رواية “خياط غليزان” للكاتبة أوليفيا القايم

درب الآلام لعائلة يهودية جزائرية زمن الاحتلال الفرنسي
رواية “خياط غليزان” للكاتبة أوليفيا القايم
درب الآلام لعائلة يهودية جزائرية زمن الاحتلال الفرنسي
نادية بوخلاط


ولد كتصالح مع ماض بعيد ليرى النور مشحونا بالذكريات الجميلة و المؤلمة أيضا ، هكذا عادت الكاتبة “اوليفيا القايم” للنبش في ماضي عائلتها لطالما حاولت نسيانه و تجاهله بشكل او بآخر و ان تقنع نفسها جاهدة أيضا بأن هناك صفحة طويت و نفي كل شيئ يربطها بتاريخ وجود عائلتها بالجزائر و بمدينة غليزان تحديدا ، لكن الماضي ليس ورقة نمزقها ثم نرميها في سلة المهملات و نتخلص منها بتلك السهولة و الأريحية كما نظن ، فالماضي هو جزء منك يلحقك حيثما ذهبت كظلك و ينتظر فقط الفرصة ليمثل أمامك بآلامه و أفراحه.
” خياط غليزان” أو “تارزي غليزان” هو قبل أن يكون رواية هو تصالح مع ذلك الماضي في مسار عائلة تعلقت بمدينة بغليزان في زمن الاحتلال الفرنسي تعود بنا هذه الروائية المفعمة بالأحاسيس الى ماضي عائلتها و من خلال شخصية جدها الخياط “مارسيل القايم” الذي تعرض للاختطاف من قبل مجهولين و هو الذي ظل يخشى على سلامة زوجته و طفليه ، و هناك يواجه مصيره المحتوم في لحظة الاختطاف تلك كان بين فرصة العودة أو الموت ، هناك تحدد مصيره الذي كان بيد خاطفيه ، لكن الحظ كان حليفه و بعد ثلاثة ايام يطلق سراحه و يعود إلى مدينة غليزان ، وتلك العودة إن كانت أدخلت الراحة و الفرح على قلوب والدته و أشقاءه الذين إلا أن صمته حيرتهم ، صمت ظل ملازما له ربما كان الدافع تهديدا أو خوفا لا احد استطاع معرفة الحقيقة .
بوقت غير بعيد تحملنا الرواية إلى فصل جديد و في مشهد رحلة المنفى و مغادرة ارض قطعت جذور تواجدهم بها ، من ارض الشمس و الدفء تحزم العائلة حقائبها و تغادر الجزائر ومدينة غليزان بشيء من الألم و كثير من الانكسار ، ذلك المصير كان “مارسيل القايم ” أول من علم به حين قصد محله طفل كان يلقنه أسرار المهنة حيث أدرك حينها بأنه سيأتي يوما و يكون فيه مجبرا على مغادرة هذه الأرض إلى غير رجعة
سفينة المنفى رست بالعائلة في فرنسا ، هذا الانتقال من أرض الشمس المشرقة تجد العائلة نفسها في احد الأقبية المظلمة المؤجرة و في مواجهة غد اشد سوادا و قتامة ، و هناك تسقط أقنعة الزيف التي كشفت الوجه الحقيقي لفرنسا الحريات و حقوق الإنسان،فرنسا العنصرية و ضمنيا فجيعة قانون كريميو العنصري ، يظهر وجهها المقرف ، و تعيش العائلة تلك الظروف القاهرة و يحيى جدها مارسيل على ذكريات مسقط رأسه و يستبد به الحنين إلى مدينة غليزان حيث ذكريات المولد و النشأة و منبت العائلة و الأصدقاء ، ألم الفراق يظل يلازمه حتى الوفاة برغم انه استطاع بصبر و جلد ان يبني حياةته مع أسرته و لكن الجرح سيظل نازفا و ينقله إلى ابنه “بيار” الذي حاول ان ينقل لابنته “أوليفيا” ذلك الإرث العائلي الثقيل و عشق وطن ظل يسري في عروق والده ، فكان الحديث عن غليزان ، هذه البلدة الصغيرة و الجميلة ذات الطابع القروي و الفلاحي و التي كانت تسمى في تلك الفترة ب “باريس الصغيرة” ، كما كان الحديث مفعما بالمشاعر الجياشة عن الجزائر أيضا حاضرا في كل المناسبات العائلية و حفلات الختان و الزواج و الأعياد الدينية أيضا، بخيط رفيع تقودنا الكاتبة و تغوص بنا في تلك الحقبة من الزمن الذي كان جميلا رغم وجود الاستعمار ، زمن كان التعايش الديني و التسامح بين مختلف الطوائف و الأعراق أسلوب حياة و نمط حضاري افتقدناه في زماننا هذا ، زمن كانت القلوب مفتوحة و البيوت أبوابها مشرعة على الخير و السلام ، زمن كانت تجمعهم الأفراح و الأعياد و الأحزان أيضا ، نلمس بمرارة ذلك الحنين الذي لم تخفه او تحاول ان تداريه و تتنصل منه أوليفيا القايم، و لا تنفي حنينها لذلك الزمن الجميل حيث النوايا كانت ابلغ و تتجاوز كل الفروقات و الاختلافات .
و عن الدافع الذي حفزها للكتابة و إعادة ربط العلاقة مع جذور عائلتها المتصلة بالجزائر تقول “أوليفيا القايم” أن الماضي لا يمكن أن يظل مخبئا في صندوق ، كنت أعلم جيدا أنه سيأتي يوم سأحن فيه الى تلك الفترة من ماضي عائلتي ، و أشعر أنني من خلال هذه الرواية قد نجحت في التصالح مع جذوري و أصولي و مع وطن يظل جزءا مني و ان لم أعد موجودة فيه لاعتبارات عدة من أهمها أنني حاولت العودة و زيارة مسقط رأس جدي و عائلتي بغليزان لكن السلطات الجزائرية رفضت منحي التأشيرة و ربما سأتمكن من المجيء يوما ما .
هذه الرواية هي أيضا تحية لأجدادي و تكريما لهم و من خلالهم لكل اليهود الذين ولدوا و نشأوا و ترعرعوا في الجزائر أرض الدفء و المحبة و السلام .
و الجدير بالتذكير فاءن رواية “خياط غليزان” صدرت عن دار ستوك للنشر و التوزيع بباريس و تقع في 132 صفحة قطع متوسط جديرة بالقراءة ، إن كانت”أوليفيا القايم” قد تصالحت مع ماضي عائلتها هل سنملك نحن نفس الجرأة للتصالح مع أصولنا و هويتنا و مع كل الحضارات و الشعوب التي استوطنت و طاب لها رغد العيش على ارض الجزائر أم أننا سنستمر في تزييف الحقائق أو دفن رؤوسنا في الرمل كما تفعل النعامة ؟!!! .

ب.نادية

 

رواية "خياط غليزان" للكاتبة أوليفيا القايمنادية بوخلاط
Comments (0)
Add Comment