قراءة في قصيدة الشاعر كامل راهي مرزوك”المصنع المهجور”

النثروشعريّة والرمز الديني

286
تجلّيات اللغة في القصيدة السرديّة التعبيريّة
النثروشعريّة والرمز الديني
قراءة في قصيدة الشاعر : كامل راهي مرزوك- العراق – المصنع المهجور 
بقلم : كريم عبدالله– بغداد – العراق1/9/2021

يقول سركون بولص : ونحن حين نقول قصيدةالنثر فهذا تعبير خاطئ , لأنّ قصيدة النثر في الشعر الأوربي هي شيء آخر , وفي الشعرالعربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وأنا أسمّي هذا الشعرالذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه إليوت و أودن وكما كان يكتبه شعراء كثيرونفي العالم . واذا كانت تسميتها قصيدة النثر , فأنت تبدي جهلك , لأنّ قصيدة النثر هيالتي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه , أي قصيدة غير مقطّعة . من هنا بدأنا نحنواستلهمنا فكرة القصيدة / السرديّة التعبيريّة / بالاتكاء على مفهوم هندسة قصيدة النثرومن ثمّ التمرّد والشروع في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب من ضجيج كثير بدعوى قصيدةنثر وهي بريئة كل البراءة من هذا الاّ القليل ممن أوفى لها حسبما يعتقد / وهي غير قصيدةنثر / وأبدع فيها ايما ابداع وتميّز , ونقصد انّ ما يُكتب اليوم انما هو نصّ حرّ بعيدكل البُعد عن قصيدة النثر . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة تتكون من مفردتي / السرد– التعبير / ويخطئ كثيرا مَن يتصور أنّ السرد الذي نقصده هو السرد الحكائي – القصصي, وأنّ التعبير نقصد به الأنشاء والتعبير عن الأشياء . انّ السرد الذي نقصده انما هوالسرد الممانع للسرد أي انّه السرد بقصد الإيحاء والرمز والخيال الطاغي واللغة العذبةوالأنزياحات اللغويّة العظيمة وتعمّد الإبهار ولا نقصد منها الحكاية أو الوصف, أمامفهوم التعبيريّة فأنّه مأخوذ من المدرسة التعبيريّة والتي تتحدث عن العواطف والمشاعرالمتأججة والأحاسيس المرهفة , اي التي تتحدث عن الآلام العظيمة والمشاعر العميقة وماتثيره الأحداث والأشياء في الذات الإنسانية . انّ ما تشترك به القصيدة السرديّة التعبيريّةوقصيدة النثر هو جعلهما النثر الغاية والوسيلة للوصول الى شعرية عالية وجديدة . انّالقصيدة السرديّة التعبيريّة هي قصيدة لا تعتمد على العروض والأوزان والقافية الموحّدةولا التشطير ووضع الفواصل والنقاط الكثيرة او وضع الفراغات بين الفقرات النصيّة وانّماتسترسل في فقراتها النصيّة المتلاحقة والمتراصة مع بعضها وكأنّها قطعة نثريّة . أنّالقصيدة السرديّة التعبيريّة هي غيمة حبلى مثقلة بالمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفةترمي حملها على الأرض الجرّداء فتخضّر الروح دون عناء أو مشقّة .

وسعياً منّا الى ترسيخ مفهوم القصيدة السرديّةالتعبيريّة قمنا بأنشاء موقع الكترونيّ على ( الفيس بوك ) العام 2015 ,اعلنا فيه عنولادة هذه القصيدة والتي سرعان ما انتشرت على مساحة واسعة من أرضنا العربية ثم ما لبثتأنّ انشرت عالمياً في القارات الأخرى وانبرى لها كتّاب كانوا أوفياء لها وأثبتوا جدارتهمفي كتابة هذه القصيدة وأكّدوا على أحقيتها في الانتشار وانطلاقها الى آفاق بعيدة وعالية. فصدرت مجاميع شعرية تحمل سمات هذه القصيدة الجديدة في أكثر من بلد عربي وكذلك مجاميعشعرية في أميركا والهند وافريقيا واميركا اللاتينية و أوروبا وصار لها روّاد وعشّاقيدافعون عنها ويتمسّكون بجماليتها ويحافظون على تطويرها .

سنتحدث تباعاً عن تجلّيات هذه اللغة حسبمايُنشر في مجموعة السرد التعبيري – مؤسسة تجديد الأدبيّة – الفرع العربي , ولتكن هذهالمقالات ضياء يهتدي به كل مَنْ يريد التحليق بعيدا في سماوات السردية التعبيرية .

حينما ينطبع الواقع بذكرياته المريرة علىالحواس وتستوعبها العواطف الجيّاشة المرهفة ستظلّ عالقة في الذاكرة , وتحاول الظهورعلى ارض الواقع كلّما داعبتها المستثارات , فتتمثل على شكل أفكار حسّيّة تعتمد قوّتهاونشاطها على تلك الانطباعات التي تأتي من الخارج , أو تأتي على شكل تأملات في الذاكرةنتيجة التأمل الطويل والتفكير العميق . وكلّما كانت الذكريات مؤلمة أكثر تركت آثارالمرارة واضحة أكثر , وكلّما كانت الحواس صادقة كلّما تجلّت المحنة أكثر , كلّ هذاسيظهر لدى الذات الشاعرة المحتفظة بذاكرة حيّة بوضوح وصدق , وحينها سوف تقوم يتحويلهذه المشاعر والاحاسيس والعواطف الى تعبيرات نصّية وصوراّ شعرية تحمل في طيّاتها موسيقىحزينة شجيّة , كلّ هذا من اجل انضاج الفكرة التي هي بصددها ( الذات الشاعرة ) وايصالرسالة واضحة .

في قصيدة الشاعر : كامل راهي مرزوك والمعنونة/ المصنع المهجور / , نرى بوضح تلك النثروشعرية السلسة والمعتمدة على قاموسيّة الشاعروخزينه المفرداتي , حيث تجلّى الشعر من خلال النثر , هذه النثروشعرية استطاعت ان تقدّملنا رسالية واضحة بين جماليتها الفنية والاجتماعية وهي تتناول ثيمة واضحة , ان الاعتمادعلى فضاءات السردية التعبيرية الشاسعة منحت الشاعرة امكانيات في تحقيق ما يصبو اليهمن عذوبة في اللغة وألفة وتعبيرية ودهشة . لقد استطاع ان يحقق تصاعدا طرديا ما بينالشعر والنثر من خلال قصيدته هذه , حيث الشعرية العالية مقابل النثر الكثير , ان لغةالشاعر هنا قد اصبحت متماوجة ما بين القرب والتوصيل والمباشرة , وما بين الايحاء والرمزيةوالتجلي , لغة متموجة تتباين فيها درجات تموج اللغة وانحرافاتها والسردية .

فلو دققنا النظر وقمنا بقراءة هذه القصيدة/ المصنع المهجور / فسنرى الجو المشحون بالحزن والدماء والقدسيّة والإباء , والاتكاءعلى الموروث الديني والتاريخي وتوظيفه بما يخدم القضية التي من خلالها أراد الشاعرايصالها للمتلقي , بما يخدم القضية وتجلّيات الشعر وايصال رسالة واضحة , معتمدا علىالرمز الديني من اجل انضاج الفكرة وبثّ في مفاصلها العمق الدلالي والايحاء , واستخدامهذه الشخصية الدينيّة وقوّتها في جعل القصيدة تنفتح على آفاق واسعة باعتبارها مركزالقضية ومحورها الدائب في نسيج القصيدة , ومن حولها تدور الاحداث والخطوب , هذه الشخصيةالعارفة بمصيرها المأساوي والدمويّ والساعية الى هذا لمصير طائعة مستسلمة لإرادة السماءمن اجل هدف أسمى . نستشعر من خلال اجواء القصيدة التراجيديا والمأساة لهذه الشخصيةوتوحي لنا بما كابدته من احداث جليلة مؤلمة واحزان جمّة , وكذلك توحي لنا بالنتيجةالمؤسفة النهائية لهذه الشخصية المتّسمة بالشهامة والنُبل والقدسيّة , ومرورها بظروفتعيسة وتحمّلها الكثير من الألم , بالمقابل توحي لنا بهمجية الانسان وطغيانه وكفرهبكل المقدّسات السماوية من اجل الدنيا ومتاعها . كل هذا نتلمسه في هذا النسيج الشعريالحزين والنثروشعرية الواضحة , فمثلا نقرأ / تختفي الذكريات – هنا نجد اللغة التوصيلةالواضحة من خلال معنى واضح ومباشر , / تبحث عن مأواها – هنا نجد الانزياح اللغوي والابتعادكثيرا عن المباشرة والسطحية من خلال هذا التجلّي الشعري , ثم نقرأ / تلك الخطوات علىالسلالم المكسورة – لغة توصيلية واضحة , يقابلها / أشباح المحرقة – هذه الرمزية الواضحةالمصحوبة بالخيال , ثم نقرا / وانين الموتى – لغة توصيلية يقابلها / فوق ركام الهشيم– انزياح لغوي وتعمّد الابهار والدهشة والنفوذ الى اعماق المتلقي , ونقرا ايضا / المصنعالمهجور – لغة توصلية واضحة , يقابلها انزياح لغوي / يتكلّم بألف معنى . وهكذا نجداللغة الشعرية تتماوج ما بين المباشرة والانزياح في جميع مفاصل وفقرات القصيدة .

لقد نجح الشاعر : كامل راهي مرزوك في أنيجعلنا نعيش مأساة هذه الشخصية ونتفاعل مع هذه القضية من خلال تكراره للمفردات التالية/ كربلاء / العراق / الحسين / القلب / الارض / المصنع المهجور / مقابل الدماء وجريانهابغزارة , وجعلنا نعيش حالة الصراع الدائم ما بين الخير والشرّ , كلّ هذا جاء من خلاللغته المتماوجة ما بين الوضوح والانزياح , ونجد هنا كيف ان الشعر ينبعث من خلال النثر, وكيف استطاع الشاعر ان يجعلنا نعيش معه المحنة , ما بين لغة سرديّة واضحة وتعبيريّةمعتمدة على الانزياح اللغوي , ما بين شعرية عالية ونثرية عالية , لقد استطاع الشاعران يحقق تجلّي واضح من خلال لغته النثرية والمصاحبة للشعرية , فمع كلّ درجة نثر نجدما يقابلها من الشعر , فلم نجد الغرابة والنفور في لغته الشعرية هنا , لم نجد غير الشعروالنثر متوافقان بطريقة مسبوكة بحرفية عالية وبطريقة مدهشة .

القصيدة :

المصنعُ المهجور…

تختفي الذِّكريات؛ تبحثُ عن مأواها؛ تِلكَالخُطواتُ على السّلالِمِ المكسورة؛ أشباحُ المحرقة؛ وأنينُ الموتى؛ فوقَ رُكامِ الهشيم.المصنعُ المهجور؛ يتكلّمُ بألفِ معنى؛ وللصّديدِ مجرى؛ أخاديدُ الدِّماءِ تملأُ الوادي؛والرُّؤوسُ المقطوعة قناديلُ نشيد؛ وحيُ الأرضِ التي تأبى الأُفول. وأمضي إلى كربلاء؛وأرى ما لا يُرى؛ لقد جُنَّ المكان؛ لقد قتلوا الإنسان. أفهمُ أنَّ العراقَ أرض؛ ولكنليسَ كُلُّ أرضٍ عراق؛ وليسَ في الكونِ إلا حُسين. لقد تركَ الثّوريّونَ عقيدَتهم فيالصّقيع؛ ولكنَّ الرّايةَ الحمراء ثأرٌ هُنا؛ فالحُسينُ كربلاء. في المصنعِ المهجور؛قرأتُ حرفا؛ وبكيت؛ ولكنّي أنزفُ حتى الآن؛ فليست الدُّموعُ إلا القلب؛ والقلبُ الحُسين؛والحُسينُ لا يموت.

كامل راهي مرزوك ـ العراق

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المقالات