(ن) سـجاح.. قصائد ما بعد البوح دراسة نقدية أسلوبية (الجزء الأول والثاني)

أ.م.د. مصعب مكي زبيبة

372
(ن) ســــــــــــــــــــــــــجاح….
قصائد ما بعد البوح دراسة نقدية أسلوبية
(الجزء الأول)
أ.م.د. مصعب مكي زبيبة
أستاذ الدرس البلاغي والأسلوبي/ جامعة الكوفة

 


إذا كانت اللغة على مستواها الاعتيادي لا تتعدى الإبلاغية والنفعية والتوصيلية، فإن اللغة على مستواها الإبداعي تتعدى هذه الإبلاغية المباشرة لتصل إلى مستوى الإثارة والاكتشاف والتفاعلية والتكثيف، وهنا نصل باللغة إلى مرجل الجمال ونيران الإبداع الذي يضطلع بها الشاعر أو الأديب بصورة عامة. وهنا تفقد الكلمة إطارها المعجمي لترسو على مرفأ من الدلالات المختلفة المحلِّقة في سماء السياق الرافض للركود والثبوت والتحجِّر والتجمد… فتتصاعد العلاقات الاستبدالية في أفق عمودي مشرع في مستواه الاختياري. فالشاعر المبدع هو القادر على تثوير الطاقة التعبيرية الموجودة في اللغة في عالمها الافتراضي إلى الخصب والتوهج المتفجر بالدلالات الجديدة المتنامية. وهنا تظهر الفوارق قوية جلية بين أديب وآخر… بين أديب يستعمل في شعره أو روايته الكلام التوصيلي في سير أحداث قصته وآخر لا يقبل إلا أن يتعدى تلك اللغة الجافة المتخثرة غير الشاعرية، ولهذا اختار الأديب (حميد الحريزي) المتمدد في سماء الكلمة فهو الشاعر القاص الناقد اختار بل انحاز إلى اللغة الأدبية التي تتفجر فيها الطاقات اللغوية، كيف لا وهو الناقد العليم بوظيفة الشعر (الأدب) الذي مهمته ليس الإيصال الذي يحاكي ردود فعل المتلقي المادية والذهنية وحسب بل يتعداها إلى التموجات الشعورية والنفسية والوجدانية، هذا التثوير وهذا التفجير في الطاقات اللغوية في معجمها الثابت نجده واضحا جليا في مجموعته الشعرية (ن) سجاح التي طبعت عام 2019م عن دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع في بغداد السلام. ففي قصيدة (ومضات العشق) نجد الأديب (حميد الحريزي) قد صاغ عالم القصيدة من مرحلتين، مرحلة تنطلق من الحزن باتجاه الفرح الذي يتصاعد من الصمت والآهات نحو الرفض والحقيقة ولا سيما في المقطع الأخير التي تتبلور فيه المرحلة الثانية، إذ تعلن هذه المرحلة الانفراج من كوة الظلام والضجر… يقول الشاعر في كينونة المرحلة الأولى: سنوات استمرَّ نزيف الذكرى/ قولٌ خفيٌّ خلفَ الرموشِ تبوح ولا تبوحُ/ تفتحُ البابَ فيداهمها الظلامُ/ يتكورُ قلبي خلفَ مزاليج المحظور/ تحاصرني عطورُ الرغبة/ تتداعى أسوارُ الآهات المكبوتة/ يأسرني تنين العادات/ تلهبُ روحي نيرانٌ لا ترحم/ يطول الهمسُ المكظوم/ تذرونا رياحُ الفرقة/ تتصحَّرُ أيَّامُ اللهفة/ تتراكم ثلوجُ اليأسِ/ تدلهم غيوم الحزن…. ويستمر الشاعر في إيراد ما يسري في نبضه الوجداني من نيران حارقة تحيط به في ساعات من تأملات مدمرة وذكريات متربصة سوداء؛ ليصل في نهاية قصيدته، أو مشاوراه الإنساني (النفسي) أو قل سيرته الذاتية (المرحلة الثانية)، إلى الانتصار على عوامل الترهيب والتعمية والفوضى والمجهول يقول الشعر في المقطع الأخير، وهو ما يشبه مصطلح حل العقدة أو النهاية في الأعمال القصصية والروائية: تترادف خيولُ غيوم الأمل/ تبرقُ ترعدُ، تهطلُ فرحا جبارا/ تطلُّ بوجهها الطلقُ/ يعود بريقُ العيون/ تلتحم الشفاه، يطول العناقُ عشقا مكبوتا/ يعودُ الفرحُ من منفاهُ/ فتبتسم براعمُ الربيعُ. فهل يكون هذا المقطع استشرافا للمستقبل أو أملا بعراق جديد، وطن خالٍ من الظالمين؟!!، هل هو توقع للثورة قبل بوحها ووقوعها؟!!، هل هو استلهام للشباب للنهوض والرفض؟!!، هل هي انتفاضة تخرج من بركان الصمت بعد سنوات طويلة من الحرامان والتجهيل والتقزيم والظلامية؟!! كل تلكم الافتراضات والاستنتاجات والتساؤلات يتضمنها المقطع الأخير من القصيدة. وربما كلها صحيحة فالأدب صرح ممرد من التخييلات والاستنتاجات والتساؤلات. أما إذا وصلنا إلى قصيدة (ن) سجاح التي تعنونت بها المجموعة الشعرية ولا شك أن في ذلك دلالات منها أن القصيدة ذات مكانة متميزة في قلب الشاعر وأنها الأقرب إلى نفسه، أو أنها ذات عنوان متشظ موارب، إذ يأخذ أهليته من التراث العربي النحوي والتاريخي، فالنون تشير إلى نون النسوة، وسجاح تلك المرأة التي ادعت النبوة، فكانت المرأة الوحيدة التي تدعي ذلك. ولا شك في أن العنوان هو البوابة الأولى التي يلج منها القارئ، فالعنوان يتضمن كثيرا من المكنونات النفسية والوجدانية التي يمكن للقارئ التي يتعرف من خلالها على ميولات الشاعر ومضمون إيقاعات المعنى في القصائد. ومن العنوان يمكن أن نستنتج أن الشاعر متضامن مع قضية المرأة وأنه حريص على إظهار المرأة على أنها القمة الرفيعة والمثال الذي يحتذى به فهي الأم والحبيبة والمشاركة للهم الإنساني أخاها الرجل في الواقع الخارجي واللحظة الفاصلة في البناء والتعاون، هذا ما يمكن استنتاجه عند تلك البوابة المهمة من المجموعة ، أما إذا وصلنا إلى متن القصيدة فإن هذا الشعور وهذا الاستنتاج سوف يتعمق ويتجذر في نفس القارئ، فالقصيدة تضجُّ بالشاعرية المناصرة للمرأة، المناصرة لجمالها… المناصرة لعفتها… المناصرة لسكينتها… وطيبتها.. كيف لا وهي العشقية الملهمة والحورية الإنسية المضيئة الحبيبة الدافئة الزاهرة… يقول الشاعر في وصف نون الجمال والعشق والحب (ن) المرأة: اخلعي الأقراط والأساورَ/ اخلعي كلَّ الأثواب والسلاسل/ ارمِ كل الدبابيس/ فالجمال لا يستترُ. بهذه الكلمات الجريئة يبوح الشاعر، انه البوح المكشوف الذي يطرز قصيدته… أو قل إنه (ما بعد البوح)، فعشق المرأة هو الذي يسكن بين ضلوع القلب ويفترش الفؤاد على بساط من الشوق، العشق هو الجمرة التي لا تخمد والجرح الذي لا يلتئم والأنفاس التي لا ترقد أو تتأود والحرارة التي لا تبرد هكذا يصور الشاعر عشقه المتجرد (ما بعد بوحه) ، فهو لا يقبل أي حاجز اثني وإن كان حاجز جمال وزينة، ولهذا يطلب من المعشوقة أن تخلع الأقراط والأساور، فالتجرد هو الحقيقة الناصعة التي ترفض الغش والغل والزيف… أراد الشاعر نزع كل أساليب الخداع والآثام لتبدو المعشوقة (ن) سجاح بيضاء متألقة في سماء المحبة… يقول الشاعر: رعشةُ الحبِّ تأسرني بين النهدينِ جنتي، ميدانٌ للشمِّ وللضمِّ/ نجومُ السماءِ، جمهور
1
رعشةُ الحبِّ تأسرني بين النهدينِ جنتي، ميدانٌ للشمِّ وللضمِّ/ نجومُ السماءِ، جمهور اللعبِ/ نجومُ السماء تحاكمُ الحكمَ/ كلُّ الأقمارِ تهوي في زورقي/ مقبلةً أقدامَ عطرٍ ترسم منفرجَ النشوةِ…. بهذا الخصب وهذا البوح الجريء يمضي الشاعر بقصيدته التي تكشف عن ومضات من التكثيف الذي يوافق الممارسة الأدبية الواعية وبهذا الإعلان غير المكترث من التقاليد المجتمعية المتنخرة يمضي الشاعر في قصيدته إذ يقول في ومضة مكثفة من البوح: زورقي يتهادى بين ضفتي نهر/ الخلق ترتوي من شهد الرضاب/ فما أسعد شفة تعانق آلهة من عطر أ أناملا هذه أم أصابع لؤلؤ توسدها القمر؟ !!!/ سيدة الجان أنتِ أم أنتِ حورية تسكان البشر هكذا تمضي المجموعة بكامل شاعريتها وتكثيفها مؤطرة بقضية إنسانية محفوفة بالمخاطر. وهل الشعر إلا إبحار ضد التيار؟!!

(ن) سجاح…. قصائد ما بعد البوح دراسة نقدية أسلوبية
(الجزء الثاني)

حرص الشاعر على أن يلح على العلاقات الموطدة بين اللغة والمكنونات التي يوحي به النسق الثقافي والمجتمعي في فروض بين الرفض والاعتياد أو بين المألوف وغير المألوف، فقد اكد هذه الاستراتيجية في توصيف الأواصر الثقافية التي تدعو إلى التمرد وعدم القبول بما هو ثابت وسائد من مهيمنات يتلقاها المجتمع على أنها مسلمات متكاملة، ولكن النفس الأبية والعقل الناضج يرفض ذلك، إذ يجعل المنظور الثقافي التنموي هو الخطاب البديل وصولا إلى تنقية المجتمع من كل ما هو متعلق به من رواسب ومخلفات فرضها الاستعمار والعقل الجمعي السلبي، إذ يقول في تلك الاستراتيجية، وفي تلك العلاقات المتوترة. تحرقُ أوهامَ الظلام بين أناملِ القبل/ يولدُ للحبِّ عيدٌ جديد. فلابد من ولادة عيد جديد يمحو أوهام الظلام التي عشعشت غربانها طولا على الأوطان والنفوس. ويتصاعد هذا الخطاب التنموي الرافض حتى انه يكفر بالمقدس الكاذب الذي يسيطر على العقول من اجل الاستغلال والكسب الحرام إذ يقول: قالت: حسبتني قديسة؟/ قلت: القداسةُ مداسٌ من طين، العطر روحٌ هائم، استبداله دلالة الشك والوصول موت الهدف. القداسة إذا كانت تجهِّل الناس من اجل مكاسبها فإنها قداسة كاذبة مراوغة، وهي تختلف بالطبع عن القداسة الحقيقة التي تمتد بجذورها عميقا طهراً ونقاءً. ونلاحظ الشاعر يسخر العاطفة ومتغيراتها المتجانسة من اجل الوصول إلى الحدث المتنامي المتطور صعودا إلى سياقات من الأحداث التصويرية التي تتشابه إلى حد بعيد بالأحداث القصصية، وهذا ما شهدناه بالضبط بالمقطع السابق الذي يعتمد على تقنية الحوار، إذ يقول: قلت: الضحكة دالة التحدي، والتوقع أول أبواب اليقين قالت: حسبتني قديسة؟ قلت: القداسة مداس من طين، العطر روح هائم، استبدله دلالة الشكل والوصول موت الهدف. ضحكت بملء الفضاء، فتناثرت حولي الزهور وابتسم القمر. قلت: لك السعد دوما. قلت: سأكتفي بيوم، أهديتني أرقاً ، سأهديك قلادة من ماء، البسيها صديقتي لتشفيك من الظمأ. قالت: أيُّ ظمأ؟ قلت الآن اكتملت الحكاية. هذه الحوارية الشعروائية لها ما يفسرها فالأديب حميد الحريزي، أديب موسوعي فهو الشاعر والقاص فضلا عن انه ناقد… فلا بد من ان هذه المرجعيات ستظهر لا إراديا على نتاج الأديب، وهذا التماوج والتزاوج بين جنسين أدبين لابد أنه سوف يؤلف صورة ستكون أقرب لنيل الغرض المقصود وهو التأثير العاطفي والعقلي عند المتلقي. وتعد هذه الدراسة دراسة نقدية تتوسل بالدرس الأسلوبي بوابةً لفهم النص وفك شفرته، إذ عرفت الأسلوبية بأنها الوجه الجمالي للألسنة، تبحث في الخصائص التعبيرية والشعرية التي يتوسلها الخطاب الأدبي، وترتدي بذلك طابعا علميا تقريريا في وصفها للوقائع وتصنيفها بشكل موضوعي، ومنهجي. أي أنها التحليل العلمي اللغوي الذي يركز على مواضع البروز والتفوق.. ولا نعدم هذه المواضع ظاهرة بارزة، في أماكن كثيرة من المجموعة، إذ يقول في إحدى هذه المواضع الأسلوبية التي تعتمد على الابتكار والاختيار في طرحها الثقافي. أيها البحرُ هل تدلني عليه؟/ النورس المسحور/ حامل البهجة والسرور/ عشيق الشمس نورسي يلاحق حورَ البحر/ حبيبي عشيق الرياض والزهور/ هل سجل عندكم حضور. وهذا المقطع كما هو واضح اعتمد بالدرجة الرئيسة على تقنية السؤال الذي يخرج إلى غرض أسلوبي آخر هو الدلالة على الحيرة والبحث عن الجمال، ويعتمد أيضا على تقنية النداء، التي تخرج أيضا إلى غرض آخر هدفه مد الصوت والبحث عن من يسمعه ويستجيب له. وعندما نصل إلى قصيدة (لسان الورد) وهي القصيدة الأخيرة في المجموعة نجدها تضم مجموعة من المقاطع التي قد يخطر ببالك عندما تقرأها أنها مقاطع متشتة لا يجمعها عقد واحد، ولكن من يدقق ويعيد قراءتها سيجد خلاف ذلك تمام/ سيجد التزامنية بأجلى صورها وأجملها أي بمعنى الانسياب الوديع الرقراق لعدة مواضيع تتوافق في إطار واحد معتمد على تقنيات المكاثفة والتلخيص. يقول الشاعر في إحدى المقاطع: وريقات الورد لا تعرف الجفاء / وريقات الورد تعتصر نسغ روحها لتولد الثمار. ويقول في مقطع آخر: الماء لا يعرف الأنساب/ الماء أودعنا نون النسوة / الماء يروي الكل / لأننا جميعا أولاده. فلنحظ التوافق والاندماج الموضوعي واضحا في كلا المقطعين فوحدة المقاطع هو العطاء والتواصل في البذل… فمن يعطي لا يعرف الجفاء ، ولا يعرف الأنساب، من يعطي يعتصر نسغ روحه لكي يروي الكل .. فالشاعر هنا يوفق في توليد تزامنية وذلك من خلال ما يظن أنه يفتقد للوحدة الموضوعية ، وهنا يبرز الإبداع أو ما يعرف بكسر المألوف لتوليد نسق سمفوني متجانس متماسك معنى ولفظا على الرغم من أنها تصدر من آلات موسيقية مختلفة. نلاحظ هذا النسق السمفوني أيضا من خلال قول الشاعر : الليل لا يخشى السعالي / الليل تعانقه الشمس / بشفاه الفجر الحمراء، فينتحر. وفي المقطع الأخير: الأجفان لا تغلق أبوابَ الهمِّ/ الأجفانُ تحجبُ رمادَ الحرب، فيغادرُ النومُ عيونَ الأطفال وفي النهاية لابد من الإشارة أن المجموعة غنية بمدلولاتها الأسلوبية والمعنوية والموضوعية وارى أن دراسة من هذا النوع تعتمد على الإشارات القصيرة والومضات السريعة لا تكفي، ولهذا أدعو طلبتنا في الدراسات العليا إلى تكثيف البحث عن هذا الغنى وهذا البروز الفني الظاهر، وعدم الركون إلى ما هو سائد وجاهز من دراسات قد أشبعت بحثا وآن الأوان إلى التجديد النقدي من خلال البحث عن موضوعات غير مدروسة جديرة بالدرس والقراءة وخير دليل هذه المجموعة التي أصفها بالغنية في تمردها على السائد والمألوف.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع