاكرته” ليبني مرآة عاكسة عليها وثقت احداث عامة أيضا إذ يقول في ص ٨٨”خلال تصاعد وتيرة الأحداث السياسية سنة ١٩٧٩….”٣
“منذ سنة ١٩٧٧ رفضت السلطة الاعتراف بهم. خيروهم بين العربية والكردية، فمن اختار الكردية كان نصيبه هدم داره والترحيل … ومن اختار العربية كان نصيبه التهميش …” هذه الحقائق الموثقة بالتاريخ والحدث تصنف الرواية ضمن الادب التسجيلي في ناحية منه على الإقل محفز للذاكرة الجماعية لأن الاسترجاع مهما كانت نقطة الانطلاق أو الوصول محددة فهو في الحقيقة ذاكرة النص وفيه يتوقف السرد الاني ليستدعي الماضي بكل ماسيه وتفاصيله كركيزة عليها يقوم الحاضر الممهد للمستقبل وفي الرواية هو تقنية فنية تنطلق من التجربة الذاتية كمركز إشعاعي تراكمي تأثيري فيكون الاسترجاع داخليا خاصا بالباثّ أو خارجيٌا عندما ينقل أحداثا بشخوص أخرى يرغب الكاتب في اقحامها في مؤلفه السردي لأنها زمنيا قد ارتبطت بتجربته هو النضالية التي تصاحب بطريقة مباشرة أو غيرها الأحداث التي هي كم لا يتجزّا من ذاكرة مجتمع عانى القمع والأسى إذ يقول في صفحة ١١٢ “ظهرت الأمانة العامّة بعد سنة ١٩٦٨ وهي مديرية تابعة إلى وزارة الداخلية….” هذا التصميم والتعريف هو تخزين لما قد يتوه بين السجلات والأوراق والارشيف. والكاتب وان لم يذكر الزمن بدقة فإنه يصنفه تصنيفا واقعيا حقيقيا ليكون ركيزة عليها تبنى الأحداث فيبدأ فقراته السردية الوصفية ب “منذ ليلة القبض عليه” أو في ضحى ذلك اليوم أو “في بدء حملة الاعتقالات العشوائية…” هي نقاط انطلاق زمنية داخلية تنظم الأفكار وترتب الأحداث للمتلقي كي توضح الصورة في ذهنه وتنتظم زمنيا .
والمؤلف أراد بكم هائل من المصداقية أن يزاوج بين حاضر الشخصية وماضيها باتجاه الموت كنهاية حتمية لكم من المعاناة النفسية والبدنية لأن حصص التعذيب التي وان أبدع في وصف مدى فظاعتها تبقى اللغة عاجزة عن نقل الوجع الحقيقي والإيذاء الفعلي والذي يزيد تحديد الزمن أو المدة في تعميق الأسى وتصوير الأذى والمعاناة اذ يقول في ص وفي كل مرة ننتظر أن تكون آخر الحصص التي ستنتهي بالموت” رغم أن الموت حضر مرارا وتكرارا في نقطة زمنية محددة في ماض مشترك بين السارد والضحايا وحد بينهم الزمن المتشظي والذي وان اراد الكاتب أن يجعله قصا خطيا مرتبا فإن التراكمات الكمية النوعية العنفية هي التي تعلقت بالزمن وطوله كمؤشر ثابت دالّ على المآسي والمعاناة الجماعية أيضا .
حقب زمنية دموية متلاحقة بدءا بالحرب مع إيران ثم غزو الكويت ثم خرب الخليج…. هذه الأزمنة محطات فارقة خلدتها وسائل الإعلام والمؤرخون بطرق مختلفة وفق زاوية المصلحة والانتماء والعقيدة. ووصفها السارد كجزء لا يتجزأ من حياته وحياة الآخرين.
والراوي المتكفل بتدوين تفاصيل عمن له بهم صلة فقد أوكل مهمة الاذى الفعلي للزمن نفسه والذي يدخل في تحالف مع الحاكم المتجبر فيقول في صفحة ٣١٦ لفحتهم حرارة الصيف وسموم الصحراء ففي شهر آب ١٩٨٢ اقتحم أفراد الشرطة…” وكأننا بالرلوي وهو يصف الزمان وقسوته كمساهم في أذية من تأذّوا ظلما وعدوانا بسبب معتقد قد يكون مختلفا عما يبغيه حاكم غفل عن صروف الزمان وعن قول “أبو البقاء الرمادي:
لكل شيء اذا ماتم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان .
هل انتهت “القضبان لا تصنع سجنا” إم أنها فتحت ابوابا وسراديب لن تقفل أبدا”؟؟؟
لقد أنهيت قراءة الرواية منذ زمن وركنتها ضمن الادب الروائي الذي يغلب فيه الخيال على الواقع لكن شيئا ما موجعا جدا أعادني إلى قراءتها لكن وبثقة في تصنيف المؤلف والى حد معين وجدت الأحداث الموثقة بالاسم والزمان والمكان حقيقة ثابتة فايقنت أن هذا الكتاب ووجوده بين يدي ووصوله لي بالطريقة تلك جزء من قدر محتوم لكل من يبحث عما يمكن أن يصنع سجنا مادامت القضبان لا تصنعه.
هي أحداث حفرت على ناصية “الحياة” عانيت معكم ككل حرٌ، الوجع وعشته ولو بطريقة وان بدت مختلفة فهي من نفس المنطلق والنتيجة. قمع وطمس وتكبيل وتكميم .
رواية بدأت من حيث انتهت، إذ أنٌ القارئ لما يظن أنه فرغ منها يبدأ مشوارا اخر أكثر معاناة من شخوص الرواية.
هي الموجات او الهزات الارتدادية الموغلة في الصميم الإنساني ليجد نفسه غارقا فيها وفي أحداثها من جديد يتخبط بين سراديب وظلمات حسبها لا تهمه ولا تعنيه وقد يكون رأى بعضها على شاشات التلفاز أو النت مثلما ظن أن سجن اميل حبيبي في المتشائل وهنري شاريار في le papillon أو مصطفى خليفة في “قوقعة” أو مليكة أوفقير في “السجينة” روايات ولو انها توثق لسيرة السارد الذاتية فإنها كتبت بمؤثثات تارجحت بين الخيال والواقع حتى وإن اسعفته الذاكرة بحجج وأمثلة من بعض من كانوا هناك في سجن بقضبان.
أحداث “القضبان لا تصنع سجنا” ضمٌت وقائع يقف ازاءها المتلقي متفرجا في انحناء تعاطفا مع أبطال مأساويين يتخبطون بعيدا عنه زمانا ومكانا.
شخوص بدرجة من الثقافة العالية أدبيا أو علميا وحضاريا ليبحث هذا عن صنو له في التاريخ أو بيت شعري كأنه قُدّ على مقاسه فيستشهد “حامد”بابيات للمتنبي”
كن ايها السجن كيف شئت فقد. وطّنت للموت نفس معترف
لوكان سكناي فيك منقصة لم يكن الدر ساكن الصدف
وشعر الرثاء والشجن ينطق به جواد كاظم سلمان من أهالي الثورة :
آن اللقاء أخينا أين ارتحل .. ….أخلفت موعدنا ام الهوى بدل..
كيف ينتهي القارئ ويمضي إلى شأن آخر وصورة محمود بين السيد” عادل “وكاظم جوية” “وهما يربتان على كتفه ويوصيانه بالصبر والتجلد ليبلغاه نبأ وفاة والده…” وهو داخل “سجن بقضبان” .
عندما تعجز عن فسخ” المبرقع “وهو يصلي أو يرد على البخاث رد المؤمن بواجباته الشرعية أو وروحه تصعد إلى الرفيق الأعلى أو كرامة أو هدى أو صباح ابوهاشم أو انتظار الصغيرة جعفر …أحمد .. محمود …السجناء عندما يكون الخطب جماعيا بل إن الأذى طال الحيوان ايضا اذ يقول في ص٣١٦ “ولم تسلم منهم الحيوانات التي كانت تستعين بها العوائل في نقل الحطب .فقام ضابط اسمه (فائق) بإطلاق النار عليها وقتلها وكان هذه الحيوانات البريئة قد تعاطفت معهم أو اشتركت في محاولة قتل الرئيس….”
شخصيات ماساوية درامية تراجيدية لا تمثيلا وتقمٌصا لأدوار مدبٌجة بل هي من عانت الأذى ومنها من قضى تحت التعذيب و”فنونه”التي برع فيها السجّانون” لنيل اعتراف أو وشاية ترفعهم درجات وتزيد عدد نياشينهم ونجومهم البرٌاقة ورواتبهم
قد يستغرب القارئ حين أغفلت اذرعة العنف والظلم. وهو إغفال قصدي. لا شان لهم بما خطه الراوي ولا بما فهمته وبما شغل فكري في هذه الرواية أو هذه الشحنة من الهم والغم والظلم التي ماكان لها أن تكون لولا قصر النظر وغباء من لم يتعظوا بالتاريخ ولم يفقهوا أن لكل ظالم نهاية وان دوام الحال من المحال و”ان من سره زمن ساءته أزمان “
إذ يقول عنهم في صفحة ٢٢١”كانّ الجلادين يتسامرون أو يغطون في نوم عميق، لم تسمع آذانهم صراخ المعذٌبين ولا طرقات الابواب، ومضت العاصفة تظهر في بطون من لا حول له ولا قوة، إلى طلوع الفجر…”
رواية ليست بالرواية فهي خالية من التخييل والتخيل الا في تأثيث المشهدية الاقناعية لأن الخيال والذي لم يكن المؤلف في حاجة له يكون من موجبات الأثر الأدبي لأن الواقع ومرارته فتحت المسرح الحياتي الحقيقي على مصراعيه بتوثيق الزمان والمكان والشخوص والأحداث ليكون القلم أشبه بالكاميرا التي تلقطت الأحداث وتتبعت الشخوص بعضهم في مسيرتهم النضالية وبعضهم في مسيرتهم العنفية الظلامية وبعضهم في معاناتهم الصامتة الموجعة لفقد حبيب أو غياب قريب ومكابدة نتيجة تخوف من غد قد يكون قاسيا مرٌا معلقما…
وما زاد من ثراء هذه الرواية تلك الجداول التي وشحت عشرات الصفحات لتكون مصادر ومراجع لكل باحث أو دارس يبحث عن الحقيقة التي ظن الطغاة أنها أعدمت بإعدام ثائر أو معارض أو محتجٌ.أو تغييره في “أبو غريب “الغريب وغيره من السجون المكبلة بالقضبان .
* ملحق ١ المعتقلات والسجون في عهد صدام حسين .
* ملحق ٢ أسماء العوائلنن أهالي بلدالذين اعتقلوا في صحراء (الشيحيّات) سنة ١٩٨٢.
*٣ أسماء شهداء من أهالي بلد….
أما الاهم والذي يرتقي بالرواية إلى مقام الحجٌة والبرهان فعلا فهي تلك الصور من داخل السجن، بدءا بمفتاح الزنزانة إلى نماذج من مذكرات المؤلف في سجن أبو غريب وصور المعتقلين في مشهد اقرب إلى التمثيل تزويرا وغشا أو لسجناء وراء” قضبان لم تصنع سجنا.”
هي المذكرات التي بنت حجر الأساس لهذا المؤلف الضخم الحاضن الموثق لما قد يسقط من الذاكرة الشعبية الهشة .
هو مؤلف ثري ثراء الماضي المضرج ظلما وعدوانا وهو المحذّر لكل حاكم كي يعتبر ويتعظ .
هي وثيقة ستكون مصدرا ومرجعا لطلاب التاريخ والحضارة والأدب وهي التي تكتنز بتواريخ وشواهد أدبية ودينية غزيرة متنوّعة.
أتمنى أن تترجم إلى كل اللغات ليعرف الإنسان ماعاناه الإنسان من الإنسان اللاّانسانيّ .
“القضبان لا تصنع سجنا” رواية بفنيات السّرد الخطي المتواتر تتخلله قفزات وومضات واسترجاع من ماض بعيد أو قريب وتقنيات الحوار والمونولوج الذي يكشف ما ضرٌج الشخوص من تراكمات موجعة مؤلمة. إضافة إلى المشهدية المسرحية العالية في رسم المواقف والتقدم بالاحداث تصعيديا بحبكة تبنى وتسير نحو تأزم يشد المتلقي ويؤثر فيه بما يولد في نفسه نقمة على الطغاة وتآزرا مع الشخوص المكلومة المضطهدة.
وثيقة يعود إليها شباب الأمة كي ينبذوا العنف ويجنحوا إلى الحوار والتراحم والتسامح والتعاون ليبنوا غدا افضل من ماض مازالت دماء ضحاياه تؤشر على مجازر ومقاتل آثمة يقول في صفحة ٣٦٨ “أنذرت الولايات المتحدة الرئيس بسحب قواته من الكويت الى يوم ١٧ كانون الثاني ١٩٩١ …هي تواريخ واحداث حفرت في الذاكرة وان صارت مجرد ذكرى فإن تبعاتها مازالت قائمة تعصف بالأمن الإنساني واستقراره إلى اليوم.
رواية تغوص بالمتلقي في المكان الذي سيكتشفه وهو يتابع خط سير شخصية أو فرقة أو مجزرة تتحرك في الارتال أو في المدرعات الحربية شمالا أو جنوبا، شرقا أو غربا.
بت اعرف المقاطعات والمدن وخصائص كل منها وما يميزها أو يخصها كانتماء سكانها ومذاهبهم فهم شيعة أو سنة أو أكراد أو أو …. فحينا تجدنا في شارع فلسطين وحينا اخر في ساحة بيروت. وأخرى في النجف أو كربلاء أو بابل …
لكن الاهم فعلا والذي اؤاخذ عليه جبار عبود آل مهودر هو أنني وعندما انتهيت من قراءة الرواية وتخلٌصت من عبئها بل أعيائها فإنني لم انته منها خاصة وبصري ومثلما اصطدم بالعنوان “القضبان لا تصنع سجنا” فقد اصطدم بعبارة اربكتني أكثر من العنوان ومن السجن والقضبان أنها “وللحديث بقية”
آية بقية أيا سيدي؟
اعلم واعرف أن الكاتب عندما يتكئ على الذاكرة فهي لن توفر له كل ماجدّ وحصل في الواقع والحقيقة المرة بل ستخذله الخذلان كله إذا ما أراد الغوص في الجزيئات ونبش مواطن يغلّفها الغموض فتبدو ككوى ضبابية تلتف على الحقيقة الحقّة. لكن الكاتب أيضا مسؤول لانه يتخيّر ما يوليه اهتماما ويفصٌله تفصيلا سردا ووصفا وحوارا، وما يهمله في رف النسيان لانه يكتب وفق منهج معين وزاوية رؤية معينة خاصة ببطل شخصية مشاركة في الأحداث وله عذره في ذلك لأن زمن السرد بعيد عن زمن الأحداث.
ايكون هذا الإفلات وهذا التغاضي هو “البقية” أم أنّ اللواحق أقسى من السوابق ام أنّ الذّاكرة المتحالفة مع الوجع والأسى مازالت ترشح بما سقط سهوا أو عن قصد لكاتب اعتنق النضال الموثق المؤشر عما حصل ذات حقبة مخيفة مرعبة.
ما التزم به أنني سأحاول ألا أقرأ هذه البقية كي لا أنشغل بها بقية زماني مثلما شغلنني “سجن لا تصنعه القضبان”
حبيبة المحرزي
تونس / نيسان 2022