قراءة في قصيدة الشاعرة منال هاني”مواءٌ يقضُّ مضجع الغياب”

تجلّيات اللغة في القصيدة السرديّة التعبيريّة

575
تجلّيات اللغة في القصيدة السرديّة التعبيريّة
الفسيفسائية ولغة المرآيا
قراءة في قصيدة الشاعرة : منال هاني سوريا –مواءٌ يقضُّ مضجع الغياب
بقلم : كريم عبدالله – بغداد – العراق 25/8/2021

يقول سركون بولص : ونحن حين نقول قصيدة النثرفهذا تعبير خاطىء , لأنّ قصيدة النثر في الشعر الأوربي هي شيء آخر , وفي الشعرالعربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وأنا أسمّي هذاالشعر الذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه إليوت و أودن وكما كان يكتبه شعراءكثيرون في العالم . واذا كانت تسميتها قصيدة النثر , فأنت تبدي جهلك , لأنّ قصيدةالنثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه , أي قصيدة غير مقطّعة . من هنابدأنا نحن وأستلهمنا فكرة القصيدة / السرديّة التعبيريّة / بالأتكاء على مفهومهندسة قصيدة النثر ومن ثمّ التمرّد والشروع في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب منضجيج كثير بدعوى قصيدة نثر وهي بريئة كل البراءة من هذا الاّ القليل ممن أوفى لهاحسبما يعتقد / وهي غير قصيدة نثر / وأبدع فيها ايما ابداع وتميّز , ونقصد انّ مايُكتب اليوم انما هو نصّ حرّ بعيد كل البُعد عن قصيدة النثر . انّ القصيدةالسرديّة التعبيريّة تتكون من مفردتي / السرد – التعبير / ويخطيء كثيرا مَن يتصورأنّ السرد الذي نقصده هو السرد الحكائي – القصصي , وأنّ التعبير نقصد به الأنشاءوالتعبير عن الأشياء . انّ السرد الذي نقصده انما هو السرد الممانع للسرد أي انّهالسرد بقصد الأيحاء والرمز والخيال الطاغي واللغة العذبة والأنزياحات اللغويّةالعظيمة وتعمّد الأبهار ولا نقصد منها الحكاية أو الوصف, أما مفهوم التعبيريّةفأنّه مأخوذ من المدرسة التعبيريّة والتي تتحدث عن العواطف والمشاعر المتأججةوالأحاسيس المرهفة , اي التي تتحدث عن الآلآم العظيمة والمشاعر العميقة وما تثيرهالأحداث والأشياء في الذات الأنسانيّة . انّ ما تشترك به القصيدة السرديّةالتعبيريّة وقصيدة النثر هو جعلهما النثر الغاية والوسيلة للوصول الى شعرية عاليةوجديدة . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي قصيدة لا تعتمد على العروض والأوزانوالقافية الموحّدة ولا التشطير ووضع الفواصل والنقاط الكثيرة او وضع الفراغات بينالفقرات النصيّة وانّما تسترسل في فقراتها النصيّة المتلاحقة والمتراصة مع بعضهاوكأنّها قطعة نثريّة . أنّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي غيمة حبلى مثقلةبالمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة ترمي حملها على الأرض الجرّداء فتخضّر الروحدون عناء أو مشقّة .

وسعياً منّا الى ترسيخ مفهوم القصيدةالسرديّة التعبيريّة قمنا بأنشاء موقع الكترونيّ على ( الفيس بوك ) العام 2015,اعلنا فيه عن ولادة هذه القصيدة والتي سرعان ما أنتشرت على مساحة واسعة من أرضناالعربية ثم ما لبثت أنّ انشرت عالمياً في القارات الأخرى وأنبرى لها كتّاب كانواأوفياء لها وأثبتوا جدارتهم في كتابة هذه القصيدة وأكّدوا على أحقيتها في الأنتشاروأنطلاقها الى آفاق بعيدة وعالية . فصدرت مجاميع شعرية تحمل سمات هذه القصيدةالجديدة في أكثر من بلد عربي وكذلك مجاميع شعرية في أميركا والهند وافريقياواميركا اللاتينية وأوربا وصار لها روّاد وعشّاق يدافعون عنها ويتمسّكون بجماليتهاويحافظون على تطويرها .

سنتحدث تباعاً عن تجلّيات هذه اللغة حسبمايُنشر في مجموعة السرد التعبيري – مؤسسة تجديد الأدبيّة – الفرع العربي , ولتكنهذه المقالات ضياء يهتدي به كل مَنْ يريد التحليق بعيدا في سماوات السرديةالتعبيرية .

على الناقد انلا ينظر الى الصورة الشعرية داخل النسيج الشعري , وانما عليه أن ينظر الى ما خلف هذهالصورة وقراءتها بموضوعية وحرفية , وأن لا يُكثر منَ المصطلحات النقدية الجافة والتيحتما ستجعل المتلقي يدور داخل دائرة خاوية ويضيّع جماليات القصيدة ويجعل من مقالتهمغلقة جافّة .

أنّ القصيدة هيعبارة عن حلم عميق لا شعوري , يجب قراءة هذا الحلم بما يتناسب مع كمية الجمال المنبعثمن داخله , وتقديمه بصورة تكشف للمتلقي جميع مغاليقه , وتشير الى مواطن الجمال فيه, والإمساك بيد المتلقي وأخذه الى ضفاف هذا الحلم . لذا على الناقد ان يقوم بتفكيكوإعادة تركيب وقراءة الأفكار فيه حتى يصل الى معرفة الغايات التي جعلت من الشاعر يصرّحبمكنونات ذاته , والغوص في اعماق هذه الذات . ومتى ما تعاونت فيما بينها مكونات الذات( الهو / الأنا / الأنا الأعلى ) , تمكّن الفرد من أن يمارس نشاطاته الفعّالة والحيويةبطرقة مجدية في البيئة التي هو فيها , أنّ الغاية من هذه النشاطات هي من اجل ارضاءالحاجات واشباع الرغبات الاساسية , اما اذا اضطربت , حينا ستضطرب هذه الاجهزة الثلاثةللشخصية , واصبحت متذمرة وغير راضية عن نفسها وعن العالم الذي تعيش فيه . ان المتلقيالابداعي لا يقبل من الشاعر بأي شيء على انه شعر وجمال وابداع ما لم يحرّك فيه الذكرياتالبعيدة , وتستفزّ حاضره , مما يجعل المتلقي يقوم بتحليل وتقييم ما يقرأه بروية وقياسكمية الابداع فيه , وهذا ما لمسناه في قصيدة الشاعرة / منال هاني / .

يمكننا اعتبارأنّ هذه القصيدة تتكون من مقطعين نصّيين , يبدأ كلّ مقطع بـ مفردة / المضغ / , حاولتمن خلالهما أن تعرّف عن مكامن مكنوناتها , وتطرح فكرة القصيدة بتراكيب لفظية مختلفة, كل مقطع يتحدّث عن الـ / مضغ / ولكن بطريقة مختلفة , أوحت الينا ان ننظر الى أعماقهاعن طريق هذا الوصف , وكأننا ننظر اليه من زوايا متعددة , فلو نظرنا الى هذه التركيبفيما بينها , فأننا سنجدها عبارة عن قطعة فسيفسائية برّاقة , جميعها تعكس وتتجه الىنقطة واحدة وهي الـ / مضغ / وكان كل مقطع مرآة للمقطع الاخر , وهذا ما ندعوه باللغةالفسيفسائية .

وبالعودة الى قصيدةالشاعرة : منال هاني / مواءٌ يقضُّ مضجع الغياب / , من ارتباك الصوت نستشعر بوجود الذاتالشاعرة , مما يجعله صوتا متميّزا بالعذاب والخيبة والخسران والتشظّي , وحينها سنستيقنبحضورها القوي والمميّز , فربما هناك مفردة او عدة مفردات سقطت في بئر المتلقي العميقةتمكّنه من لملمت ما يستطيع لملمته وحسب ذائقته , فتثير فيه الكثير من الصور والمشاعروالاحاسيس , ودون ان تستنفذ طاقاتها او تخبو اشعاعاتها . انّ جوّ النسيج الشعري عندالشاعرة نجده مشحونا بزخم شعوري عنيف وذات قلقة تبحث عن الخلاص , فمثلا نجد بان الشاعرةقامت بتكرار المفردات التالية لأكثر من مرّة / المضغ = مرتان / الليل = ثلاث مرات/ الحضور = مرتان / الغياب = ثلاث مرات / الأرق = مرتان / الصدفة = مرتان / تافهة= مرتان / النصّ / مرتان / أنتَ = مرة واحدة / أنتِ = مرة واحدة / فكرة = ثلاث مرات/ السكينة = مرتان / الحَمَق = مرتان / , ليساعتباطا الشاعرة هنا استخدمت وكرّرت هذه المفردات , فربما لا شعوريا سقطت وتكررت داخلنسيجها الشعري لا شعوريا أو عن قصد , لشحن هذا النسيج بزخم شعوري عنيف , فلو دققناالنظر في هذه المفردات واستمعنا بهدوء الى ما ينبعث منها ويشعّ في نسيجها الشعري وخصوصامن مفردة الـ / مواء / لكشفت لنا القصيدة عن مكنوناتها الملغزّة وباحت لنا بكلّ بوحهادفعة واحدة . من خلال العنوان نجد هذا الزخم الشعوري متمثلا بلغة تجريدية مدهشة , فالعنوانهنا لا ينقل لنا معنى صريح وواضح , ولكنه ينقل لنا كمية هائلة من المشاعر والاحاسيس, انّ الـ / مواء / هو صوت القطة / الشاعرة , والذي يعبّر عن الحالة النفسية والمزاج, نتيجة ما تعانيه في واقعها , فربما هو يعبّر عن حالات من التذمر والحزن , ومن خلالنبرات ونغمات هذا الـ / مواء / نستطيع ان نعرف ماذا يعني وماذا وراءه من مغزى ومن دلالات, هل هو دليل عن الحزن او الفقد او الغربة والضياع , هل هو الشكوى مما تعاني من الاماو هو البحث عن العزلة والانطواء على الذات ..؟؟ .

أنّ الليل الطويلوالوحدة القاتلة , والشعور بالوحدة , هو الجوّ المخيّم على نسيج الشاعرة , فنجد هناالحاجة الى لفت الانتباه , والحاجة الملحة الى الذات الاخرى من اجل طرد هذا الملل والاحباط. ان الذات الشاعرة بدأت قصيدتها السردية التعبيرية بهذا المقطع النصّي / يمضغ الليلأرقي / وفي منتصف القصيدة نجد الشاعرة تقول / أمضغ أرق الليل / , هذا الأرق المزمنحاولت ان تقوم بتفتيته مرة هي ومرة استنجدت بالليل ان يفتته , انها تحاول أن تتخلّصمنه والوصول الى ضفاف السكينة والاطمئنان , لكن نجد العجز والخيبة والمرارة ترافقها, فهي الحاضرة دوما منتظرة بينما الذات الاخرى تمارس لعبة الغياب معها فتتركها وسطهذه الحيرة والانتظار اللامجدي / يمضغ الليل أرقي على تخوم الذهول وانا حاضرة في غيابكأستدل موطئ حرفي من دفلة انسام طيفك المغادر على لسان الصدفة كيف تغادر / . وتبدأ الذاتالشاعرة بعزف أشجى موسيقى تعبيرية تحاول من خلالها بثّ مواجعها وهزيمتها , من خلالهاتحاول ان تعبّر عن الجانب الشعوري العميق المتغلغل في روحها العاشقة , فمن خلال مفرداتهاتتهادى الينا نغمات موسيقاها شجية , هذه المفردات استطاعت ان تنقل لنا هذا الشعوريالداخلي لديها , نقلت لنا هذا الزخم الشعوري العنيف بصدق ووعي , مما جعلها تغزو اعماقالمتلقي وتستفزّه , لقد جاءت هذه المشاعر تحت تأثير حالة نفسية ونتيجة ظروف قاهرة خارجةعن ارادتها / أستفيت فيك سبعين عرافة فقالوا عاشق مجنون لا سلطان له سواك وانتِ بيندفتي حلمه تنامين , تواطئ الفجر مع ليال عشر وهرمت بلابله , فتعالت النخلة وأفزعت فكرةعلقتها على مناكب ديمة فوجدتها حشرت كل احزان الوجود بفم فكرتي , ماذا نفعل مع ديمة.. ؟؟ / . وتعود الشاعرة لنقرأ لها المقطع النصّي الثاني في هذه القصيدة / أمضغ أرقالليل وابصق الصبح اسرابا من أسئلة عرجاء تبحث عن جواب أعور فلا أمل بالسكينة ولا سكينةبمنطق تكور على قبول ذاتي الصنع واحترف الصعلكة في عروش الخيبة , جميع الارصفة مشغولة, فدعوت السطح للتسكع في مخيلة فكرة تافهة لا تلتزم بقوانين النسيان ولا قوانين الذكرىفبقيت تافهة تتقافز من نجم الى صدفة , كم هو قاتم هذا النصّ ابتلع كل ألوان ثرثرتيوحنّط بوحي في قمقم اليباب , صفّق بجناحي العمر ولمْ يطر , كم هو أحمق هذا النصّ ,ذكر كل شيء إلاّ أنت رغم أنك منعكس في مرايا تأويله وسابح في قنوت عزلته , كم أنا حمقاءانت عنوان النصّ .! / . لقد جاءت قصيدة الشاعرة / منال هاني / بأنظمة نصّية متعددةومتناسقة ومتناغمة فيما بينها , وكذلك بزخم شعوري عنيف وبعمق تجريدي وتعبيري وحّد مكوناتالقصيدة . تناوبت في هذه القصيدة السردية التعبيرية لغة التجريد واللغة التعبيرية والسردالمشحون بالزخم الشعوري , وبلغة قاموسية بألفاظ تعكس ما في روح الشاعرة وما في روحالقصيدة , فخلقت لنا بذلك صوراً حيّة برّاقة وببوح عميق .

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المقالات