لآلئ الوداع

170

على سرير المستشفى كان جسمك النحيف ملقى عليه ،كانت يدي تمسك بيدك ،وكنت
تنظرين إلي والدموع مسجونة في مآقيك ،كعادتك طوال سنوات عجاف ،لم نسمع لك
أنينا أو شكوى ،كنت مثل قديسة في جبل الصمت والعزلة ،تكتفين بلقيمات وفنجان
قهوة وتبقين في المطبخ الصغير تعدين ما وجدتيه من أكل ،تفكرين كثيرا في أبنائك
،ولو اقتضى الأمر تستدينين من أجل أن يشبعوا ،كان هذا ديدنك منذ سنين ،لم
تهتمي بمظهرك كما تفعل كل النساء ،لم تضعي جواهر على يدك أو رقبتك ،كل هذا لم
يكن ضمن اهتماماتك ،أنت امرأة استثنائية  ،أمازيغية حرة ،لم تستسلمي للظروف
ولم تكسر مطارق الزمن إرادتك ….
ولكن في هذه الشهور الستة الأخيرة ،أنهكك المرض ،صرت جسدا بلا روح ،فقدت
الشهية ،على هذا السرير أماه ،تحدقين في ودموعي تخونني ،شعرت بالتقصير في حقك
،آه تمنيت لو طفت بك العالم ،زرت بك الحدائق الجميلة ،أخذتك لأرقى المطاعم ،كل
هذا بدا لي في لحظة انكسار ولم أدر أن هذه النظرات بهذا المستشفى البائس الذى
تشعر و أنت تدخله بالاختناق والضجر كباقي مستشفياتنا التي تقتل فيها الحياة
وتخرج منها إلى بقعة صغيرة من أرض الله ،هناك تجد ربا رحيما ،غفورا ،ودودا.
جاءت الممرضة أعطتك حقنة لتسكن آلامك ،بعد لحظات استسلمت لنوم ،عميق ،كان
أفراد الأسرة يحيطون بك وكنت أنا غارق في عوالم الحزن والألم ،أول مرة أشعر
بالفقد ،أشعر بأنني قد كبرت ،لم أعد ذلك الطفل المنطوي ،لم يكن مثل باقي
الأطفال ،الأطفال يلعبون وهو ينزوي في ركن مع كتاب ويغرق في بحار لا شواطئ لها
ويمتطي سفنا ويزور جزرا نائية و مدنا بعيدة ،وبرحيلك كبر ذلك الطفل القابع في
أعماق النفس ،فقدت جناحا من أجنحة التحليق في سماوات هذا العالم .
كنت المرفأ الذي تحط فيه سفني لأستريح من وعثاء الحياة وصخب الوجود ،لألملم
أنفاسي و أنطلق من جديد مفعما بأريج حبك وعطر مشاعرك الفياضة ،أما الآن فأنا
مثل عصفور بلله القطر ،مهيض  الجناح ،فقدت وجهتي وبوصلتي ،أنا متعب يا أماه
،متعب يا أم………………………….ه.

*الكاتب والباحث في التنمية البشرية:شدري معمر علي *الجزائر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع