تحت درجة 49 مئوي

قصة قصيرة واقعية من فراغ ايام السياسيين الخارجين من السجون

155
قصة قصيرة واقعية
من فراغ ايام السياسيين الخارجين من السجون
(تحت درجة 49 مئوي)

 

درجة الحرارة في بغداد لهذا اليوم 49م وهي فوق المعدل ودرجات الحرارة في عواصم الدول هي كالاتي برلين (24 درجة) موسكو (18 درجة) براغ (16 درجة) دمشق (32درجة) . اغرق جوفه بثلاثة اقداح من الماء البارد بعد ان كان قد شرب قبل قليل زجاجة المياه المعدنية دفعة واحدة، رفع سماعة الهاتف وعندها شعر بان درجة الحرارة التي اعلن عنها المذيع قد لسعت اصابع يده اليمنى التي رفع بوسطتها سماعة الهاتف، كان ضجيج اصوات جلاس المقهى يختلط بصوت لهاث محركات السيارات المزدحمة عند تقاطع شارع الجمهورية مع شارع الامين مما جعل الهواء الملامس لملابسه اليابسة تتعدى درجة حرارة 49 مئوي، ادار قرص الهاتف وتحسس الارقام بسبابة يده اليمنى وكان عليه ان يكرر الملامسة ستة مرات، وكان يتوقع ان يسمع صوته من الجانب الاخر ويتعرف عليه من نبراته المألوفة والمتميزة لديه منذ سنوات عديدة بدأت في مكان ما وانتهت في (نقرة السلمان). كان عليه ان يتشبث بقوة بالعبارات التي سينطق بها الا ان درجة حرارة 49 مئوي أفسدت عليه الامر وبخرت بعض الكلمات المهيأة سلفا. بدأ خيط العرق يتصبب من جبينه وينحدر رويدا رويدا الى رقبته وبلا استئذان اقتحمت ثلاث قطرات منه لتندس في الاشواك المزروعة فوق قفصه الصدري. لم يكن من السهل ان يميز الصوت المنطلق من سماعة الهاتف فبدا له اشبه ما يكون بحشرجة حيوان خرافي، بذل جهدا سايكولوجيا مضاعفا وحسا فائقا من اجل ان يقتنص ولو جملة واحدة ليتعرف من خلالها على نبراته المميزة الا ان دغدغة العرق المتصبب من ارجاء مختلفة من جسده وغمغمات رواد المقهى وصوت المنادي وهو ينادي (نركيلة ياولد) واخر طالبا للحامض الذي تأخر فيصرخ (وين صرت صارلي ساعة ردت حامض) ان تلك الاصوات وطقطقات الدومينو احالت دون ذلك. استدرك بان عليه ان يناديه بأسمه لينتشله من زحمة الاصوات المتلاطمة… عباس، هل عباس مسلم موجود؟ …. انت المن تريد؟: هذا موبيت عباس؟ واعاد على السامع رقم الهاتف الذي يحتفظ به منقوشا على قصاصة الورق، والذي لامسته سبابته من دون ان ينظر الى الارقام المختبئة في محاجر قرص الهاتف. وبكلمات كالتي يحدثها مثقب كهربائي ارتجت مسامعه واهتزت طبلة اذنه اللصيقة بالسماعة، كان صوت الطرف الاخر عدائيا واستفزازيا.. انجب .. اكل خره …. استحي على نفسك. ارتفعت درجة حرارة المكان والهواء الملامس لكيانه لتصبح فوق المعدل بعدة درجات ، اعاد السماعة الى مكانها بهدوء واسدل قسماته الحزينة كي لا يتعرف الاخرون على الارتباك الذي اصابه. جرجر نفسه ليجلس في زاوية بعيدة في المقهى ولا تبارحه العبارة الوسخة التي تردد صداها في مسامعه. تطلع الى الارقام المنقوشة في قصاصة الورق فتبين بانه قد أخطأ في ترتيب الارقام، مارس عادته الهلامية وراح في مسيرة طويلة من الافكار المعشعشة في جمجمته المعشوشبة عله يعاود الكرة او ينتظر وقتا اخر عسى وان يطل صاحبه بطلعته المشاكسة لكنه مل الانتظار وانصرف في زحام الشارع معاتبا صورة صديقه المرسومة في الفراغ والذي بدا له وهو يضحك ملأ شدقيه ويهتز جسمه طربا لما حصل.

لطفي شفيق سعيد
بغداد/ مقهى البيروتي / 1967

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المقالات