الشاعر ميلود عبد القادر “عمر الغريب” ثنائية الغربة و الاغتراب من النشأة إلى القبر
ميلود عبد القادر أو “عمر الغريب” الأديب العصامي الذي نهل من منابع الحداثة
بوخلاط نادية
شكل الراحل ميلود عبد القادر طفرة في عالم الأدب من خلال عزفه المتفرد لسيمفونيات الخلود و التمرد في أشعاره التي تتميز بالبعد الفلسفي العميق ، فهو الفيلسوف الصامت المشحون بالتوقعات الحسية التي لا يدرك كنهها و مفاتيحها سواه ، فيلسوف ولد في زمن اللغط و عاش فترة ازدهار الفكر الحداثي ، عاصر الراحل بختي بن عودة و نهل من رنين فكره المتطلع للأفضل و نهم من روائع الأدب حتى الثمالة .
ميلود عبد القادر كان متمردا في زمن الخنوع و أحناء الرقاب و القبول ب”أدب الفاست فود” الذي سرعان ما ينسى و لا يترك أثرا للنقاد ان هم رغبوا في نقد تلك “الخربشات” الارتجالية التي لا غث و لا سمين في ما تحتويه .
من وحي فكره العميق كانت قصائده التي كان يلقيها خلال الملتقيات الأدبية رسائل قوية تزلزل القاعة و قلوب السامعين ، فكان هو الشاعر السامق الهامة و الكبرياء يرفض كل أشكال التذلل ب”كاريزما” قلما نجدها في أحد .
ان ممارسة الفعل الأدبي و الشعر بنوعيه الموزون و الملحون او الشعر الشعبي كما يتعارف على تسميته في الجزائر هو أداة حرب و بندقية مصوبة تجاه الأعداء الذين استخفوا به و بعضهم اعتبره شاعر نصفه عاقل و نصفه مجنون يفتخر برفضه لتلك الرداءة التي كانت سائدة في محيطه بوهران حيث اضمحل الفعل الثقافي بوهران بعد رحيل بختي بن عودة و عمار بلحسن الذي يعتبر من رواد البحث في سوسيولوجيا الرواية والقصة في الجزائر، لم يكن ذلك الاضمحلال ليروق للشاعر و المفكر ميلود عبد القادر الغيور على الأدب و الذي كانت تثير حفيظته تلك العبثية التي جنح إليها الأدب الجزائري الذي وجد نفسه كمفترق الطرق ، فيما صارت الممارسة الشعرية ارتجالية أيضا و صار كل من كتب حرفا يلقب بشاعر و تعلق له النياشين و يسمى أديب!! .
ميلود عبد القادر أو “عمر الغريب ” ، ثنائية الغربة و الاغتراب
اختار الشاعر ميلود عبد القادر ككثير من الأدباء عموما اسما مستعارا و لقب نفسه ب “عمر الغريب” و هو الذي غادر قريته الصغيرة “دوار الزهايرية” بعمي موسى الكائنة بولاية غليزان و هي إحدى ولايات الغرب الجزائري ، غربة فرضت عليه فانتهج سبيلها مرغما للبحث عن آفاق أرحب تتفتق فيها موهبته لأنه لم يكن شاعرا و كاتبا فحسب بل كان فنانا و خطاطا و لا يمكن للقرى كمثل قريته “دوار الزهايرية” التي رأى فيها النور ذات سابع من شهر أبريل “نيسان” سنة 1964 ،ففي تلك الفترة أن تجعله يبرز موهبته فللأمكنة أثر في بروز المواهب و لان المدن الكبرى تمنح مساحة أرحب لفنان مثله متعدد المواهب فحذا ميلود عبد القادر حذو النوارس في البحث عن فضاء يحلق فيه بروافده الفنية الأربع يضاف إليها ممارسة الكتابة المسرحية .
“عمر الغريب ” كان شخصا استثنائيا في زمن العبث ، فغزارة علمه و ثقافته و مطالعته لجميع الكتب منذ الصغر جعله يكتسب ذلك الرصيد المعرفي الذي مكنه من شق طريق الكتابة و مسلك الأدب و كان ينشر أعماله في عدة صحف وطنية على غرار جريدة “الجمهورية” و ملحقها الأسبوعي “الجمهورية الأسبوعية” التي كانت حاضنة للمواهب و مدرسة للمبدعين توجيها و نقدا ، فضلا عن نشره في صحف أخرى على غرار جريدة ” الشعب” ، “المساء” و جريدة النصر التي احتضنت كتاباته بكل ألوانها شعرا و نثرا و قصة ، و لان الموهبة لا تصقل و تشحذ إلا إذا كان صاحبها قد مشى على درب الأشواك ، فميلود عبد القادر عاش غربته و هو طفل و ساهمت غربته الذاتية المتفردة في تكوين شخصيته و شحذت ذكاءه الحاد كما تشحذ السيوف الصوارم .
انظم الراحل ميلود عبد القادر أو “عمر الغريب ” إلى فرع اتحاد الكتاب الجزائريين بوهران في 2012 و تقلد رئاسة هذا الأخير في 2013 .
لازمه ذلك الاغتراب الكينوني في تجلياته الزمنية و المكانية فأثرت على شخصيته و تلون بها إبداعه و برزت جلية في أشعاره التي كان يعزفها على أوتار حزن دفين تجلى في نبرات صوته الخافت و الرصين رغم كل تلك الجروح الداخلية التي حالت عزة نفسه و كبرياءه أن يبوح بها ، فكان يخبأ تلك الأحزان في سرداب قلبه و مع كل تلك الآلام كان “عمر الغريب” محبا للمبدعين و مشجعا لهم و جامعا لشملهم في كل الحالات لا يبخل بالنصيحة على أي كان
عمر الغريب ، خانته وهران و ما خانها
عمر الغريب ظل يعيش بتلك الغربة و في صدره ثورة و غيرة على الثقافة بها و لكن لا أحد من المحيطين به من الأدباء استطاع أو تمكن من فهمه و تقدير جهوده ، ف”الصعلكة ” كانت قد تغلغلت و غرست جذورها في الوسط الأدبي الوهراني مع الأسف و باتت الشحاتة الأدبية و تعليق النياشين لمن لا يستحق و رفع البعض و ضم البعض الآخر و إقصاء الصادقين تحول الوسط الثقافي بهذه المدينة الى عفن ، ذلك العفن الذي تأفف منه ميلود عبد القادر ليصير عدوا لدودا لبعض متصنعي الثقافة الذين نصبوا أنفسهم حماة و رعاة لها ، و لأنه كان إنسانا صادقا لا يخشى في قول الحق لومة لائم أدركته حمم بعض الجهلاء، و صارت الغربة مجددا قدره المحتوم في ذلك الوسط الموبوء ، فواجه غربة المكان ، الزمان و الرفاق بذلك الصبر و الجلد في حرب مستميتة خاضها ضد الرداءة فاتحا أبواب اتحاد الكتاب الذي ترأسه لكل المواهب الشابة و للمخضرمين أيضا في الحقلين الثقافي و الأدبي ، لم يكن ذلك ليرضي من تشكلوا في “تكتلات” أشبه بعصابات المافيا و التي كانت تدافع انطلاقا من مستنقعها النتن عن تلك الرداءة بكل ما أوتيت من قوة .
عمر الغريب خانته وهران مرة أخرى و جدد جرح الاغتراب الذي تفتقت في كل مرة يجد فيها نفسه وحيدا مثقلا بهموم الأدب و الثقافة في وطن تعفن فيه الوضع و اضمحل ، وهران خانته لأنه لم يجد بها مستقرا قارا و لا سكن يحتضن أحلامه الشاسعة شساعة الأحلام ، تجرع ككل المثقفين في هذا الوطن مرارة التهميش رغم الشموخ و معاول الهدم التي حاصرته و من تجاهله و عجز عن مد يد العون حتى وهو في اوج لحظات التعاسة ، وهران خانته كما خانت الكثيرين من قبله فوجدوا أنفسهم على الهامش ، هضم ديوان حقوق التأليف و الحقوق المجاورة و ظل يركض وراءهم على أمل استرداد حقه المسلوب لكن ركضه ذاك كان بلا جدوى ، كان ينوي العودة إلى قريته منتصرا كما وعد أمه بأنه سيعود و قد كون نفسه و ناجحا في مشاريعه التي سعى إليها .
ميلود عبد القادر أو ” عمر الغريب” رحل عن دنيانا في الرابع من سبتمبر 2019 بعد وعكة صحية مفاجئة لازمته و أدخلته في غيبوبة بقسم الإنعاش بمستشفى وهران ، فارق الحياة وهو بعمر 58 سنة ، رحل و هو يحمل أوجاع الظلم و التهميش و خفافيش الظلام التي حاولت تشويهه ، فحتى في الموت و هو يلفظ آخر الأنفاس كانت الغربة بكل أبعادها ، أطيافها و تجلياتها قدره المحتوم و هو يودع هذه الدنيا المخادعة التي تظلم الصادقين و لا تعترف بطيب النوايا ، رحل عمر الغريب تاركا وراءه مؤلفات بها عصارة تجاربه الحياتية بمرها و حلوها و تمثلت في ديوانين في الشعر الملحون و هما ” كلمات للغناء و أخرى للهجاء” و ديوان ” كلمات و معاني من الوسط الوهراني” ، فضلا عن ديوان في الشعر الفصيح عنونه ” بكائيات في عمق الزمن”
حتى في الموت تجلت غربته فنقل جثمانه ليوارى الثرى وسط أهله و عشيرته ببلدية “حد الشكالة ” و في قلبه غصة تفوق غصة الغربة و الاغتراب كونه لم يحقق أمنية والدته في العودة إليها متوجا بنياشين النجاح و كأنه قدر للكتاب أن يعيش سوادهم الأعظم على هامش الحياة .
بوخلاط نادية