انخراط جلُّ النصوص الروائيّة المغربيّة المُدَشِّنة للألفيّة الثالثة في تناول موضوعة وسائل الإتصال الحديثة، روحَ العصر و مَيْسَمَه، وغَوْرها في تحليل ظواهِرها و بواطِنها بما تحرّكه نقراتها من سواكن الجسد، أمر لا ينبغي أن يُؤخذََ على أنّه الموضوع الرّئيس لرواية المرحلة كما ذهبت إلى ذلك ـ في حدود اطّلاعنا ـ جلُّ القراءات التي ابتهجت بهذه النصوص و عمِلت على إضاءتها وِِفق هذا المنظور.
فهذا التخصيص ـ إذا صحَّ التعبير ـ قد ينسجم مع مسالك علم النفس و علم الإجتماع، و لا يُمكن بأيِّ حالٍ من الأحوالِ أن يَكون مسلكاً للرّواية من حيث كثرةِ و تداخلِ مواضيعِ تناولها، و وُعورة سلِّ موضوعها الرّئيس من عجينتها.
وهو الأمر الذي لا يتأتّى دون العودة إلى الجُهود النظريّة في الرّواية و إسهاماتها في بلورة وعيٍ سياسيٍّ و تاريخيٍّ مفتقَد !
و عليهِ فإنّ أيَّ تصنيفٍ لموضوع الرّواية المغربيّة في بداية الألفيّة الثالثة بهكذا، انحراف عن فهمها، و نُكران مضاعَف لعمل المثقف و الأديب المغربيّ ـ كما لا يفعل السياسيّ ـ على وضع صورة بلاده في إطارها الحقيقيّ، و ردّ الإعتبار له و لمُقوّماته و تراثه…
كيف ذلك ؟
صحيح أنّ موضوع وسائل الإتصال الحديثة حاضر بقوّة في المتن الروائيّ المغربيّ لبداية هذه الألفيّة ، و لكن، كوسيلةٍ و دافعٍ و مُحفّزٍ على استنهاض هِمَم المُدن المغربيّة و إيصال صوتها إلى المسؤولين، و ردّ الإعتبار لها بمراجعة الصّورة المرسومة لها منذ المستعمِر و أذنابه. (مدن الأطلس الكبير، و الشّاوية، و عَبْدة، و دُكّالة، و سُوس، …).
هكذا يمكننا القول، وبدون تحفّظ ، أنّ المدينة هي مُحرّك النّصوص الروائيّة المغربيّة لبداية الألفيّة الثالثة.
و “قطف الجمر” من النّصوص الإبداعيّة و الفنّية التي اكتوت بجمر المدينة :
“يا مدينة الآمال المجهضة و مقبرة الأحلام الزرقاء، قومي من صمتك و ليلك، و انثري الأزهار على أجساد البؤس و التشرد… أيها الليل الحالك الخجل، قم و غط أبناء المدينة، و صل عليهم صلاة الفرح، إنهم مهووسون بالصمت.” ص.49.
“قطف الجمر”، بما فيها من كثافة الأمكنة و مُسمّياتها (سبعة في صفحة واحدة : ص.51)، الأبواب، الساحات، السّواقي الدّروب…، ليست دليلاً سيّاحيّاً كما يذهب بكثيرين الإعتقاد، و لكنّها ذاكرة و إشهاد على ما أصاب مدينة تارودانت بعد إذ كانت في الأعالي :
“إنها مدينة بليدة توالت عليها الحضارات و الممالك و لكنها ظلت صامتة كحجر.”
و استنكار لما طال معالِمها من هدْمٍ و طمْسٍ في “وطن لا يؤسس لشيءٍ غير انتخابات مزورة.” ص.134.
“قطف الجمر” مسار روايةٍ مغربيّةٍ جادّةٍ واعيةٍ بالمنعطفات التاريخيّة و السياسيّة التي وشمت المدينة و شمة عار.
فلا “قطف الجمر” بالرّواية الإباحيّةِ، و لا الدونجوانيّةِ، و لا الفيسبوكية .
و أيُّ تصنيفٍ لموضوع الرّواية هكذا، بالتعامل مع النصّ على المستوى السّطحي، يعتبر إسقاطاً عليها، و خطأًً جديداً في المنظور النقديّ ينضاف إلى ما صاحب الرّواية المغربيّة منذ نشأتها (الرّواية و السيرة الذاتيّة، الرّواية المكتوبة بالفرنسيّة، الأخلاقيّة في الرّواية،…).
قد صار يتأكّد إصداراً بعد إصدار أنْ لا شيءَ بقادرٍ على ردِّ الإعتبار للمدينة المغربيّة و إيصالها إلى العالميّة، غير الرواية .
بقلم : رشيد ابوالصبر
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.