نـــــارُ السُـــؤال

685

[كُنتُ مستلقيًا في غُرفتي أستعدُ للسفر نحو كوكب الأحلام، لارتاح بعضَ السُويعات مِن حياتي المُزدحمة بالأوهام، وحتى أتُوب عن خطايا الفَهم، ألقيْتُ عنّي أسلِحتِي وذخيرتها المُتكوِنّة مِن رصاص القلم، وشَرعتُ في تلاوة أفكار الليل مُنتظرًا حضُور صُوَيحباتِي مِن بنات أفكاري ليشغلْنَني قليلًا عن حكايات الغم وقصص الهم.

كانت الطمأنينة تتجمَّل وتتعطّرُ بأفضَل ما لديها دُون أن تُقابِل المِرآة كعادتها كلَّ ليلةٍ، ثمّ اقتربَت منّي واخذت تتحسّس يدي بيدها واضعةً رأسها على كتفِي، وككُلِّ ليلةٍ تُراودُني فيها عن عقلي حاولت أن تُلصقَ جسدَها الفاتِن بجسدي وتحتضِن وعيي ثُم تشرَع في تقبيل إدراكي، لتُباشِر بعدَها مداعباتِها اللّيلية التّي تجعلني بها أقع فريسةً بين أحضانِها وأُبادلها لذّة الهدوء، فتُخرجَ منِّي شَهوة التّفكير لتَطرُده بعيدًا دون رجعةٍ، وتَستبدله بشَهوة الاطمئنان، لكنّي هذه اللّيلة ولأوّلِ مرّةٍ امتَنعتُ عنها!!

نظرَت وهي تَرمُقُني بعينين على وشَك أن يجعلانَني أهيم بعِشقها هُيامًا، واستفسرَت عن سببِ امتناعي المُفاجئ وصدِّي لها على غير العادة، فتحجّجتُ بالأرقِ الذِّي يجعلني أميل الى رذيلة التّفكير، فغلَّفت غضَبها بمعسُول الكلام قائِلةً: (لا يَنبغي لمِثلك في حضرتي أن يقَع في خطيئة التّفكير، فتبُوء بإثمِك وتكون مِن أصحابِ الجحيم، ذلك جزاءُ المُفكّرين)، فلمّا أحسّت مِنّي كُفرًا غلّقَت الأبواب وقالت كلبُؤةٍ تجرّدت مِن سَكِينتِها: (هيتٍ لك، أريدُ أن أطلُبك في فِراشي كلَّ ليلة، فإيّاك وردّ طلبي)، لكنّنِي أخبرتُها أنّ عقلِي أحسَن مَثواي و مِن المُشين خيانتَه باستمرارٍ، لكنَّ جُنُونها جُنّْ ونزعَت عنها ثَوبها فلم تَعُد طُمأنينةً، فلقَدْ همّت بي راغبةً في اغتِصابي، لولا أنِّي رأيتُ الشّياطين تَتنزّلُ عليّا مِن كلّ صوبٍ وحدبٍ مثنى وثلاثا ورباعا لتَصرف عنّي فاحشة الخضُوع و سُوء الخُنوع..

تغوّلت التّي كانت طوال لياليها ربّةً للسكينة والطمأنينة، وعندما استَبَقتُ باب النّجدة لعلّني أنجو هذه اللّيلة، قدَّتْ بخُبثٍ خيالي من دُبرٍ فألفيتُ ملائكةً غلاظًا شِدادًا لدى الباب، فقالت: (ما جزاءُ مَن أراد بآلهتكم سُوءًا الاّ أن يُسجن أو عذابٌ أليم)، قالوا وهُم غاضبون: (عذِّبُوه كلَّ ليلةٍ يُفكّر فيها أو اطرحُوه أرضًا يَخلُ لكم وجهُ آلهتكم ويَأتي مِن بعدِه مَن يَعشقُها ويكون لها مِن المؤُنسين)، عندئذٍ قال لي رسُولٌ مِن رُسُلِ عقلي: (احذر! أضغاثُ تَخيّلاتٍ وما هُم بتأويل خيالك بعالمين، إنّي جاعِلُك على خزائِن ذاتِك فكُن بها مِن الحافِظين)، وفجأةً برز مِن سقفِ الغُرفة الشكُّ العظيم وهُو يَستلُّ سيفَ التّساؤُل، فتواروا دُون رجعةٍ وتجلّى العقلُ للوهمِ فجعلَهُ دكًّا أمّا الطمأنينة فقد خرَّتْ صعقًا، ولمّا أفاقَتْ مَذعُورةً أدبَرَتْ تركُضُ وكانت مِن الخاسِرين..

عندما تفتَّحَت الأبوابُ بعد صراعٍ وهميٍّ ركضتُ مُسرِعًا في الفلاة بعد أن كنتُ أسيرَ الطمأنينة، ودُون وجهةٍ معلومةٍ اهتدي إليها ولا بوصلةٍ استعينُ بها لأنجو مِن هذا التِّيه والضياع، كُنتُ أسيرُ باحثًا عن سبيلٍ ما بينما كان الظلامُ يَبسُطُ سُلطانَه الذّي لا يُنازعُه فيه أحدٌ، أنِستُ نارًا فسارعتُ تجاهها لعلّني اتّخِذُ مِن بعضِ لهبِها جَذوةً، وعند اقترابي مِنها نادتني تِلك النّار تقول: (يا أنتَ إنِّي نارُ السُؤال فاقترَبْ ولا تَرتعِبْ، خُذْ قبسًا مِنّي يُنجيك مِن وُحوشِ الوحدة، ويَدفعُ عنك عِلَلًا مُتعدِّدة، ويُنير لك دُروب البصيرة، وكذلك يُحضِرُ لك أرواح الابجدية التّي تغُوص داخِل دواخِلك مِن أجل التوحُّد مع أشباح معانيك، لتَصير كلماتٍ تأتيك صفًّا صفًّا و تَشُدّ عضُدَك، ثُمّ تَكون لك سلطانًا على أوهامِ الواهمين).

أتيتُ بذلك القبَسِ وأنا لا أعلمُ أنّ زُيُوس ابن كُرونوس الجبّار يُراقب ما أفعلُ عن كثبٍ، وهو يَستعدّ للعبِ نفسِ اللّعبة الحقيرة التّي لعِبَها ذات زمنٍ مع بُروميثيُوسْ الذي يَقبَعُ داخلي. . .

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

آخر المواضيع