قراءة في(القضبان لا تصنع سجناً)الحلقة الخامسة

111
قراءة في (القضبان لا تصنع سجناً)
الحلقة الخامسة
تونس / حبيبة محرزي


‎الشخصيات المساعدة
‎والمعرقلة وهي شخصيات نامية متطورة تساعد على الخير او الشٌرّ وفق مقومات الفضيلة والرذيلة والمنفعة والمضرّة، لكن الأمر يختلف وفق زاوية المصلحة ايضا فمن يراه الحاكم مساعدا يذود على مصالحه بالحديد والنار تجده العامّة عميلا وخائنا غدٌارا معرقلا مثل والد هدى الذي “يضطلع بدور حزبيّ بعثيٌ في المنطقة” ليرتب ضمن الشخصيات المعرقلة لحركات التحرر والنضال الفكري كواش وعميل للنظام.
والرواية وثقت عديد الشخصيات التي دفعت الثمن غاليا نتيجة مساعدة المفتّش عنه أو الملاحقين ، على الهروب أو الاختباء بل إن حسن أخا محمود والذي وقع في الأسر في الحرب ضد إيران يتدرج من الجندي الملقى في أتون المعارك دون اقتناع أو رضى ليصبح أكثر تسطيحا وسلبية لانه صار محميّا بالأسر ” والذي يرى فيه الاب mوالأسرة ك… لأنها في تضادّ مصلحيٌ إذ تتوزع هذه الشخوص ضمن مراكز متضادة من حيث الغاية من العرقلة ودلالتها الفعلية. ففئة تعرقل الحاكم في بث شروره وتسلطه كمحمود وباقر القبنجي شقيق “الشهيد عزالدين القبنجي “و “كاظم النعماني “شقيق الشٌيخ محمٌد رضا النٌعماني مؤلف “سنوات المحنة” ومن هم على نهجه سائرون أي أنهم أبطال قاوموا وكافحوا رغم ما يترصدهم من عقوبات تصل حد الإعدام في المقابل آخرون يعرقلون العامة ويتجسسون عليهم ويمنعون الخير ويخدمون الشر ويتفننون في إرساء سواري له حديدية نارية .
المؤلٌف لم يكتف بشخوص تعايشت مع الأذى أو كانت سببا فيه بل إنه جعلها في تناصٌ حادٌ مع رموز للشٌرّ العميق والذين يظلون عبرة لمن يعتبر وليكون للرواية بعد حضاريّ ولو بالقياس إذ يقول محمود في التّكهّن بنهاية الطاغية:( قال السيد باقر القبنجي …لا يختلف كثيرا عن غيره. فقد انتهت قصة فرعون بالماء ونمرود ببعوضة وابرهة بالحجارة … واتاتورك بالنّمل الاحمر وهتلر بالانتحار وماذلك على الله بعزيز). هي التراكمات المصيرية والتي ضرّجت الحقب الزمانية بالظلم والغطرسة والتي ستمهد لنهاية مماثلة بهؤلاء الذين طغوا في الأرض وتجبٌروا ولم يكونوا عبرة “لمن يعتبر” بعض الشخصيات الفاعلة الفعليّة حاضرة من خلال أفعالها ونتائج ممارساتها (لا يقوى على الاستقامة في خطواته إثر التّعذيب الّذي تلقّاه من الرٌائد حذيفة (عامر) )والذي في تدرج هرميٌ سلطويٌ يكون كامثاله المكلٌفين بأعمال قذرة، حلقة رابطة بين الحاكم الاعلى والشرطيٌين المنفٌذين الذين يظلان من الشخصيات المسطحة المنبطحة التي لا تتطور ولا تتغير مهمتها ابدا تنفّذ أوامر وتقوم بأفعال دوريّة دون إدراك والأدهى والأمرّ أنّهم يتجزدون من كلٌ القيم الإنسانية ليتقاضوا أجرا ، لذا فلا يمكن ترتيبهم الا في اسفل الدرك الظٌلميٌ العنفيٌ.
والبطل “محمود” العليم بالباطن والظاهر وان تتبع المشاهدات ونقل الأفعال والحركات والاقوال ولو “الحوار الباطني” في مشاهد مسرحية تقدم للمتلقي على “الركح” كي يصنفها في الخانة الصحيحة كاشفا بذلك بواطن هذه الشخصيات وانتماءاتها الفكريّة والعقائديّة والسّياسيّة. غير أن الكاتب قد عمد إلى إقحام شخصيٌات أخرى تخمينا بالاسترجاع وانطلاقا من النهايات معتمدا المخاتلة انطلاقا ممّا سبق النّهاية التي تصبح الرٌكيزة ومنها ينهض المخيال بتعقب الأحداث بما سبق منها وما لحق . فيقول “لم يستطع الأب أن يتغلب على عواطفه…. رمى بضاعته التي أعدّها إلى محمود في الشارع. فلم يعد يحتمل فاسلم الروح إلى بارئها…) محمود الغارق في الظلمات سطر الأحداث ونقل اطوارها انطلاقا من النتيجة العدمية المأساوية موت “الاب” كمدا وحزنا والتي سيكون انطلاق الرواية من على قبره في لوحة تعبيرية مرة بطعم الفقد والأسى المعلقم.
أسى من يحمل إحساسا ببعض بعض من مسؤولية تراكمية ،بدأت بالتمرد والمعارضة وانتهت بفقد عزيز قريب سيسرع إلى مثواه الأخير باكيا معتذرا ، ساعة هبت عليه نسمات “الحرية” ولم تمنعه “القضبان التي لم تصنع سجنا”

_أسماء الشخوص وعلاقتها بالانتماء إلى قطبين متصلرعين في الرواية:
من المألوف أن الروائيٌين أو القاصين يسمون الشخوص تسميات توحي بتصنيف ما وفق المتعارف عليه من حيث القيم الثابتة أي اسما يطابق المسمّى. فيسمّى طيبا من هو طيب وسيسند إليه السارد كل ماله بالطيبة صلة، وسعيدا من هو في رغد وسعادة وجبّار من له من قوّة الجبابرة…
وقد تكون المطابقة عكسية فيسمى الطالح صالحا والشقي سعيدا والمنافق صادقا والفاشل ناجحا والقبيحة جميلة والعاهرة شريفة.
غير أن الأمر فاق المعقول في “القضبان لا تصنع سجنا “باستثناء البطل والذي يذكرنا ب”الفتى” في “أيام طه حسين” فقد ركن إلى الغائب المفرد “المحمود” ليكون ساردا فوقيّا يواكب الأحداث ويصف الاوجاع والآلام والمعاناة من شق شفيف أراده فاصلا بين محمود و”جبّار” هو هروب أو تنسيب لاحمال دكت فترة شبابه ومعه أهله فنفض اسمه ولقبه بعيدا في ركن ما على الغلاف. واختيار “محمود” وان كان من الحمد فهو بصيغة اسم المفعول اي من وقع عليه الفعل وليس فاعلا في تلك الفترة وقد تحيل التسمية على الرضا بالمقدر وإثبات الانتماء القدري. للمؤلف “جبار” الذي “أخرج نفسه عن ذاكرته” ليكون “محمود ” الذي سيعرّي ما عائاه مع “المحمودين” من ظلم وقهر فردي وجماعي ليصبح الحمد صفة فيه قارة تعكس التحدي والصبر .ومحمود بطل مثل أحد قطبي الصراع مع القطب السّلطويّ..و”المحمود” المحبوب المسالم في الرواية يقابله “صدّام” صيغة مبالغة على وزن “فعٌال” من صدم يصدم الشّيء ضربه ودفعه .هذا شرح الفعل المجرد الصحيح السالم فما بالك بفعّال وما تكدٌسه من دلالات المبالغة في العنف والتسلّط والصّدم والصٌدام حتى يصير صفة فيه قارة أيضا والغريب أنه اسم علم حقيقيّ لم يختره المؤلف والذي قد يكون عاف الوزن “فعٌال” في” جبٌار ” فنسف كلٌ نقطة التقاء أو اتٌفاق مع من اسمه على وزن “فعّال” فاستلف “محمود ” ونفض عنه”جبٌار ” في المساحة الروائية.
فإذا “محمود” ضدّ “صّدّام.”
أما بقية الشّخوص فهي حقا المحيّرة المربكة حتى أنّ الكاتب يؤكٌد أنّ أبطال روايته بتلك الاسماء فعلا بدءا ب”كرامة” والتي قضت فداء للكرامة أو “هدى” والتي مثلت الهدي بعينه رغم المؤثرات البيئية العائلية العمودية فهي ابنة من يتقرب للسلطة ويشي ويورط ويساهم في الترحيل والتقتيل. وهو أحد اذرعة الاخطبوط الخلفيّة الأخيرة المسطٌحة التابعة الخادمة لتتواصل التقاطعات بين الشخصيات واسمائها والتي يقر الكاتب بأنها شخصيات واقعية ثابتة حوله، معها تقابل و.تحدّث وسجن ووثّق حصص التّعذيب والتّرهيب والتّجويع أو أنّه تولّى النقل على لسان شخوص آخرين كانوا حاضرين شهودا أو ضحايا اجرام الحكام في حق من يختلف عنهم أو يخالفهم الرأي .
إذن شخصيات “القضبان لا تصنع سجنا” هي ادوات حية ناطقة نابضة كأداة تبلغ للمتلقي رؤية الكاتب وآراءه في نقل صادق بشهود وحجج دامغة وهل هناك أبلغ وأصدق من سرد الاسماء والألقاب والأزمنة
والأمكنة المتجذرة في الواقع والتي اصطفاها السارد لتخلد في أثر ادبي راق كي لا تذروها رياح النسيان؟
‎_فنيا الشخوص هي الطاقة الدّافعة الّتي تمضي بالأحداث نحو التصعيد الهلاميّ جرٌاء التّوتّر وأحيانا نتيجة التّعاون والانفراج لأنّها في الاصل وعن طريقها وثٌق الراوي أحداثا ووقائع كادت تتلاشى وتغيب في غياهب الماضي الأليم بانتهاء الأذى أو رحيل الفاعل.
‎شخوص مثلت الجدلية القائمة منذ الأزل بين الخير والشر بين الحب والكره بين الحياة والعدم .وان كان الراوي قد استمات في نسبة الأفعال والأحداث إلى أصحابها كشخصيّات رئيسيّة ذات فاعليّة تقريريّة مصيريّة او ثانوية مسطّحة تؤدّي الدّور نفسه دون تغيير أو تطوير .والبطل “محمود” وبكل صدقية حياديّة
فإنه خير من جسّم الصراع القطبيٌ الأكثر حدة مع الآخرين .حيث أصبح هو المحور الذي تتحرك حوله الشخوص وهو الناقل للمرئيّ والمسموع والمحكيّ وهو همزة الوصل التي أخرجت فظاعات مرسّمة في غياهب السجون وظلماتها إلى النور لعل ابن آدم يعتبر منها ولا يكون “صدّاميٌا ” منجبٌرا .
‎وفي النهاية فالرواية أحيت من طوتهم اللٌحود وذكٌرت بمن كادت الذاكرة المرهقة تنساهم.
حبيبة المحرزي
‎تونس
‎يتبع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع