مرافئٌ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي (الحلقة الثانية والعشرون)

660

مرافئٌ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي

(الحلقة الثانية والعشرون)

لطيف عبد سالم

 

يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلُّ شاعرٍ  كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.      

مِنْ المؤكّـدِ أنَّ مواجهةَ السَماوي سلطة الاستبداد، كانت ضريبتها إجباره عَلَى العيشِ مَا تبقى له مِنْ العمرِ ” متغرباً ” فِي المنافيِّ بعد معاناته مرارة الاضطهاد فِي وطنٍ جبلت رموزه الإبداعية وَالنضالية عَلَى استنطاقِ إرث فجيعة أهله باستيطانِ أمانيهم  حكايات وَقوافي قصائد فِي أجنحةِ طيوره المهاجرة حول العالم. وَليس أدل عَلَى ذلك مِنْ قساوةِ الدروبِ المتعرجة الَّتِي طبعت حياة الكثير مٍن الباحثين عَنْ كرامةِ شعبٍ وَالحالمين بغدٍ أفضل، حيث كان السَماوي يحيى وَأغلب أبناء جيله مِن الفتيانِ يعيشون فِي منتصفِ القرن الماضي أولى خطوات طفولتهم وسط حياة قد يصح فِيها القول إنَّها بدائية، فضلاً عَنْ كونِها بالغة القسوة بفعلِ مَا يخيم عليها مِنْ فقرٍ مدقع وَجهل وَمرض؛ إذ أَنَّ متاعَ السواد الأعظم فِي البلاد – وَجلهم حينئذ مِنْ أبناءِ المناطق الريفية – كان خبز الشعير أو الذرة، فالقمح موجود لكنه ليس فِي متناولِ الجميع، وَهو الأمر الَّذِي فرضَ عَلَى الأُمَّهاتِ العظيمات وَالنساء الجليلات اللائي تحملن شظف العيش ومرارته بحكمةٍ وَجلد، مواجهة مهمةِ رعاية أسرهن الَّتِي كانت يومذاك كما هو سائد كثيرة الأفراد. وَلا أظنني أبـالـغ أو أخاصم الحقـيـقـة إذا مَا قلت إنَّ هناك مَـا يعجز إنْسَان عَـنْ إحصائه مِن القصصِ وَالروايات الَّتِي تجعل المرء يقف مذهولاً حيال مَا تتعرض له المرأة العراقية مِنْ انتهاكٍ لحقوقِها وَيَعكس فِي الوقتِ ذاته مظلوميتها وَمدى صلابتها فِي تحملِ المآسي وَويلات الحروب، بالإضافةِ إلى تحليها بالصبرِ وَالتضحية، فالكثير منهن عَلَى سبيلِ المثال لا الحصر، لا يخلدن إلى النومِ إلا سويعات قليلة؛ حرصاً عَلَى مستقبلِ أولادهن وَمِن أجلِ المحافظة عَلَى بيوتهن بعد فقد المعيل فِي الحروبِ أو العمليات الإرهابية، ولعلَّ الأكثر أسىً حين تفقد المرأة معيلها أمام عينيها. وَمِنْ بَيْنَ أبشع صور القبح الإنسانيّ حين يلمح المرء فِي ساعاتِ الصباح الباكر خروج امرأة مسنة فِي أجواءٍ ماطرة صوب ناصية الشارع، وَهي تحاول بالكادِ دفع عربة محملة بالأواني المعدنية أو البلاستيكية؛ لأجلِ الوصول إلى إحدى  محطات تعبئة الوقود كي تحصل عَلَى حصةِ عائلتها مِنْ مادةِ النفط أو الغاز. وَأَمْرٌ مُسَلَّمٌ بِهِ أَنَّ العنفَ ضد المرأة فِي بلادِنا طالما اتخذ شكلاً جسمانياً بأساليبِ الضرب وَالركل، إلى جانبِ مَا تباين مِنْ أنواعِ التعنيف الجسماني الَّذِي تتعرض لَه المرأة العراقية فِي محيطِ الأسرة أو غيرها مِن الفضاءاتِ كالاغتصاب وَالتحرش وَغيرهما. يُضافُ إلى ذلك تعنيف المرأة المرتبط بأساليبٍ دنيئة أخرى قوامها القهر وَالتعذيب النفسي عبر بعض الإجراءات المتخلفة كالقمع الَّذِي قد يتخذ أشكالاً عدة، لعلَّ مِنْ بَيْنَها قباحة الإهانات اللفظية، وَمنع النساء مِن دخولِ الحياةِ الطبيعية بجميعِ مستوياتها الإنسانيَّة مثل التعليم وَالعمل وَالمشاركة فِي النشاطاتِ الثقافيَّة وَالحضور المجتمعي وَالإنسانيّ وَحالات الزواج المبكر الَّذِي اصبح مَعَ شديد الأسف تجارة عند بعضِ العوائل. وَالمذهلُ فِي الأمرِ أَنَّ المرأةَ العراقية مَا تَزال أسيرة الشعور بالخوفِ وَالهلع نتيجة مَا يحدث من أعمالِ العنف، مثل الخطف وَالقتل وَالتعرض للتفجيراتِ داخل المنزل أو خارجه. وَالمثيرُ للاهتمامِ أَنَّ دخول المرأة فِي العمليةِ السياسية، لَمْ يجعلها بمنأى عِنْ انتهاكاتِ زملائها، حيث أشارت إحدى البرلمانيات َالَّتِي تحمل شهادة الدكتوراه فِي أحدِ المجالات العلمية إلى أَنَّ بعضَ النواب ينادونها تندراً باسْمِ ” حجية “، مَعَ العرضِ أَنَّ بعضَهم لَم يحصل عَلَى الشهادةِ الأولية. وَلا رَيْبَ أَنَّ المرأة العراقية تُعَدّ بالاستنادِ إلى مَا قدمته مِنْ تضحياتٍ وَمَا عانته مِنْ مخاطرَ واضطهادٍ بمَا تباينت أنواعه وَأشكاله، بالإضافةِ إلى مَا لحق بِها مِنْ عنفٍ وَانتهاكات، مميزة مَا بَيْنَ نساء العالم؛ إذ تجاوزت فِي بعضِ الأحيان جهود الكثير مِن الرجالِ فِي مواجهةِ المحن الَّتِي عاشها العراق.

 

ســألـتـنـي ربَّـةُ الـحـانـةِ : مـا تـشـربُ ؟

قـلـتُ : الـقـهـوةَ الـمُـرَّةَ ..

قـالـتْ : عـنـدنـا زادٌ وخـمـرُ

قـلـتُ : إنَّ الـجوعَ قـد أشـبَـعَـنـي

والـخـمـرُ عـنـدي مـنـهُ ما يُـسْـكِـرُ صـخـراً

فـأنـا جـرحٌ فـراتـيٌّ وحـزنٌ مُـسـتـمـرُّ

أمـسـيَ الـقـهـرُ .. ويـومـي الـعُـسـرُ .. والـقـادمُ سِــرُّ

 

فـلـمـاذا جـئـتَ لـلـحـانـةِ ـ قـالـتْ ؟

قـلـتُ : كـي أعـرفَ هـلْ يُـشـفـي عـلـيـلَ الـقـلـبِ سُـكْـرُ ؟

 

مَهمَا طالَ زمَن الجراح، وَمَهمَا عاش الحزن فِي أعماقِنا، لابد مِنْ لحظةِ استذكارٍ لأيامٍ خلت ينسينا عبق صدقها وَطيبة مَنْ عاشها حزن الليالي، وَيزيح وَلو للحظاتٍ ” نَكَدِ الدُنيا عَلى الحُرِّ “. وَفِي هَذَا السياق يصف السَماوي يحيى لصديقِه القاص حمودي الكناني طبيعة الحياة أيام طفولته فِي سمائِه التاسعة – السَماوة -بالقول : ” في تلك الأيام كان عيشاً ولا أحلى، أيام ذلك الفقر الثري بمكارمِ أخلاقه وطمأنينته وقناعة إنسانه …. اقسم يا أبا علياء كان كل جار يبعث بصحنٍ مِمَا يطبخه إلى جاره، فتجد كل بيت وكأنه طبخ عدة أكلات … صحيح أنه كان طعاماً فقيراً لا يتعدى  المثرودة، حساء البصل وَالطماطم، طبيخ الحميض وَالحرش أبو زريدة، لكنه كان أكثر عافية مِن طعامِ اليوم “. وَيضيف أيضاً : ” .. وحتى نحن الأطفال أبناء الفقراء كنا أقوى وكانت أجسادنا أسلم بنية مِن أبناءِ الأغنياء، مع العلم  أنَّ فطورنا لم يكن بيضا وَقيمرا  وَمربى برتقال؛ إذ أنَّه لم يتعدَ الخبز والشاي، وفِي أحسنِ الأيام كان الفطور ما تسمّيه أمي رحمها الله – القرصاع – وهو عبارة عَن طاسةٍ كاملة من العجين الرقيق المخلوط ببيضةٍ واحدة، ولك أنْ تتصور بيضة واحدة ممزوجة بطاسةِ عجين لثمانيةِ أطفال، ومع ذلك كنا نملك مناعة ضد مرض فقر الدم الذي كثر ما كانت بيوت  الأغنياء بيئة مناسبة لانتشاره. كذلك كانت أمي تصنع لنا أرغفة خبز صغيرة بواسطةِ قلي ذلك المزيج بالسمن، وما زلت أتذكر اسم ذلك النوع من السمن الذي يشار إليه باسمِ – دهن الراعي – حيث أنَ لونه يشبه لون الكركم، ومَن يشاهده مِن الأجيالِ الحالية يظن أنه أحد أنواع الزيوت المستخدمة فِي إدامةِ محرك السيارة، وبعبارةٍ أخرى يمكن القول إنَّه خبز يحمل رائحة بيض “.

 

 بُستــــــــانُكِ المُتنسّكُ الشَجَرِ

أغوَتْ قطوفُ غصونه مطـري

لًثًمتْهُ أحداقي فسارَ بـــــــــها

خَدَرٌ فزاعَ الدربُ عـن بصري

وَثق العِناقُ بـــــــنا فأوْدَعَنا

سِرَّ ارتعاشِ ضفيرةِ الوَتــــرِ

تاهَ الجنونُ بنــا فإنْ غرُبَتْ

شمسٌ فركْنـــــا مُقلة القمرِ 

مِنْ وحيّ معاناة الألم، وَشقاء المنافي، وَأوجاع جراحات شعبه الَّذِي كان طوال سنوات العهد الدكتاتوري فِي مواجهةٍ دائمة مَعَ الموتِ مِنْ أجلِ أنْ يتنسمَ عبير الحرية، يجهد السَماوي يحيى فِي توثيقِ مَا أتيح لَه معايشته مِنْ مجرياتِ هَذَا المشهد العظيم، وَالَّذِي يلخص تداعياته المأساوية بالقول : ” لقد شفينا – أو نكاد نشفى – من أنيننا بتوقف دويّ انفجارات الصواريخ والقنابل … لكن أنين جراح الأرض غير مسموع “. وَيَبْدُو أنَّ السَماويَ أو ” إمام الشعر العربي المعاصر ” بحسبِ المعماري وَالأديب العراقي الأستاذ الدكتور هاشم عبود الموسوي، يعبر فِي مقولتِه هُنَا عَنْ جملةِ حقائق مهمة يصعب عَلَى المتلقي تجاهلها أو تجاوزها، أولها كثرة المآزق الَّتِي تعرضت لها بلادنا بفعلِ عبثية سياسات النظام الشمولي خلال ما يزيد عَلَى ثلاثةِ عقودٍ مِن الزمان، وَالَّتِي جلبت علينا الدمار وَكثيراً مِن المصائب, وَثانيها إضاعتنا لآمالٍ معفرة بالدماءِ الزكية  وَجسامة التضحيات، وَهو الأمر الَّذِي أفضى إلى امتلاكها مِنْ قبلِ آخرين بعد أنْ جعلتها أجندة الاحتلال الأمريكي أشبه بشموعٍ سرعان مَا انطفأت جذوتها، فكان أنْ غاضت الآمال فِي النفوس، وَامتلك اليأس القلوب. أما آخرها فهو أنَّ الأرضَ لا تكف عَنْ النواحِ حتى يأتي الربيع، فهو قادم وَإنْ تأخرْ. وَقد يكون مِن المناسبِ التمعن هُنَا بإشارةِ الشاعر الروسي جوزيف برودكسي ( 1940 – 1996 ) – الحاصل عَلَى جائزةِ نوبل فِي الأدبِ عام 1987م، وَالَّذِي تم تعيينه ملك شعراء الولايات المتحدة فِي سنةِ 1991م – إلى ذلك المعنى بالقول : ” أيها الإنسان الفاني، يجب أن تناضل ضد الوحوش، فمن يؤكد أن الوحوش خالدة ؟ “. وَليس بالأمرِ المفاجئ القول إنَّ فِي القلبِ مِنْ عوائقِ النهوض المرتجى فِي بلادِنا هو استنفاد الطبقةَ السياسية الَّتِي تولت إدارة البلاد بعد انهيار النظام الدكتاتوري رصيدها، وَلَمْ يَعُدّ فِي جرابِها مَا يمكن أنْ يساهم فِي تحقيقِ مهمة رفاه الشعب وَتنمية البلاد الَّتِي حباها الباري عز وَجلّ بِمَا تباين مِن الثرواتِ وَالخيرات. وَأَدْهَى مِنْ ذلك توظيف الشعوب الَّتِي تدرك قيمة الكفاءات البشرية للمبدعِ مِنْ الكوادرِ الوطنية المهاجرة الَّتِي أخفقت القيادات الإدارية فِي العراق بمحاولةِ اجتذابِها والسعي الحثيث لإعادتِها إلى حضنِ الوطن، وَالَّذِي مَا يَزال بحاجةٍ إلى إدارةٍ مشبعة بالأمل؛ لأجلِ الشروعِ بنهضةٍ طال انتظارها، فَيقيناً أَنَّ الصورةَ مهمَا ادلهمت، يبقى التغيير ممكناً، مَعَ العرضِ أنَّ الجدوى مِنْ التغييرِ لا تقتصر عَلَى إمكانيةِ بلوغه فحسب، وإنما فِي البحثِ عَنْ البدائلِ الَّتِي بمقدورِ آلياتها إعادة إِنْتَاج العوامل الداعية إليه.

 

إنفجرتْ حبّةُ قمحٍ

فأعـشـبَـتْ سـنبلة ..

إنفجرت السنبلةُ

فأنجبَتْ بيدرا ..

لكنّ قنبلةً انفجرتْ في مدرسة

فأغلقتْ ستة صفوف

وذبحتْ سِـربَ عـصـافـيـر

مُـطـوّحـةً بمئذنةٍ

كانت ترشُّ فضاءَ المدينة

برذاذ الصلوات!

*

لا تذعري ياحبيبتي

سـنعود يوماً لـنـردم الـخـنـادق

ونبني صفوفاً جديدة

مُـفـجّـريـن تلالاً من السنابلِ في

رَحِم أرضنا ..

أرضنا التي حرثتها القنابل!

حينذاك

ستجتمع الزهور في حديقة واحدة

ويتناسل النخيلُ في بستان واحد

يمتدّ من أهدابِ البصرة

حتى قدَمَيْ أربيل ..

مُعيدين الإعتبارَ

للعَـلم المُثقّـبِ برصاص الخيانة!

يمكن الجزم بأنَّ عراقَ الأمس المفجوع بحصادِ الموت، أيامه كانت حافلة بحكاياتٍ مشبعة بالأسى وَالاذلال وَالرعب وَالاغتراب، وَالَّتِي تؤرخ بمجملِها بعض ما تعرض لَه شعبنَا مِنْ عذابَاتِ الحروب وَتداعياتها المتمثلة بالجوعِ وَالضياع فِي حافلةِ الزمن الغابر. وَعَلَى الرغمِ مِنْ أنَّ بعضَ الشعوب عانت أكثر مِمَا عانَاه شعبنا مِنْ أهوال، وَرُبَّما تعرضت لمصائبَ أكبر مِمَا تعرضنا لها، إلا أنَّ مَا اكتوى بشظى لهيبه أهل العراق، ميزه عَنْ سائرِ الشعوب وَالأمم فِي مختلفِ أرجاء المعمورة؛ إذ عاش السواد الأعظم مِنْ شعبِ العراق سنوات عجافا بلا أمل، بعد أن جعلتهم السياسات الحكومية الهوجاء فِي مواجهةٍ قاسية مَعَ فقرٍ مدقع وَجوع وَمرض طال أمده حتى أصبح مزمنا. وَأدهى مِنْ ذلك أنَّ ثرواتَ البلاد لا ينعم بها أهلها، فالوافد للعمالةِ أو الدراسة فِي العراق يدلل شهيته بنكهاتٍ أصلية وَمأكولات متميزة، فِيمَا يتحسر المواطن العراقي عَلَى بوابةِ مطعم شعبي شوقاً فِي الحصولِ عَلَى شطيرةِ حمص ” فلافل “، حتى أصبح يشار إليها حياءً باسْمِ ” معلاكْ مصري “؛ لأجلِ إيهام الحاضرين بتناولِ لحومٍ موردة مِنْ جمهوريةِ مصر العربية وَمعدة بطريقةِ الشواء، حيث أَنَّ شرائحَ مجتمعنا الفقيرة كانت تعيش حياة بائسة بفعلِ ضيق ذات اليد وكفاف العيش، فضلاً عَنْ بشاعةِ مَا تحملته مِنْ كثرةِ الهموم وَالأحزان وَتكالب الزمان، فِيمَا أموالنا الطائلة تذهب يميناً وَيساراً بشكلِ هباتٍ ومعونات وَكوبونات نفط، وَالَّتِي قد يصح فِيها قول شاعر شعبي أجهل اسمه :

” ولتهينةْ .. نداوي بجروح النحبهم

وإحنه سيل دموعنا

يغرگ وطن “

لأنَّ ” الجوع يجلب جميع أنواع الشرور ” كما قيل قديماً، فقد تسببت تلك الظروف فِي إرساءِ الأسس الكفيلة بتصدعِ المنظومة القيمية، وَالَّتِي كانت أبرز مظاهرها حينئذ ظهور تجارة الأعضاء البشرية، وتخلي بعض العوائل عَنْ فلذاتِ الأكباد بالبيعِ أو بسُّبُلٍ أخرى، فضلاً عَنْ عملياتِ سرقة السيارات َالَّتِي لا تكاد تخلو مِن جرائمِ القتل فِي حالاتٍ كثيرة.        

فِي ذَلك العالم الكابوسي الَّذِي يجعل المتلقي مِنْ أجيالِ الشبكة الدولية ” انترنت ” وَالهاتف النقال وَالصحون اللاقطة عاجزاً عَنْ تخيلِ البؤس الضاغط عَلَى نفوسِ المعذبين بالثقيلِ مِن الأهوالِ وَالأحزان وَالغربة، كان مِنْ بَيْنَ غرائب مَا خيم عَلَى فضاءاتِ تلك الأيام هو عدم السماح للعراقيين التعبير عمَّا فِي النفسِ مِنْ مشاعرٍ أو الإفصاح عمَّا بداخلِهم مِنْ آلامٍ وَأحزان، حيث كان نظام القائد الضرورة يمنع الأم مِن البكاءِ عَلَى فلذةِ كبدها المعدوم اعداماً تعسفيا، فضلاً عَنْ تحميلِ عائلته ثمن الإطلاقات الَّتِي أعدم بِواسطتِها. وَإذا كانت فظاعة هَذَا الفعل تدخل الأسى فِي نفسِ المتلقي أو تفضي إلى إثارةِ اشمئزاز مَنْ يطرق سمعه، فإنَّه قد يبدو كأَمْر مُسَلَّم بِهِ فِي ظلِ سطوة الأنظمة الدكتاتورية الَّتِي لا تقيم وزناً لقوانينِ حماية حقوق الإنسان، ولا تعرف مِن معنى الحب سوى كلمة مِن الألفاظِ الشائعة الَّتِي تتداولها الألسن، وكما تقول الكاتبة وَالأديبة السورية غادة السمان” تاريخ البشرية الحزين هو من صنع رجال لم يعرفوا الحب “.  وَلعلَه مِن المفيدِ الإشارة هُنَا إلى أحدِ جزئيات المحنة الوطنية الَّتِي ذكرها السَماوي يحيى بالقول: ” بيني وبين أقربائي قارات ومحيطات وبحار وصحارى، فارقتهم زمناً طويلا، وحين زرت العراق بعد طول فراق، كان أكثرهم قد غفا إغفاءته الأخيرة وتدثّر بالتراب، والآخرون بين مُعاق ورهين همومه ونزيل وطن مستعار “.  

*

علّمتني العربات التي أكلت نصفَ عمري

أنّ الجالسين في المقاعدِ الأمامية

لا يبصرون غير زجاج النوافذ ..

لذا :

أبحث عن مقعدٍ فارغ

بين المقاعد الخلفية ..

فأنا أريد أن أرى الجميع

وهم يغذّون السير

نحو المدينة الفاضلة ..

وحين يترجّلون

سأسير خلفهم

فإنْ سقط أحدٌ مضرّجا بالضنى

سأجعل من صدري ” نقّالةً ” إسـعـاف

ومن ظهري هودجا ..

أمّا إذا ضرّجني الضنى

فسأسقط دون ضجيج

كي تستمر القافلة!

*

قال النهرُ :

أنا ابـنُ الينابيعِ الصغيرة

التي اتّحدتْ في جسدي ..

وقال الحقل :

الشجرةُ الواحدة

لن تكون بمفردها بستانا ..

فلماذا نفترق ياصاحبي؟

إنْ كنتَ تأبى السيرَ معي

فاسمحْ لي بالسير معك

مادُمنا مُتّجهين

نحو المدينة الفاضلة

*

للتمعنِ أكثر فِي هَذَا المسار الكارثي أراني مضطراً للتوقفِ عند إجابة السَماوي يحيى عَلَى سؤالٍ للشاعرِ العراقي الأستاذ الدكتور هاشم الموسوي حول وجود صلة مَا بَيْنَ أحداث حياته الواقعية وَبين مَا يرد فِي قصائدِه مِنْ أحداثٍ وَصور، حيث يقول السَماوي في معرضِ رده عَلَى سؤالِ الموسوي : ” قبل سقوط الصنم ، كثيرا ما يُفزعني كابوسٌ مرعب لا أدري لماذا يتكرر في منامي بأشكالٍ عدة جميعها تنتهي بأنَ النظام ألقى القبض عليّ وأنني سأشنق، فأستيقظ متعرق الجبين ألهث عطشا …هذا الكابوس لا يتركني شهرا من دون أن يفاجئني بزيارته الوحشية .. ربما لأنني سبق ووقعت في مديرية أمن المثنى على تعهدٍ بإعدامي في حال مارست العمل السياسي، فإذا بي من بين أوائل الذين حملوا السلاح في الانتفاضة الجماهيرية عام 1991م “. ولعلَّ مِن المفيدِ فِي بحثِنا الحالي استعراض أحد محاور دراسة الشاعر المصري الراحل الدكتور حسن فتح الباب ( 1923 – 2015 ) الَّذِي يُعَدُّ أحد رواد الشعر الحر وَأحد قامات النقد فِي الساحةِ الأدبية العربية الموسومة  ” الأفق نافذتي للشاعر يحيى السماوي”، وَالَّتِي يقول فِيهَا  : ” … ولا يقلّ يحيى السماوي في مكانته كأحد المبدعين العباقرة الذين خلدوا الحرية وخلدوا بها، عن شعراء الحرية والمقاومة العالميين، وهم الشاعران الفرنسيان بول إيلوار ولويس أراجون، اللذان انضما الى شارل ديغول في نضاله ضد الطاغية هتلر حين غزا باريس في الحرب العالمية الثانية، وكذلك الشاعر التركي ناظم حكمت الذي ثار على الطغمة الحاكمة في بلده، فأودعته السجن حيث قضى بين أسواره أكثر من عشرين عاما، ثم أفرج عنه تحت ضغط الرأي العام العالمي، فقضى بقية حياته في المنافي “. وَفِي السياقِ ذاته يقول الأديب والباحث العراقي المقيم فِي السويد منذ أواخر سبعينات القرن الماضي الدكتور خالد يونس خالد : ” مَن أراد أن يحب العراق، عليه أن يقرأ السماوي من زاخو إلى البصرة، فأنت جبل حمرين وأنت الفرات، في قصيدتك ”  أذلَّـنـي حـبـي “. وأنت بين الأهوار تسكب الدموع مع كل العشاق لتشرق شمس الحرية في قلوب المحبين في قصيدتك ” الاختيار “.

**

كـمـا يتوغّـل مسمارٌ في خشبة ..

أو جذرٌ في لحم الأرض :

أتوغّلُ في أودية الحنين

أجوب فضاءاتٍ ما مرّتْ في ذاكرة عصفور ..

وبحاراً ما عرفها السندباد ..

لا بسفينةٍ في بحر

ولكن:

على قدميّ الحافيتين

مُيمِّماً روحي نحو الله

وعـيـنـيّ نـحـوك ..!

لا تخافي الرحلة يا حبيبتي

فإنّ فمي سـيعـلـن الإضرابَ عن القبلات

و الحقولَ ستعلن الإضرابَ عن الخضرة ..

الضفافَ لن تعانق الموجةَ العاشقة ..

وستعلنُ البراءةُ عصيانها على الطفولة

ستفقد الحياة عذريتها ويجفّ عفافُ الكبرياء ..

وتنتحرُ الأغنية على شفة القيثار ..

والنخل سيبرأ من أعذاقه ..

فأنحني خجلاً من رجولتي

أنا الذي أريد أن أموت واقفاً

كنخيل العراق !

**

مَا أظنني مبالغاً إنْ قلتُ أَنَّ الأحداثَ الَّتِي مر بها السَماوي يحيى، وَتعايش مَعَ معطياتِها لسنواتٍ طويلة خلت، كانت لَهَا صلة بالكثيرِ مِمَا ظهرَ مِنْ قصائدِه؛ إذ أَنَّ المحطّاتَ الَّتِي مرّت بِها البلاد – وَلاسيَّما لحظات الفرح المسروقة الَّتِي تخللتها، فضلاً عَمَا حَالَ مِنْ أوجاعِنا إلى تكريسِ الصمت فِي أرواحِنا حتى فِي أعياد الله تبارك وَتعالى – مَا تَزال تستوطن ثقوب ذاكرة شَاعرنا الَّتِي لا تحمل سوى همٍّ  فوق هم. وَمِنْ أجلِ أنْ لا نبقى أسارى تصور تلك القضية كاستنتاجاتٍ عامة، حري بنا أنْ نركن إلى مَا اطلعنا عَلَيه مِنْ رؤى النقاد وَالأدباء وَدراسات الباحثين بِهَذَا الخصوص، بالإضافةِ إلى التوقف – قليلاً أو ملياً – لتأملِ وُجّهة نظر السَماوي الَّتِي أثارها – هُنَا أو هناك – عَلَى صعيدِ الكتابة، حيث يشير إلى ذلك بالقول : ” ليس سهلاً على الإنسان أن يغسل شرطيّ أمنٍ قذر وجهه بالبصاق  أو أن يجعل من وجهه كيس ملاكمة أو كرة قدم. وليس سهلاً على عريسٍ يمضي أوّل أيام شهر العسل موقوفاً في مرحاضٍ مهجور ليخرج بعد أيام مخرّز الجسد “. ويضيف فِي إطلالةٍ أخرى عَلَى أحدِ المواقع الإلكترونية قائلاً : ” ليس سهلاً على مدرّسٍ أحبّ وأخلص لمهنته، وكان باعترافِ مديرية التربية من أنجحِ المدرسين في مادته، حتى أنَ الإشرافَ التربوي كان يكلفه بإقامةِ دروس نموذجية في طرقِ تدريس اللغة العربية يحضرها مدرسو ومدرسات المحافظة، فإذا بالأوغاد ينقلونه وظيفياً إلى بائعِ طوابع؛ لأجلِ أنْ يسقط العذر القانوني بعدمِ سوقه للخدمة العسكرية “. وَأَدْهَى مِنْ ذلك الصورة المأساوية المفجعة المتمثلة في استدعاءِ مديرية الأمن لأمه وَأبيه وَأشقائه وَشقيقاته، وَتهديدهم بالتسفيرِ إلى إيران كنوعٍ مِن التعذيبِ النفسي له، مَعَ العرضِ أَنَّ كُلَّ أهل مدينة السَماوة يشيرون إلى والده باسْمِ ” عباس الطوبجي “؛ لأَنَّ أباه كان عريفاً فِي الجيشِ العثماني بقسم ” الطوب “، وهو ما يعادل مفردة ” المدفعية ” المستخدمة حالياً فِي الأدبياتِ العسكرية. ولعلَّ مِنَ المُناسِبِ أنْ نشير هُنَا إلى أهزوجةِ ” الطوب أحسن لو مكَواري ” الَّتِي تُعَدّ أشهر أهزوجة عرفها تأريخ العراق الحديث، إلى جانبِ ارتباطها بأحداثِ ثورة العشرين الَّتِي اندلعت فِي مدينةِ ” الرميثة ” بمحافظةِ المثنى، وانتشر لهيبها ليشمل العراق كله،، فاصبحت  لمدينةِ الرميثة بصمة تاريخية فِي الدفاعِ عَن العراق، وَانطلاق الشرارة الأولى فِي مقارعةِ الاستعمار البريطاني؛ إذ تُعَدّ قلعة الرميثة وَمركزها القديم شاهداً عَلَى حقبةٍ تاريخية أذاق فيها شعبنا الانكليز دروساً فِي الحربِ وَالجهاد وَالشجاعة. وَمِنَ الْمُفِيدِ الإشارة هُنَا أيضاً إلى تأكيدِ الوثائق التاريخية عَلَى أَنَّ تلك الأهزوجة ولدت فِي رحمِ معركة ” الرارنجية “، حيث زحف أحد المقاتلين الغيارى الَّذِي كان يترصد مدفعاً تابعاً للجيش البريطاني مستغلاً حلول الظلام وهو لا يحمل غير ” المكَوار” سلاحاً – المكَوار عبارة عَنْ عصا فِي أحد طرفيها كمية مِن القيرِ الأسود – وعند وصوله قريباً مِن المدفع، هجم بوثبةِ أسد وَقتل رامي المدفع، ثم اعتلى المدفع وأطلق أهزوجته المشهورة ” الطوب احسن لو مكَواري “، إلا أَنَّه استشهد ” رحمه الله ” فِي الحالِ بعد أنْ أثارَ شعوراً مِن الحماسِ فِي تشديدِ الهجمة عَلَى الجيشِ الإنجليزي المحتل.  

**

اللهمَّ اجعلني:

عشبةً في وطني

لا غابةً في منفى ..

ذرّة رملٍ عـربية

لا نجمةً في مدن النحاس ..

عُكّازاً لضرير

لا صولجاناً لـلـقـيـصـر ..

شريطاً لضفيرةِ عاشقةٍ قروية

لا سوطاً بيد جلّاد ..

حصاناً خشبياً لطفلٍ يتيم

لا كوكبةً ذهبيةً على كتفٍ أثقلتْه الخطايا ..

فلقد أرهقتنا مهنة القتل وهواياتُ المارقين ..

لذا أعلنتُ تضامني مع الحفاة

في حربهم العادلة ضد ذوي القفازات الحريرية ..

مع البرتقالة ضدّ القنبلة ..

مع الأرجوحة ضدّ المشنقة ..

ومع أكواخ الفقراء ضدّ حصونِ الـدّهـاقـنـة !

*

أنا لا أبكي يـا حـبـيـبـتـي …

إنما:

أريد أن أغـسـلَ بالدموع

صورة الوطن المنقوشة كالوشم

في عـينيّ!

**

مَا أثارني أيضاً فِي الحديثِ عَن الموضوعِ المذكور آنفاً، هو مَا تناوله الكثير مِن الأدباءِ وَالباحثين وَالنقاد عَنْ تجربةِ إنسان وظف مداد قلمه فِي البحثِ عَنْ وطنٍ يضم مَا بَيْنَ جنباته أوجاعنا، فالسَماوي مَا يَزال عرضة لأرقٍ مزمن، لازمه منذ أول قافلة صفعات و” جلاليق ” أناخها ملاكمو أمن البلدة فِي واحاتِ جسده الغض عام 1971م. وَمِنْ بَيْنَ صور الحزن وَالأسى َالَّتِي علقت بذاكرةٍ السَماوي يحيى، مَا أكدته القاصة العراقية سنية عبد عون رشو عَنْ أوجاعِ تلك الحقبة بالقول : ” الشاعر الكبير يحيى السماوي، تلك الايام كانت غيمة مطارة وانقشعت ..أمطرت علينا وابلاً من الحروب والخوف والرعب حتى من اللاشيء، هذا ما أراه  دائما في الاحلام “. وَفِي دراسته الموسومة ” يحيى السماوي بين العدمية و الآيروتيك “، يقول الشاعر وَالناقد العراقي هاتف بشبوش مَا نصه : ” يحيى السماوي شاعرٌ ومناضلٌ ورمزٌ لصبانا الثّوري في السبعينيات، لما لاقاه من مطاردةٍ وتشريد وتعذيب في زمن البعث المجرم حتّى أصبح اسماً تتناقله الألسن منذ ذلك الوقت “. وَفِي مداخلةٍ عَلَى صفحاتِ أحد المواقع الإلكترونية، يشير الشاعر والإعلامي العراقي عبد الحميد الصائح الذي عمل جنباً إلى جنب مع السَماوي يحيى فِي إذاعةِ ” صوت الشعب العراقي ” إلى شاعرنا السَماوي بالقول : ” سيدي وصديقي الشاعر والمناضل الكبير يحيى السماوي اقسم بالله على شجاعتك وأبايع وطنيتك العالية، فأنت شاهد عصر باسل، وانت صوت الشعب قبل ان يعرف الشعب انك كنت تنسج امله بالحرية .. نعم يا شاعر الشعب، كانوا يترددون في قول الحق في إذاعتنا .. وهم اليوم يتصدرون لوائح الجهاد المزورة .. تبّت أيديهم وهم الى ضلالةٍ سائرون .. دمت اخاً مبدعاً كبيرا، يحيى السماوي يا صديقي الجميل، إنها حقا قسمة ضيزى : للأباطرةِ الأوغاد النفط، وللصعاليكِ الطيبين الدخان والسخام “.

 

الأسـى أمـسُـكِ ..

والـحـاضِـرُ نـاعـورُ ضـنـى ..

 

أطـفـأ الرعـبُ الـقـنـاديـلَ

وألـقـى بالـفـراشـاتِ

عـلى أرصـفـةِ الصـبـحِ ..

وفـرَّتْ من فـضـاءاتِ الـبـسـاتـيـن ِ

العـصـافـيـرُ ..

الـنـهـاراتُ اسـتـحـالتْ دُجَـنـا ..

 

وأنـا مـثـلـكِ :

تـابـوتٌ

بـهِ يـرقـدُ جُـثـمـانُ الـمُـنى ..

 

أشْــبَـكَ الـدربُ

ولا بعضُ سـنـا ..

 

زمـنٌ بـاتَ بـهِ الشـوكُ

يُـعـيـبُ السَّـوسَـنـا ..

 

تـصـرخُ الـمـسْـغـبـةُ الانَ

بـنـا :

 

هـزُلَ الـخـبـزُ

وجـوعـي سَـمُـنـا ..

 

مـثـلـكِ الانَ

أُسَـمِّـي غـربـتي أهلاً

وجُـرحـي وطـنـا ..

 

كلُّـنـا أصبحَ ” هابـيـلَ ” و ” قـابـيـلَ “

ترى

أيّهُما كان أنـا ؟

يمكن الجزم بأنَّ مضامينَ الكثير مِنْ نصوصِ السَماوي الشعرية   تُعَدُّ انعكاساً للأحداثِ وَالمُشْكِلات وَالقضايا الَّتِي مرت بِها بلادنا، بالإضافةِ إلَى همومِ اليوم، فالشعب الَّذِي اكتوى لسنواتٍ طويلة بنيرانِ القصف وَالحروب الَّتِي اغتالت براءة الطفولة وَهشمت مقومات الكرامة الإنسانيَّة، مَا يَزال  يعيش معاناة حقيقية بكلِّ مَا تحمل الكلمة مِنْ معنى؛ نتيجة السياسات الخاطئة الَّتِي أسس لها المحتل الأمريكي بعد الزلزال السياسي فِي المنطقة. وَيمكن القول إنَّ السَماويَ الَّذِي يُعَدّ الوطن جنته وَقلبه النابض عَلَى يقينٍ مِنْ أنَّ مئاتَ آلاف العراقيين عاشوا المعاناة بشكلٍ وَآخر، حيث يشير إلى ذلك بالقول : ” … وبسبب هذه المعاناة، فإن العراقيين يبدؤون الشيخوخة ربما قبل وصولهم سنّ العشرين من العمر، فالعراق تحول في ظل نظام صدام حسين إلى تابوت على هيئة وطن … لا أعتقد أن التاريخ سيشهد ساديّا مثله … كان يتلذذ برؤية الدم … ولعله الرئيس الوحيد في العالم الذي كان يأمر جلاديه بتصوير ضحاياه وهم يُعذبون وتقطع أوصالهم “. وَمِنْ المؤكّـدِ أنَّ تلك البشاعة تُعَدّ انتكاسة للإنسانيَّة، بالإضافةِ إلَى مَا تعكسه الأنظمة الدكتاتورية مِنْ نهجٍ يقوم عَلَى استبدالِ آليات التشبث بالسلطة – وَالسعي بجميعِ السُّبُل مِنْ أجلِ ديمومتها – بحبِ الوطن ومَا يمليه مِنْ ضرورةِ الإيفاء بتأمينِ احتياجاتِ الشعب، فالحبَ عاطفة جياشة وَشعور ليس بوسعِ الكلمات أنْ تَوضحَ رسوخه فِي الضميرِ وَالوجدان؛ إذ يُعَدّ بوصفِه حالة مِن الرُّقِي فِي أسمى أوجهها، فالإنْسَان قد يفوق أفعال الوحوش فِي حالِ تجرده مِنْ ثيابِ الإنسانيَّة وَنبذه لمشاعرِ المحبة وَالتسامح، وَكما يصف تلك الحالة الشاعر الإنجليزي جون كيتس ( 1795 – 1821 ) الَّذِي هوجمت أعماله خلال حياته القصيرة مِنْ قبلِ نقاد الدوريات فِي ذلك العهد، إلا أنَّه أصبحَ بعد وفاته واحداً مِنْ شعراءِ الحركة الرومانتيكية الإنجليزية المهمين فِي مطلعِ القرن التاسع عشر بقوله  : ”  الحب استمرارية ونقاء، والكراهية موت وشقاء “. ولا أعرف كيف قفز إلى خاطري مَا قرأته قبل أعوام طويلة عَمَا يبهر مِنْ سلوكِ أحد الحيوانات، وَالَّذِي يمكن تلخيصه بأنَّ أنثى ” السنجاب ” عندما تجد رضيع سنجاب آخر، فإنها تقدم له الطعام وَتنتظر ثلاثة أيام قصد التحرّي وَالتأكد مِنْ أنَّه مِنْ دُونِ أهل، وحينئذ  تأخذه وَتطعمه وَتجعله يعيش مَعَهَا وَمَعَ صغارها وكأنَّه أحد أطفالها.

 

***

لا تـقـولـي إنَّ جـرحَ الـيـومِ

يـشـفـى فـي غـدِ

كلُّـهـمْ أقـسَـمَ

أنْ يـحـرسَ بـيـتَ الـمـالِ

باسـمِ الأحـدِ :

 

سـادِنُ المـحـرابِ ..

والـنـاطـورُ ..

ربُّ الـدَرَكِ الـسِـرّيِّ ..

قـاضـي الـعـدلِ والشَّـرْعِ ..

إمـامُ المـسْـجِـدِ..

فـلـمـاذا ازدادتِ الــفـاقـةُ

واسْـتـشـرى وبـاءُ الـفَـسَـدِ ؟

ولـمـاذا

كـلَّـمـا يُـوعِـدُ بـالـخـبـزِ

أمـيـرُ المـؤمـنـيـنَ

ازدادَ جـوعُ الـبـلـدِ ؟

***

أيـهـا الـقـلـبُ الـذي

ثـلـثـاهُ مـن مـاءِ الـفـراتـيـنِ

وثـلـثٌ من رمـاد الـنـخـلِ

أو طـيـنِ الـبـلـدْ :

 

طـعـنـةٌ أخـرى

وتـشـفـى

مـن عـذابـات الـجـسـدْ

***

ألـفُ ” أنـكـيـدو ” بـدارِ الـعَـجَـزةْ !!

مـا الـذي يُـغـويـهِ بـالـرمـحِ

ولا ثـمّـةَ ” كلكامشُ “

يـأتـيـه بـ ” عـشـبِ الـمُـعـجـزةْ ” ؟

ذات فجر بغدادي دنسته خيول المحتل، هاتفت السَماوي يحيى مستغلاً فرق التوقيت مَا بَيْنَ العراق وبلاد الكنغارو، بعد أنْ اختمرَ فِي ذهني سؤال استنتجته مِنْ عبارةٍ قرأتها فِي روايةِ وزير الثقافة الفلسطيني الأسبق الكاتب وَالروائي يحيى يخلف الموسومة راكب الريح، وَالَّتِي نصها ” يرحل الغزاة والمكان لا يرحل. يرحل الطغاة والحكمة لا ترحل “، فأجابني السَماوي بكلماتِ أملٍ مشوبة بألمِ الغربة : ” قبل نحو ساعتين وبضع آهات، سألت نفسي الأمّارة بالحرية : هل عجزت الأمهات العراقيات اللائي أنجبن شعلان أبو الجون وَعبد الكريم قاسم وَمحمد باقر الصدر وَسلام عادل وَحسن سريع وَأمثالهم، عَن إنجابِ حفيدٍ لأبي ذر الغفاري يعلّم الجياع كيف يقضمون الآلهة التمر، أو سبارتكوس جديد يحرّض العبيد عَلَى الوقوفِ منتصبين ليتساقط مِنْ عَلَى ظهورِهم الأباطرة ؟ “، فازددتُ يقناً بصدقِ مقولة الشاعر وَالكاتب وَالرسام اللبناني جبران خليل جبران : ” ليس بوسعِ أحد أن يبلغَ الفجر مِنْ دُونِ المرور بطريقِ الظلام. “

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

آخر المواضيع