قراءة في قصة قفص طيور للكاتب والناقد محسن الطوخي

419

قراءة في قصة قفص طيور

للكاتب، والناقد : محسن الطوخي

أقصوصة قفص طيور شطحة بين الواقع والخيال على ترانيم الخلق والإبداع.

فأوسعْ  به خيالا حين يُنشئ من بِرواز وسند يكسوه قماشٌ مخمليٌّ أخضرُ،  يعلوه غطاءٌ زجاجي… قفصَ طيور !.

وكم هي لبيبة اللمسة الإبداعية حين تتوسل السيميائية و تخلق طيورا ، طيورا ليست كمثيلاتها… بلا أجنحة ولا ريش، غيرأنها  تستوطن الفضاء للحظات وتقع أنى انشطر قلبها المشحون !.

والأجمل … هو لما يتكاثف كل من التأمل،  والتصور، والشوق في رحاب الباريدوليا (Paréidolie ) (1) فتصير تلكم الخلائق لها مناقير و هيئات متعددة مثل عصافير إن صغرت وعنْقوات حين يكون لها حجم ما فوق ذلك…

يشدنا العنوان، ونتوق للطيور وهي مقفوصة، لكن لا ننال منها إلا ما تموّج بين سديم خيال الكاتب حين كانت عدا: مجموعة من الشظايا المعدنية، متفاوتة الأحجام  – لقنابل – استقرت بأجسام عساكر..كان المتهور الأوفر حظا لما نال كبراها !،”العنقاء”.

من خلال حوار ينسج الكاتب أحداث اقصوصته، بعد استهلال قصير جدا يتوافق وتقنية التكثيف : ( يتصدر المجلس  والسيجارة في ركن فمه…)  يتلوه سرد  خارجي، بضمير الغائب ما يلبث أن يتحول في غفلة منا إلى سرد داخلي على لسان شخصية  داخلية مندمجة مع جوقة الشخوص الرئيسة في الحكاية؛  دون ان يحدث أي خلخلة في البناء أو يجعل القارئ يحس بالانعطاف  بأسلوب بسيط ، هضيم كما وجه بطل قصته (الضارب): ” كان يقصدني.. اتجهت صوبي عشر عيون.

يبتدئ الحبك يتسامى لرسم عتبة العقدة عند انتهاء اللعب بالورق، والشروع في الحديث عن النياشين كما تبتدئ تتوضح معالم الشخوص الرئيسة، عماد النص القصصي؛ ومن غير مجهود فكري – من قبلنا –  يُذكر نحدس إنهم ثلاثة، ثلاثة لا غير:

  • الوافد،
  • المتهور،
  • الضارب ،(tireur d’élite ).

ببراعة يعطي الكاتب مسافة معينة تُمَوْقِع كل واحد على حدة من هؤلاء الثلاثة من  النياشين.

فالوافد لها عنده مكانة في قلبه، وطمع كبير في أن يتحوّزها ويتزيّن بها ، في حين المتهور، الحاضر الغائب لا يهمه شيء منها، فجسارته حرقت كل طموحاته حتى حبه في الحياة سامح فيه عند  “معركة الشهيد ” أما الضارب فلم يكن يعيرها أي اهتمام وما فكر فيها، بل استعاض عنها بتلك الشذرات التي استخرجت من بين ثنايا جسده وهو جريح على سرير في مستشفى ما ..غالبا على مقربة من رحى المعارك. وبذل أن يُرصع بها مناكبه وصدره كما يُفعل بالنجمات والسيوف والنسور، جمعها رفقة ما تحصل عنده من مثيلاتها  المستخرجة من اصدقائه في برواز… بات ـ مع طول الملازمة والتأمل في الاشكال والأحجام ـ البروازُ قفصا والشذرات المعدنية طيورا.

ينسحب الكاتب من النص القصصي   من خلال خاتمة شبه تقريرية يطرح ضمنها رسائل بعضها ظاهرا وآخر ضمنيا واستزاد، إذ كان عليه ان يتوقف عند : ” ولن يبق حقيقيا إلا ما يحتويه قفص الطيور” غير أنه فضل ان يخرج الراوي وسط ديكور ليلي من سماء مرصعة…

من المرجح أن ما صيغ داخل الخاتمة هو الدافع الأول لكتابة هذه القصة، والمثير الرئيس بلا منازع لطرحها كفكرة لتأخذ حيزا أكبر بدل أن تظل محدودة وسط المجال العسكري مجاله هو ذاته حيث كان يزاول عمله…

قد صار يترسخ لدينا أن لا الشواهد ولا الدبلومات نظير كفاءة وطول كعب في مجال ما، وقد بتنا نألف هنا وهناك انتصارات العصامية على العظامية في كل المجالات… قياسا على هذا وعبر قفص طيور يحاول كاتبنا أن يمرر : بان ما كانت النياشين يوما عنوان البطولات والشهامة والمقدامية بلا تهور …وإنما النياشين هي خروجك من المعارك وأنت قابض على روحك بيد من حديد سالمة معافة وأنت معها و أن تنظر إلى الموشح بها والمعطل على حد سواء لا فرق بينهما ما دام دخلا المعركة وخرجا منها معا.

ذكرتني هذه القصيصة بالفلم العظيم صليب من حديد (croix de fer ) من بطولة (fùames Coburn و Maximilian Schell)،  وإخراج (Sam Peckinpah )  الذي يحكي قصة جندي برتبة شاويش، بطل جسور،  ومتهور لا يهاب الموت، حنون على رجاله وعلى اعدائه لحظة الضعف، غير آبه بالنياشين والأوسمة ؛ في المقابل هناك  قبطان  من عائلة ميسورة ( دم أزرق)، لكن جبان متسلط تواق لينال نيشانا  من عينة صليب حديد يعود به إلى أهله محليا به كسوته العسكرية ليظهر لهم أنه خاض الحرب ونال عن بطولاته وساما…

خلاصة:

 النص القصصي اتى عبارة عن مدماك واحد كل عناصره متداخلة حتى النهاية التي اتت كما اسفلت اقرب على التقريرية، ولكن واسع بما فيه الكفاية ليضمن انبساط السرد هينا بكل اريحية ، ولا  ضير في ذلك، فالقصة لا نسق نمطي( typique) لها، و لا تأخذ سمتا معينا يسلكه القصاصون… فالموضوع أحيانا هو من يرسم المنهج  وتموقع السارد من الحكي وكذا الخلفية الثقافية لها دور كبير في تحديد تجليات القصة وتمظهراتها.

قد أجاد الأستاذ محسن الطوخي عند التعبير على فكرته ، واختار بعناية فائقة الطريقة اللائقة لمخرها والعبارة الشائقة لكتابتها… هو ناقد بارع واليوم أجد يدا له أخرى في القصص.

 

  • الباريدوليا هي ظاهرة نفسية تجعل الانسان يتوهم رؤية او سماع أشياء غير موجود أصلا… مثلا كتصور فيل في غيمة أو نهر في شق على حائط…

 

 

نص القصة
يتصدر المجلس والسيجارة في ركن فمه، يكتسي وجهه الهضيم بعلامات الجد وهو يحدق في أوراق اللعب:
– الق ورقتك، لن ننتظرك حتى الفجر.
تتساقط أوراق اللعب، يفرقع بالكارت منتشيا: آس سبيد.
يلملم الأوراق ويدسها أمامه مكشرا عن أنيابه في مرح: أنتم أولاد طيبون.
يداعبه فؤاد ذو الشارب الزغبي: خسارة مواهبك تهدر في هذا التيه.
يصيح بصوت أجش: قل للغجر.
يتفجر الضحك من حناجر تتوق للملحة، يتابع فؤاد:
– لا يعرف قدرك سواي.
– ذلك أن الطيور على أشكالها تقع.
يلتقط الورق، فيتأهبون لمعاودة اللعب.
رمى فؤاد الورق من يده: مللنا اللعب، أرنا نياشينك.
توقف، تفرس في العيون: النياشين لا يحصل عليها إلا الحمقى أمثالك.
أضاف:
– شاهدتموها عشرات المرات.
– أنسيت أن بيننا وجها جديدا؟
كان يقصدني.. اتجهت صوبي عشر عيون.
– أعرف ماتقولونه عني في خلوتكم ياأولاد الأبالسة.
اعتدل وهو يوجه حديثه إلي.
– بم ينعتونني في إدارتكم الرديئة؟.
نظرت إليه مستفهما.
– ألا يقولون أن لدي أرباعا ثلاثة ” ضاربة”؟.
ضحكت قائلا: هم لا يعرفونك جيدا.
قال: صدقت. لو عرفوني لأدركوا أن الأربعة بأكملهم ” ضاربين”.
دوت عاصفة من الضحك ارتجت لها جدران الملجأ الميداني، ألقى بأوراق اللعب ونهض، فساد الصمت. غاب خلف ستار، ثم أقبل يحمل حقيبة. قال: بعدها ستغادرون.
عندما رفع الغطاء بدت مجموعة من الشظايا المعدنية متفاوتة الأحجام.
احتلت الحواف قطع دقيقة بحجم الحمصات، تلتها مجموعة ذات أحجام أكبر، أما كبراهن فاستوت في مركز المساحة المخملية الخضراء. شظية في حجم عصفور الكناريا، سوداء، مستدقة الأطراف، مكسوة بالنتوءات، تشبه حيوانا بحريا صغيرا. أشار أحدهم إلى الشظيات الحمصية قائلا: تلك هي العصافير.
رد فؤاد موضحا: العصافير هي الطيور الدقيقة الرقيقة التي استخرجت من جسد الضارب.قال ثالث: أما تلك الحدآت، فمن أجساد أخرى.قال الضارب: تعرفون القواعد.علق أحدهم: عليكم أن تختاروا واحدة.قال فؤاد: سيحظى ضيفنا بشرف الاختيار.اتجهت العيون إلي، قفزت الكلمات على لساني قبل أن أعقله: سأختار العنقاء. وأشرت إلى مركز الدائرة. انفجر الضارب مقهقها في حبور وهو يلكم صدري: أحسنت. عقب فؤاد قائلا: تلك القطعة تخص المتهور.ساد الصمت وبدأ الضارب يروي: توقف القصف للحظة، وساد الهدوء، قفز المتهور خارج حفرته ينفض الغبار عن وجهه. في نفس اللحظة صفرت دانة، رأيتها مقبلة، كما أعرف أن المتهور رآها. عشت سنوات يراودني حلم آثم، أن أرى الخوف في وجهه مرة، أن يشوب صوته تلك الرعشة التي تنبىء عن تصدع القلب.. انفجرت الدانة على مسافة قريبة.. ومرت العنقاء.صوب بصره إلي وهو يصور بيده كيف مرت الشظية من البطن، فخرجت من الظهر. خيم صمت ثقيل قبل أن يستطرد: كانت هوايته أن يتسلل من بيننا، يحمل هاتفه الميداني، ويقول: – هل تريدون شيئا من هناك ياأولاد؟ونعرف نحن ماهو ال( هناك) .. لم أكن لأفعل مايفعله المتهور، أذهب مختارا إلى الجانب الآخر عبر القناة وأسير فوق الأرض الملغومة بين تحصينات الصهاينة، أكمن حيث خطوط الاتصالات، أعري بأسناني الأسلاك الباردة، وأقبع بالساعات استرق السمع…ولما لا يجيب المتهور إلا الصمت يقول لنا: لديهم نساء فاتنات، سآتيكم بواحدة. ويبتلعه الظلام. يتلاشى وقع أقدامه. أما نحن، فنتناساه حتى يعود. أصبح مادار في تلك البقعة يسمى بمعركة الشهيد سعد، كأنما كانت هناك صخرة في مكان القلب منه. لم أكن لأفعل أبدا ماكان يفعله.-

—————–

كان آخر الضباط الصغار قد شد على يدى ومضى مرتقيا الدرجات الحجرية، قال الضارب وهو يزيح الستار: هذا ركني الخاص. بدت الجدران المقعرة مكسوة بأرفف عامرة بالكتب، أدار فتيل المصباح فاتسعت مساحة الضوء. دار حول نفسه: تستطيع أن تجلب مقعدا من الخارج.- لن أبقى طويلا، فقط دعني أرى نياشينك.- رأيتها لتوك.- أعني النياشين الحقيقية.انحرف جانب فمه بابتسامة ساخرة: النياشين الحقيقية لا يمنحها لك أحد، تحصل عليها بنفسك، تخوض حربا، فتحصل على واحدة. أشار إلى الشظيات.. تابع: فإذا خرجت حيا، لم يعد لشىء آخر قيمة. أمامك ياصديقي كل مالدي من تراث شخصي.وكأنما قرأ مايدور بذهني فأضاف:- جوهر المسألة هو حياتك، تفقدها أو تحتفظ بها لقاء أشياء لا تدخل في حساباتك، تتحول القضية العامة في الميدان إلى قضية غاية في الخصوصية، أن تظل حيا، فإذا علمت أن الله هناك ينظر، فسوف تمتلىء بالدهشة. ولن يبقى حقيقيا إلا مايحتويه قفص الطيور. أشار مرة اخرى إلى الشظيات الراقدة في صندوقها المخملي.كان الليل قد أوغل، قاومت رغبتي في البقاء، شددت على يده مودعا، عندما كنت أهم بارتقاء الدرجات الحجرية سمعته يقول: العنقاء.. إنها لي.تناولها من يدي وابتسامة طيبة تغمر وجهه. في الخارج كانت السماء مرصعة بالنجوم، بحثت طويلا عن النجم القطبي الذي سيقودني شمالا إلى الاستراحة التي خصصت لإقامتي.

محسن الطوخي

2 تعليقات
  1. avatar
    محسن الطوخي يقول

    بارك الله فيك اخي الجميل حدريوي، أسعدتني والله. لا أجمل من أن يرى الكاتب صدى عمله في إبداع فنان مثلك ذو ذائقة متميزة، ولغة راقية.
    أظنك على حق في رصدك للتقريرية التي وسمت نهاية القصة، ربما كان علي أدع مضمون التجربة كي يستنتجها القارىء من السياق. لا أخفي عليك أن واحدة من أكثر عيوب القص فداحة، هي أن يكون الكاتب قليل الثقة في قارئه، ولعله درس من الدروس التي تعلمتها من طول معاشرتي لهذا الفن.
    كل التحية، والتقدير لجهدك، ولإبداعك فقد أوفيت القصة حقها، وتناولتها بشكل موضوعي، وأبرزت التجربة الإنسانية المتضمنة بفهم عميق.
    لن أوفيك حقك من الشكر مهما اجتهدت في ذلك. فتقبل حبي، وامتناني.

    1. avatar
      حدريوي مصطفى (العبدي) يقول

      يسعدني…أن نكون على نفس الموجة… وتجمعنا الكلمة الطيبة …ولحمة الابداع والخلق … أتمنى أن أكون إلى حد ما توفقت وما كنت جانحا…تحيتي وفائق احترامي

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

آخر المواضيع