قراءة نقديّة لرواية الكاتب طارق الغول(البعض من لاوعي النّساء)

826

*يتميّز الكاتب التّونسي ابن الوطن القبلي وأصيل مدينة “نيانو” بإبحاره في
أجناس متنوّعة من الابداع الأدبي فهو شاعر وقصصيّ وروائيّ، وقد صدر له إلى
الآن ثلاث مجموعات شعريّة وهي: “لحن الخلود في منفى الوجود” صدرت في ماي 2015
و”وجوه أم أقنعة” صدرت في ديسمبر 2016 و” كلّنا شياطين” صدرت في فيفري 2017،
وله مجموعة قصصيّة بعنوان “أين سيُدفن الرّب” صدرت في مارس 2016، كما أصدر
روايتين الأولى سنة 2017 بعنوان “امرأة واحدة لا تكفي” عالجنا قضاياها في مقال
نُشر في “صحيفة الفكر الالكترونيّة”.  *

*             والرّواية الثّانية للكاتب صدرت في مستهلّ سنة 2018 بعنوان
“البعض من لاوعي النّساء” عن المطبعة الثّقافيّة للطّباعة والنّشر والتّوزيع
في مستهلّ سنة 2018، مسحت مائة وتسع وعشرين صفحة من الحجم المتوسّط، صمّم
غلافها الفنّان مراد شويّة. *

*             لم يُرِد الكاتب أن يضع لروايته فصولا وعناوين كما فعل في
الرّواية الأولى، بل حرص على تصميم أحداثها ضمن إطار مكاني داخل ساحة منزل في
قرية من قرى الوطن القبلي يُحيي فيه أهلها حفل زفاف، وضبط الإطار الزّماني
خلال السّنة الثّانية من الثّورة التّونسيّة. وبأسلوب شيّق احتوى على لوحات
جماليّة في السّرد والوصف لمظاهر هذا الحفل القرويّ أخذنا الكاتب إلى صلب
الموضوع الذي يجسّده عنوان الرّواية ” البعض من لا وعي النّساء” وبنفس جماليّة
الأسلوب الرّوائيّ ودقّة الوصف وحدّة النّقد الصّريح والضمني تمكّن الكاتب من
جعل القارئ يتفاعل مع أطوار أحداث واقعيّة عاشتها كلّ من منيرة وسعيدة ومريم
وفاطمة وغيرهنّ، كانت تنبع من أعماقهنّ وتُعَدُّ أسرارا سكنت لا وعيَهُنَّ منذ
سنين لا تجرُؤ الواحدة منهنّ على الحديث فيها أو البَّوح بها. وقد تمّ كشف
المستور في آخر اللّيل بعد انتهاء حفل زفاف عائدة احدى فتيات القرية، وقبل أن
نتعرّض لمآسي هذه الشّخصيات من النّسوة في الرّواية دعنا نُشيد بما قام به
الكاتب في بداية الرّواية من وصف دقيق ونقد لاذع لوضعيّة القرية وما تعانيه من
تهميش وعدم عناية منذ فترة الاستعمار إلى اليوم بعد الثّورة، بحيث لم يُضف لها
العمدة الماكر والاستغلالي أي امتياز ولا أخلص النّائب جلال الذي وعدهم قبل
الانتخابات لمجلس الشّعب “بأنه سيجعل القرية جنّة لم تطأْها قدم إنسيّ من قبل
وأنّه سيُشغّل كلّ شبابها المعطّل عن العمل وسيجعل طرق القرية أفضل من الطّريق
السيّارة! ويعوّض الحمير والبغال بقطار كهربائي لكنّ، يقول الكاتب، حين تحصّل
جلال على كلّ عدد أصوات أهل القرية وأصوات بعض أصدقائه من القرى المجاورة وحاز
كرسيّا بمجلس الشّعب أدار ظهره لجميع أهل القرية بل الأكثر من ذلك فقد انقطعت
زيارات جلال إلى القرية وتغافل حتى عن زيارة أبويه المسنّين وأخيه الأكبر
المعاق عضويّا وأخته العانس التي لطالما كان يعيش بما تقدمه له من راتبها
الشّهري …” *

*         كما أثار الكاتب معظم المشاكل التي تعاني منها هذه القرية سواء
أكانت مشاكل بيئيّة تتعلّق بوضعية البناء التّحتيّ للقرية أو مشاكل اجتماعيّة
يتربّع على عرشها القهر والفقر وتعمّ فيها البطالة والملل والقلق… بحيث لا
يجد أهل القرية عزاءهم إلاّ في مثل هذه المناسبات “باشباع غرائزهم ونزواتهم
بلا كلل ولا ملل. الكلّ نَهَم في استنزاف هذه النّعمة المجانيّة أفيون الفقراء
والمُدمنين عمى البصيرة وفناء اللّحم في اللّحم حتى التُّخمة القاتلة.”
وبجماليّة إبداعيّة يصفه طارق الغول ليلة الزّفاف هذه على الطّريقة القرويّة
التي تتميّز بطابعها الرّيفيّ الخاص والتي تجمع في هذه المناسبة جميع أفراد
القرية بحيث يتحوّل حفل الزّفاف إلى مهرجان يجد فيه أهل القرية عزاءهم وفرحهم
الممزوج بالبؤس والتّعاسة، كما تمكّن الكاتب بحِرَفيّة وبدراية عميقة
بالآليّات النّفسيّة اللاّ واعية أن يتعرّض إلى  المتنفَّس الوحيد لأهل القرية
في مثل هذه الاحتفالات فيصبّون كل ما توارى في أعماقهم من مكبوت على أرض
السّاحة،* *المكان المخصّص للطّبول والمزامير والهرج والرّقص، والشّرب والأكل
إلخ… يصف الكاتب هذا الجوّ المفعم بكلّ الحالات والأحوال والوضعيّات فيقول:”
رقص وزغاريد في ساحة المنزل الذي يُصبح بفعل العادة وفي مثل هذه المناسبات
وشبيهاتها فقط حلبة لتوزيع البؤس والكبت وأشياء أخرى دفينة بين الضّلوع.
والغبار وحده شاهد على وقع الأقدام الضّاربة في حلق الأرض التي جُبِل من طينها
البشر. تلك حلقة يتجمّع فيها الرّجال والنّساء على حد سواء، دون استثناء أو
نداء، تلقائيّة الغرائز والفرح الغائر المُضْمر منذ زمن في أفئدة مُتعَبة،
وكلّ شبر من المكان سيُسْتَبَاح على إيقاعات مُختلفة لا يجمعها سوى الجموح عن
الخجل والفقر والنّسيان لتستحيل ركح مهرجان يهتزّ راقصا تحت الأجساد بدوره
وكأنّه يغازل القدود والخصور والأقدام ومتعة الحضور القصيّة”. وصف أقل ما يقال
عنه أنّه نافذ في العمق لحالات ما قبل الوعي يستجيب للبعد النّفسي للحضور
الذّي عادة ما يتوارى عن النّاضرين، وقد تمكّن الكاتب تعرية البعض منه خلال
مشاهدته لحفل صاخب كهذا، ويواصل الكاتب كشف ما اختفى وراء مظاهر الحفل بأسلوب
نقديّ فيقول متحدّثا عن الحاضرات من النّساء:” … في حين كان النّساء
والصّبايا شبه عاريات، فهنّ يغتنمن المناسبة ليودّعن لبعض الوقت قسوة الرّجال
ونُعْرتهم الشّرقيّة الزّائفة بالسّماح لهنّ فقط في مثل هذه المناسبات
ليُصِبْن شيئا من الحرّيّة ويتنفّسن جُرْعة من الحياة. فترى المتزوّجات وقد
عانقن السّفور ولبسن الشّفيف من الثّياب، وهن متزيّنات بأصباغ ومستحدثات
الزّينة كيفما اتّفق. أمّا الصّبايا فيلبسن القصير المثير بعض الشّيء إلى
الرُّكَب مُطْلقات العنان لابتسامتهنّ المجانيّة أو قهقهات دلالهنّ المثيرة،
ولسنابل شعورهنّ يعبث بها النّسيم كصبايا الغَجَر الحالمات مُظْهِرَاتٌ في
عَرَى محبّب ظهورَهُنّ وزنودَهُنّ وصدورَهُنّ كنتوءات جبال القرية واللّحم
البضّ الأسمر والأبيض والخمريّ يطارح المخيّلة بألف آهة وتنهيدة عند الرّجال
والشّباب، فيزداد الجوّ حرّا ولهيبا وتصفيقا وإعجابا. كلّ البنات تنتظرن هذا
اليوم الأغرّ لذلك تُرَاهِن بعرض أجسادِهِنّ لعلّ شباكَهُنّ تُظفر بابن
الحلال.”*

*لم ينس الكاتب أيّ فئة من المدعوّين خاصّة وأنّ حفل الزّفاف الشّعبي في
القرية يلمّ جميع المتساكنين دون استثناء لذلك نجده يعرّج إلى وصف فئة الرّجال
اللّذين ” يعدّلون ملابسهم وهم يتنفّسون بصعوبة ليس السبب الغازات المحظورة
عالميّا، وإنّما بسبب رَبْطات العنق التي يضعونها مرّة أو مرّتين أو ثلاث
مرّات على أقصى تقدير في السّنة بمناسبة حفل ما. أمّا في باقي أيّام السّنة
تكون ثيابُهُم الرّثّة ملطّخة بمختلف المواد والألوان كغبار الطّريق وطين
الحقول واسمنت البناء وسواد الفحم الّذي يُعَفّر حتّى أيديَهُم ووجوهَهُم
وكأنّهم فئران الدّواميس والدّهاليز.” صورة فقر مُدقع وتعاسة بائسة رسمها
الكاتب على وجوه رجال القرية. ثمّ عرّج على فئة المراهقين من الشّباب الّذين
اتخذوا زاوية بعيدة ” عن نظر الفضوليين والشّيوخ والنّساء …. يداعبون
اللّذّة بكعب عال يتناوبون على دم الغزال كما يحلو للبعض منهم مناداته،
عُنفوان الشّهوة الباكية من دمع العنب نبيذ النّسيان وحَرْق الحياة وعلى ما
تيسّر من “التّكروري” و”الزّطلة” فيشدّون الرّحلة تلو الرّحلة إلى عوالم
مثاليّة جديدة بصوت كركرة واحدة وعلى نغم واحد.” ولم يَفُت الكاتب أن يشير إلى
تفشّي أخطر ظاهرة تنخر المجتمع وتنهش شبابه وهي ظاهرة المخدّرات والمتاجرة بها
ومدى علاقتها بالفساد الإداري والسّياسي وقد لخّصها في شخصيّة “نبيل” الذي قال
عنه:” وهو العارف الحاذق بهذا العالم فلا يزور القرية إلاّ لنشر اللّذّة وجمع
مال الفقراء والبؤساء مقابل لحظة انتشاء هلاميّة لا يعرف سرّها إلا هو.” كما
ذكر علاقاته الواسعة “مع كبار القضاة وأشهر المحامين، وتربطه علاقات صداقة مع
كبار قادة الأمن الّذين يمنحونه الأمان ويُيَسّرون تنقّله ببضاعته مقابل ما
يهبهم من كثير الرّشاوي والعطايا والهدايا لغضّ النّظر عن كلّ ذلك.” ولعلّ
أخطر علاقة تفضح تآكل المجتمع فسادا في أعلى هرم السّلطة يظهر في علاقة نبيل
مروّج المخدّرات “بجلال” ابن القرية والنّائب المحترم بمجلس الشّعب، يا له من
اتحاد، يقول الكاتب، اتحاد السّلطة بالفساد أو تستّر الفساد بالسّلطة”. يواصل
الكاتب في وصف حفل العُرس والعَروس على لسان الحاضرات فهذه تذمّ وتلك تمدح
وتواصل النّساء في الزّغاريد والرّقص والهرج والمرج ويواصل الرّجال في
التّمتّع ببنت الشّيطان وحفيدة العنب حتى مطلع الفجر. *

*            لم  تكن غاية الكاتب من هذه الرّواية التركيز على التّقاليد
والعادات التي تمُيّز احتفالات الزّفاف في المجتمع القروي وإن كان طارق الغول
قد أبدع في وصفه لها وفي إبراز مميّزات هذا المهرجان ومدى تأثيره على أهل
القرية اجتماعيّا ونفسيّا، بل كان غرضُه أعمق من هذا بكثير وهو الغوص في البعض
من لاوعي النّساء، هذا الجنس اللّطيف الذّي عادة ما يُخفي أكثر ممّا يُظهر
ويحافظ على الأسرار أكثر من أي شخص آخر أو جنس آخر وله القدرة على غلق باب
القضايا الحميميّة بحيث لا تنجح معها الطرق العادية في استدراجه للحديث عن هذا
المحرّم والممنوع اجتماعيّا وأخلاقيّا ودينيّا، فالمرأة تحافظ على هذا البعد
كحفاظها على أشيائها الثّمينة والنّفيسة، زد على ذلك أن المرأة الشّرقيّة
والعربيّة عموما ما تزال تعاني من القيود الذّكوريّة المسلّطة عليها إلى اليوم
وما زال المنع بكلّ أساليبه وأشكاله ينخر بصيص شعورها بالحريّة، وينزع عنها
إحساسها بكيانها المستقلّ وبفَرَادَتِها. فالرّواية إذن تُثير قضيّة ذات
أهميّة قصوى ما تزال مطروحة بحدّة إلى اليوم وما تزال تتصدّر شرايين المجتمع
وخلاياه سواء في شكله القروي أو المدني، صحيح أن الكاتب سيذكر وضعيّات نسوة
قرويّات الأصل لكن لا يعني هذا أن المرأة المدنيّة أو ابنة المدينة قد تخلّصت
نهائيّا من عنف الرّجال المعنوي والماديّ المسلّط عليها. وقد وجد الكاتب فكرة
جهنّميّة حتى يتمكّن من الدّخول إلى العالم اللاّ واعي للنّساء ويغوص في
أغواره دون عناء في التّصدّي لعامل المقاومة الذّي يبنيه الأنا كسدّ منيع
يحُول دون اخراج المكبوت إلى وضح النّور. فقد التجأ الكاتب في هذا الجزء
اللّيليّ من الرّواية بعد انتهاء الحفل إلى المسمّات “الخالة زينب” وهي ” التي
لا تغيب على فرح ولا مأتم كالملح تماما، يصفها طارق الغول، بقشعريرة لا بدّ
منها في القرية. وهي امرأة جاوزت عقدها الرّابع وشارفت على الخامس. ولم تتزوّج
ولم يكن حظُّها مع الرّجال وفيرا وكبيرا، فهي تحضر الأفراح لتزغرد وترقص، كما
تحظر المآتم لتصيح وتلطم وتُعدّد مآثر الميّت حتّى ولو لم تكن تعرفه أو كان
هذا الميّت أقرب إلى الشّيطان منه للإنسان في أفعاله وصفاته”. مرّت الخالة
زينب حذو النّسوة اللاّتي بقين إلى آخر الحفل وكنّ يسترجعن ذكريات أيام
زفافهنّ و” تقدّمت منهنّ بخطى ثابتة قادها فضولها الشّديد إلى الخبر من
المصدر، وجذبها الحوار وتداعيّاته، وما أفضى إليه من تعرّجات متعدّدة ومطبّات
متنوّعة. قفزت إلى ذهنها فكرة جهنّميّة سوّلت لها نفسها الأمّارة بالنّسوة أن
تستعين بكلّ خبراتها وأن تعرض عليهنّ مواصلة الحوار بإحدى الغرف المنزوية
والخالية من كلّ رقيب وإكمال السّمر في أريحيّة وتناول بعض المشروبات وعرضت
عليهنّ الأمر وقبلن بصدور رحبة”. ليس من اليسر أن تستدرج الخالة زينب النّسوة
للبوح بأعماق احساسهنّ وأغوار شعورهنّ نحو أزواجهنّ وما يختبأ من حالات
وتصرّفات لا أحد غيرهنّ يعرفها فالمقاومة أشدّ من كل استدراج. لذلك التجأت
الخالة زينب إلى طريقة تُمكّنها من التّغلّب على كلّ مقاومة وتزيح الوعي عن
ساحة الذّكريات وتطلق العنان للاّوعي وتجعله يلعب دوره الكشفي والفاضح دون
عناء، ” فخطر لها أن تضع لهنّ “خفية” حبوبا مخدّرة في المشروبات لتكشف
أسرارَهنّ وما خفي عن الأعين وما اختبأ في الصّدور، وما يحتويه ليلهنّ من
التّفاصيل المثيرة والأسرار الدّفينة. وقد بدت مصرّة على هتك ستار المسكوت عنه
وأن تلج مباشرة بواطن أنفسهنّ واستجلائها…”  نجحت الخطّة وكان لها ذلك وقضّت
معهنّ ما بقي من اللّيل، والنّساء تتسابقن، بعد أن أخذت المخدّرات منهنّ أيّ
مأخذ، في الحديث عن تجربتهنّ وكشف أسرار علاقات الحبّ التي عِشْنها والبوح
بخفايا الحياة الزّوجيّة الحميميّة. *

*           قد تمكّن الكاتب من خلال رواية النّسوة، تحت تأثير التّخدير،
لحالاتهن ووضعياتهنّ العائليّة والزوجيّة، من إثارة كثير من القضايا
الاجتماعيّة والنّفسيّة والعاطفيّة الحميميّة المزرية التي يعاني منها المجتمع
العربي عموما والتي تعاني منها بالخصوص المرأة العربيّة داخل مجتمع ذكوري،
مجتمع مريض بتورّم سرطان الشّعور بالتفوّق الوهمي على الجنس النّسائي والاحساس
بالرّجولة الزّائفة واستضعاف الأنثى بتشييئها والنّظر إليها كموضوع متعة
جنسيّة لا غير، إن القارئ لهذه الحالات الواقعيّة والتي سنتعرّض لبعضها في هذا
المقال، ينتهي بنا  في الأخير إلى تأكيد منبع التخلّف وأسّ الوحشيّة الذين
يتّصف بهما مجتمعنا العربي ويكشف بوضوح السّبب الجوهري لهذا التّخلّف منذ عهود
طويلة ويفضح مكمن الدّاء لهذا الوباء الذي يتجسّد في النّظرة إلى نصف تركيبة
المجتمع بأنّه لا شيء ولا قيمة إنسانيّة له، وأن المراهنة الأولى والأخيرة في
التّعامل مع المرأة مهما كان وضعُها الاجتماعي والعلمي والثّقافي، إنّما هي
مراهنة جنسيّة بالأساس، وطالما أنّ المجتمع العربي ما يزال منتشٍ برجولته
وفحولته ومشدود إلى الصّورة الذّكوريّة الزّائفة والوهميّة والمرضيّة لتي
كوّنها عن نفسه فانعكست هذه الصّورة في العائلة بتصنيف الفتاة ضمن أفراد
الأسرة الواحدة في أدنى مرتبة إن لم تُوضع  على الهامش وتُعتبر عالة مُثْقِلة
لكاهل الأبوين. وقد أكّد الكاتب على هذا الموقف المحقّر للفتاة في الحكاية
الأولى من حكايات النّسوة، وهي حكاية منيرة التي زُوِّجَتْ غَصْبا عن إرادتها،
في سنّ مبكّرة من صديق أخيها الّذي لم تره إلاّ مرّة واحدة في زيارة أولى إلى
البيت، ورغم كون منيرة ما تزال تزاول تعليمها في المرحلة الثّانويّة فإن
العائلة رحّبت بطلب الزّواج دون أدنى استشارة لها ودون أدنى احترام لمشاعرها
ولمستقبلها الدّراسي، فالأب كما تقول منيرة ” كان ينظر إليّ كعبء ثقيل على
مصاريف العائلة” فهو القائل ذات مساء:” أنتِ تستهلكين منذ ولادتك وتستنزفين
أغلب أموالنا وأنت قابعة في البيت دون فائدة”. تعبّر منيرة بكلّ أسى وحزن على
وجودها كأنثى في العائلة فتقول:” كنت أشعر بحرقة في القلب والضّيم الكبير
جرّاء نفور أهلي منّي وكأنّني غريبة لا أنتمي إلى هذه الأسرة إلاّ باللّقب
العائلي… وانضمّت أميّ إلى الجوقة، فكثيرا ما تنهرُني وقَلّ كلامُها معي
والكلّ يأمرُني ويُزَمْجِرُ في وجهي خاصّة أبي… الكلّ يعتبرُني خادمةً
مأجورةً بلقمة أو ببعض الملابس المستعملة… وأتَدَثَّرُ بحِلكة اللّيل لأُخفي
بكائي وجُرحي النّازف يَحْفرُ عميقا في خلايا الرُّوح والجسد.” ألا يوحي لنا
هذا المشهد وهذه المأساة التي تعيشها معظم النّساء من المهد إلى اللّحد، أننا
ما زلنا نعيش ظاهرة وَأْد النّساء التي كانت في عصر الجاهليّة، فالسّبب
والنّتيجة متشابهان وإن اختلفت الطّرق، فصحيح أن الوَأْدَ في ذلك الوقت كان
جسديّا بدفن الفتاة حيّة ونحن اليوم نُورِي تحت تُراب النّسيان والتّهميش
والتّحقير والازدراء كلّ خصائص المرأة بما هي إنسان فندوس على كرامتها
ونَدْفُن مشاعرَها في ذلك الرّكن المُظلَم من البيت حيث العزاء والبكاء. وحتى
فرصة الزّواج ليست سوى مواصلة بأكثر قسوة وأكثر تعذيب وأعنف تحقير لأدنى
المشاعر والأحاسيس الحميمة وتبخرّ لقيمة الألفة والمحبّة. إنّه إعلان نهائيّ
لقتل الذّات وطمس لا رجعة فيه لحق المرأة في المتعة النّفسيّة والجسديّة، وذاك
ما حدث تماما لمريم مع زوجها، فهو بعد أن أنفق على حفل الزّفاف “أموالا طائلة
تكفي قريتنا، كما تقول منيرة “مؤونة لمدّة سنة كاملة متعلّلا بأنّه يريد لهذا
الحفل أن يبقى حديث النّاس في القرية لسنوات طويلة.” بعد هذا المهرجان
المُكْلِف جدّا تروي منيرة ليلة دّخلتها فتقول:” كانت اللّيلة الأولى مع هذا
العريس تحت سقف واحد ووراء باب مُغلق… دون كلام أو مداعبة، جرّني من يدي إلى
غرفة النّوم وطرحني على الفراش دَفْعًا وأراد افتضاض بكارتي بل تحديدا كما قال
هو أريد حقّي… إن جسدك ملكي وحقٌّ من حقوقي …” إن هذا المشهد الذي نعتقد
في واقعيّته ونجزم بتكراره في كثير من البيوت الزّوجيّة يثير إشكالا خطيرا
جدّا يتمثّل في السّؤال التّالي:  هل أن الزّواج  هو في الأصل، بناء علاقة حبّ
ومودّة ثنائيّة اجتماعية داخل إطار إيتيقي  إنسانيّ بكلّ ما تحمله العبارة من
قيم كونيّة أم هو صفقة تجاريّة تتمّ فيها عمليّة اغتصاب المرأة واستغلال جسدها
في أبشع صوره تحت غطاء الشّرعيّة الدّينيّة وضوابط التّعاقد الاجتماعي؟ أليس
هذا المشهد وكل ما سيتبعه في الرّواية من تصرّفات هذا الرّجل الغريزيّة
والشّبقيّة والمشينة مع منيرة أو بالأحرى مع جسد منيرة وفواتنه يفضح في الواقع
العقدة المركزيّة للرجل التي تنحصر في الاشباع الفردي للرّغبة الجنسيّة دون
الاهتمام بالآخر أي المرأة كإنسان كما يكشف أيضا حالة من الكبت المرضي الدّفين
في لا وعي الرّجل والتي تحتاج إلى متابعة علاجيّة؟*

*      إن المتابع لحكايات النّسوة اللاتي سهرن معا تلك اللّيلة في رواية طارق
الغول يشعر بقلق وجوديّ عميق على تردّي وضع الإنسان عموما وطبيعة علاقاته مع
الآخر، ويعي كذلك بمدى خطورة اعتبار هذا الآخر مجرّد أداة وموطن إشباع للشهوة
واللّذة الجنسيّة لا غير. ولعلّ ما سيأتي من بعض النّماذج يؤكّد هذا التّشييء
للمرأة كآخر بالنسبة للرّجل. فبعد أن فقدت سعيدة زوجها في محاولة هجرة غير
شرعيّة  وبقيت فترة طويلة تعيش شقاء الفجيعة والألم وجفاف صحراء العاطفة
والحنين، وجدت لها أمُّها رجلا “لا ملمح إنسانيّ له”، تقول سعيدة واصفة حالتها
المأساويّة:” كنت ممزّقة بين التمسّك بمشاعري وما يترتّب عنها من عنوسة، وبين
الزّواج بهذا الرّجل وما ينجرّ عنه من وأد لمشاعري، لم أعرف متى حُدِّدت
المراسم وكيف تمَّت… صفوة الموضوع أنّني وجدت نفسي أنتقل من قريتي إلى مدينة
أخرى، ومن حزن إلى حزن أعمق ومن منزل والديّ وسكونه إلى منزل رجل لا أعرف عنه
شيئا سوى ملامحه…وجدت نفسي أنتقل من حضن جبّار المرمري الحريري إلى حضن لا
أشعر من خلاله بأيّ شيء… كنت مجرّد جسد بين يديه لا روح ولا عاطفة ولا رغبة
ولا نشوة.” ثمّ تُلخّص وضعيّة هذه الحياة الزوجيّة المأساويّة بقولها:” كانت
علاقتي بزوجي مجرّد علاقة زنى مقنّعة تحت غطاء اجتماعيّ وقانونيّ وشرعيّ اسمه
عقد القران… ومن بلاهة هذا المجتمع أنّه يحتفل بعمليّة الزّنى هذه ويهلّل
لها، ويصفها بأنّها سنّة الحياة، وإتمام الإنسان لنصف دينه”.*

*          وليست حكاية مريم أقل مرارة وشقاء من القصص الأخرى فقد عاشت مع
محمود قصّة حبّ وعشق لا مثيل لهما تقول:” لقد أوهمني محمود أنّني أختزل في
عينيه كلّ نساء التّاريخ… وأنه لا معنى لوجوده من دوني إذ يتحوّل إلى عبث
وعدم… وإنّه في غيابي أشبه ما يكون بِمَلِك سُلب عرشه. دامت علاقتنا من
السّنوات تسعا وهبته فيها كلّ ما أراد… الحب والعطف والصّدق …حتى جسدي
بكلّ تفاصيله وتضاريسه ومنعرجاته كان ملك يمينه ويساره. لقد أمنته على نفسي
وسلّمته مفاتيح قلعتي… لكنّه كان ذئبا في هيئة بشريّة. كان كلّما فاتحته في
مسألة الزّواج حتّى يكتمل حبُّنا وأُخفي عن النّاس فضيحتي التي تنتظرني في ظلّ
مجتمع ذكوريّ قاتل وقابر لكلّ أنوثة، ومشهّر بعلاقات الحب والعشق…إلاّ ويقول
لي محمود ضاحكا:” إنّ الزّواج يقتل الحبّ… فحين نتزوّج لن نقدر على الاعتناء
بأنفسنا ورعاية حبّنا …كان يضمّني إلى صدره ويقول:” الزّواج نعش الحبّ
وتابوته.” بدأت علامات الحمل تظهر على مريم وكثرت وعوده الكاذبة …لكنها ذات
يوم اكتشفت:” أنّه من ذوي العلاقات المتعدّدة والسّوابق العاطفيّة والجنسيّة
وأنّني لست ضحيّته الأولى أو الوحيدة… فقد شيّد مملكته الجنسيّة على نهود
النّساء وأردافهنّ… وكنت أنا واحدة من بينهنّ.” تقول مريم: “ثارت ثائرتي
وأصبحت كثور اسبانيّ جريح… ولمّا واجهته بحقيقته لم ينكر بل اعترف بكلّ
غزواته العاطفيّة وصولاته الجنسيّة… برّر ذلك بأنّه رجل وذكر ولا لوم ولا
حرج على الرّجال في هذا الأمر … فالرّجل يفعل ما يرغب فيه دون حرج دون أن
يُنقص ذلك من كرامته أو يخدش من رجولته بل أضاف قائلا:” لا يكون الرّجل رجلا
في نظري إلاّ إذا تعدّدت علاقاته وتنوّعت مغامراته… وهذا مؤشّر صحّيّ للرجل
وعلامة من علامات فحولته… وأنا فحل بلا فخر…” بهذه الأقوال الصّريحة
لمحمود يرسم الكاتب صورة داكنة للرّجل الشّرقي ويضع أصبعه على الدّاء المتورّم
في مجتمعاتنا الشّرقية والعربيّة، صورة تقوم على ثقافة زائفة مُشْبَعَة
بالمفاهيم الخاطئة للرّجل  وعلى قيم مهتزّة للرجولة ومماثلتها “للفحولة” التي
تُنسب عادة للحيوان وربط كلّ ذلك بالعقدة الجنسيّة التي تُكشّر عن أنيابها
بالممارسات الوحشيّة اللاإنسانيّة فتختلط بمفاهيم الأنانيّة المفرطة والهرسلة
الجنسيّة المرضيّة وبالخيانة وخاصة بالبروز “الرّجولي” في الوجود والألمعيّة
في الحضور  بإقصاء الآخر وحرمانه من أدنى حقوقه الإنسانيّة. لذلك لم ير محمود
أي حرج من ذاته المتدنّية أخلاقيا وإنسانيّا وهو يتباهى برجولة وهميّة ولا أي
خجل أمام مرآة ذاته حين يُخفي عجزه وضعفة وجبنه وبوقاحة شديدة دون مراعاة
مشاعر مريم التي وهبته ذاتها وكل ما تملك حين اتهمها بهذه التّهمة المشينة
بقوله:” لست على يقين أنّ الذي في أحشائك من صلبي… أنا متيقّن أنّ ما فعلته
معي قد فعلتِهِ مع غيري أليس كذلك؟” وبطبيعة الحال لا ننتظر من هذا “الرجل”
إلاّ أن يغيّر رقم هاتفه ويهرب إلى مكان آخر. وكان لمريم بعد ذلك حياة تعيسة
في أبشع صورها. *

*           الحكاية الأخيرة التي اخترناها من رواية “البعض من لاوعي النّساء”
تثير أيضا قضيّة ذات خطورة مزدوجة تكشف فسادا جنسيّا واسع النّطاق يمخُرُ
قداسة المعرفة والعلم داخل كلّياتنا وجامعاتنا وإن كنّا نتحفّظ بعض الشّيء ولا
نتسرّع في التّعميم لكن هذه حقيقة مرّة نعرضها باختصار في حكاية فاطمة. ويمكن
حصر القضيّة فيما يحدث من مقايضة في سوق المعرفة والعلم تتمثّل في عرض فرص
النّجاح بامتياز مقابل “الدّعارة”، أو إن أردنا إشباع الرّغبة الجنسيّة لبعض
الأساتذة ذوي سنّ متقدّم وتمكينهم من تحقيق نزوات المراهقة المتأخرة وإحياء
ذكرى الشّباب المفقود لبعض شيوخ العلم والمعرفة. ليس هناك أبخس من هذه
المتاجرة بالجسد مقابل تعميق الجهل من ناحية وسهولة نيل الشهائد العلميّة دون
عناء ودون كفاءة!*

* ومن غير أن نعرض تفاصيل حكاية فاطمة مع أستاذها المختصّ في مادة الحقوق
العامّة لنستمع إليها وهي تروي أوّل لقاء مع هذا الأستاذ في قاعة الدّرس
والبقيّة مفصّلة في الرواية. تصفه بقولها:” كان كهلا أبيض الشّعر… تطغى على
وجهه التّجاعيد كأنها أرض لم يُقبّل ثغرُها الماء منذ زمن قديم، وفي أحد
الأيّام بينما كنت أدرس في حصّة هذا الحقوقيّ طلب منّي أن أغيّر مقعدي من أوّل
القسم إلى آخره… أذعنت لطلبه ورَغْبته دون سؤال عن السّبب ودون تردّد بحكم
أنّه يمارس عليّ سلطة معنويّة ومعرفية… وما إن جلست بمقعدي الجديد آخر الفصل
حتى اتّجه نحوي وانحنى عليّ وهمس قائلا:” إن لم تتجاوبي معي فلا ولن تنجحي
البتّة… فاجأني كلامُه واستغربته واستهجنته في أوّل الأمر كيف لأستاذ يدرّس
الحقوق هو نفسه الذي يحاول اغتصاب هذه الحقوق والتعدّي عليها…؟ ” لن نروي
لكم تفاصيل هذه العلاقة بل يكفينا أن نذكر ماذا قال الأستاذ لفاطمة في أوّل
لقاء معها في منزله:” سنبرم عقدا شفويّا أخلاقيّا… أنا سأوقّع لك شهادة
نجاحك… وفي المقابل تمنحينني شهادة ميلادي من جديد…ولعلّك تعلمين أنّ
الحياة أخذ وعطاء…آخذ منك ما يُكمّلني وتأخذين منّي ما ينقصك… هذا
الاتّفاق سيكون المبدأ الأساسيّ لعلاقتنا…لحم مقابل شهادة علميّة ولذّة
جسديّة مقابل نجاح… لحم مقابل تحقيق حلم… هل أنت موافقة؟ *

*            إنّ قارئ الرّواية  إلى الآخر سَيُصْدَم بانهيار كلّيّ لجميع
مقايس القيم وسيضطرّ إن عاجلا أو آجلا إلى التّيقّن من ضرورة وضع مجتمعاتنا
العربيّة داخل عيادات ومصحّات علوم الاجتماع والنّفس التطبيقيّة المعاصرة
جدّا، علّنا نتمكّن من تشخيص هذا المرض العُضَال الّذي تُعاني منه هذه
المجتمعات والنّاتج أساسا عن سيادة عقليّة ذكوريّة مكبوتة لم تنجح رغم ما
تعيشه من تطوّر في الهنا والآن من التّحرّر من العُقَد الموغلة في الزّمن
والمرميّة داخل أغوار اللاّوعي المرَضي، فإن كان الكاتب طارق الغول قد أبدع من
حيث الشّكل والمحتوى في صياغة عمل أدبيّ بالغ القيمة والأهميّة في توظيف
تقنيّات الرّواية لخدمة قضايا عادة ما تُرمى في طيّ النّسيان وتُترك هناك
وتُدفن في مقبرة الأحزان دون محاولة إثارتها خوفا من صداها البركانيّ فإنّه قد
نجح في نفس الوقت، وهو يروي على لسان شخصيّاته البعض من لا وعي النّساء في
فضحه بشكل سافر وجريء كثيرا من لا وعي الرّجال المرضيّ في مجتمع عربي شرقيّ
متورّم إلى النّخاع.  *

فتحي جوعو  ماي 2018

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

آخر المواضيع