عملاق المسرح الجزائري الراحل عبد القادر علولة ظاهرة مسرحية متفردة قد لن يكررها التاريخ

488
عملاق المسرح الجزائري الراحل عبد القادر علولة ، ظاهرة مسرحية متفردة قد لن يكررها التاريخ
بوخلاط نادية


شكل المسرحي الجزائري الراحل عبد القادر علولة لوحده ظاهرة مسرحية فريدة من نوعها ليس في الجزائر فحسب بل في العالم العربي إن لم نقل في العالم اجمع و هذا ما اجمع عليه المختصون في المجال ، حيث أن موهبة علولة تفتقت في سن مبكرة جدا و يصقل موهبته من خلال امتلاكه لرؤيا مسرحية عميقة و لعل هذا هو سر من أسرار نجاحه و تألقه ليس ككاتب مسرحيات فقط بل كمخرج برؤيا إخراجية متفردة يعرف قيمة الخشبة و يتقن فن إدارة الممثلين ، يهتم بأدق التفاصيل و يعطي لكل حركة على الخشبة مدلولها الحسي و الجمالي ليقدمها للمتلقي ، لطالما اعتبر الراحل عبد القادر علولة الجمهور شريكا له في العرض و في نجاح العمل المسرحي و باروميتر يقيس من خلاله مدى وصول رسائله التي كان بعضها مشفرا نظرا لاعتماده على الرمزية و مزجها مع الخطاب المباشر في جل أعماله التي قدمها على خشبة مسرح وهران الجهوي .

عبد القادر علولة الراصد و المستمع الجيد

و استطاع علولة الذي اعتبر نفسه دوما ” ابن الشعب ” البسيط البروز في مسرحية “حمام ربي ” التي عرضت سنة 1975 بخشبة مسرح وهران الذي أضحى يحمل اسمه بعد اغتياله وكذا مسرحية “الاجواد ” التي كتبها في سنة 1985، و لعل ما ميز علولة عن غيره من المسرحيين الجزائريين هو كونه كان مستمعا جيدا و جليس مقاهي تسرد فيها هموم الطبقة الكادحة في ذلك الوقت ، جزائر نهاية ستينيات و بداية سبعينيات القرن الماضي حيث كان المشهد و الرؤيا السياسية بالبلاد تختلف على ما هي عليه حاليا ، كانت الإيديولوجية الاشتراكية و النمط السياسي “البولشيفي” السوفياتي قد وجد له موقعا في الجزائر التي انتهجته نظاما تسير به شؤون البلاد ، و رغم كل تلك الأحلام الوردية التي حاول من تبنى هذا النظام السياسي في تلك الفترة يمدح شعاراته التي تساوي بين أفراد المجتمع و عملت على تصوير الرأسمالية كنظام شيطاني لا هم له سوى سحق الطبقة الكادحة ، و بعبارة أوضح إن هذا النظام الاشتراكي لم يكن يخلو من العيوب و السقطات التي جنينا آثارها كوطن و امة جزائرية بعدها بسنوات .
كان علولة ككل الجزائريين مؤمنا بقدرة طبقة “البروليتاريا ” على التغيير ، و أنها هي من يعهد إليها مهام النهوض الاقتصادي للبلاد و رغم مشاكلها و الظلم الواقع عليها إلا أنها هي وحدها محرك البلاد رغم مشاكلها و سقطاتها ، حيث أن هذا النظام أو لنقل النمط السياسي لم يكن يخلو من العيوب و المساوء.
و عودة إلى علولة فاءنه كان يجس نبض تلك الطبقة و أحاديثها المقتضبة بالمقهى المتواجد قبالة مسرح وهران الجهوي في زمن كان البوليس السياسي يراقب و ينتشر رجاله في كل مكان ، هناك كان العمال يتحلقون حول طاولة للعب “النرد” و يطلقون العنان لأحاديثهم التي كانت في مجملها تسرد معاناتهم داخل الشركات الوطنية مع مسؤوليهم المباشرين و عن التكتل النقابي الوحيد الذي كان يدافع عن مصالحهم و المعروف ب ” الاتحاد الوطني للعمال الجزائريين” ، كانت هذه النقابة قوية في وقت مضى و لعقود و لم تكن تدخر جهدا للدفاع عن مصالح العمال لأنهم عماد ازدهار الوطن ، و رغم تلك الحماية الا ان بعض مسؤولي الشركات خاصة رؤساء المصالح لا يتوانون في معاملة العمال كأجراء عندهم في غفلة من المدراء ، لم تكن طاولة من طاولات ذلك المقهى المعروف تحت اسم “كافي تياتر” تخلو من أحاديث حول تلك المشاكل و النمط المعيشي الصعب الذي كان يأرق و يقظ مضاجع جحافل الكادحين في الجزائر في تلك الفترة .
علولة المسرحي البسيط و المواطن العادي كان مستمعا جيدا و يتشارك في الحديث معهم و في زاوية من الزوايا يدون تلك الملاحظات ليخلق منها نصا مسرحيا متكاملا .
أتت بعدها مسرحية”الخبزة” عالجت مشكلة المجاعة، وتبدأ باستخدام تقنية الراوي الذي يقدم شخصية “السي علي” الكاتب العمومي شارف على الستين من العمر ، عرف بطيبته و ينحدر من حي شعبي معروف بسعة قلبه و تقديره لظروف زباءنه الذين يأتون اليه ليحررون شكاويهم للمسؤولين أو للمحكمة ، شكلت هذه الشخصية المحورية التي لخصت هموم طبقة البسطاء من الشعب لب هذا العمل المسرحي الذي تفرد فيه علولة و بشكل كبير و استطاع ان يسرد فيه جانب من المعاناة على لسان حال شخصية “سي علي”
شكلت هذه الثلاثية المسرحية لعبد القادر علولة طريقة مغايرة في معالجة المواضيع الشائكة باستخدام اللغة العامية الجزائرية التي يفهمها الجميع ، ربما و كما يؤكد على ذلك النقاد المختصين في الميدان المسرحي ان عامل لغة الخطاب المباشر و البسيط هي سر نجاح علولة كمؤلف و مخرج مسرحي ، إذ لم تخلو مسرحياته من الجمع بين الجد و الهزل بطابع يتسامى و يترفع عن الابتذال و السخافة و هو ما جعل أعماله تبقى و لسنوات تحتفظ بها الذاكرة الجماعية الجزائرية جيلا بعد جيل.

لمسة “بريخت” و الحرص على توظيف التراث الشعبي في الأعمال المسرحية لعلولة

و عودة إلى مسرحية “الأجواد” التي عالج فيها صفة الكرم عند الطبقة العاملة في المجتمع ،فاستطاع بواسطة شخصية “القوال” أو ما يعرف ب”الراوي” إضافة إلى تحاوره مع تيارات حديثة كمسرح “بريخت” والمسرح الفقير ،واعتماده على جسد الممثل باعتباره أهم مادة تشخيصية بتمرير رسالة عبر عنها بكل الوسائل التشخيصية من كلمات وشخصيات وصور وأفعال وحركات بل حتى اللباس و الديكور الذي كان ينتقيه علولة بعناية و دراسة و تمحيص ليكون مدلولا قويا على الرسالة التي تحملها أعماله المسرحية .
من جانب آخر و في سياق متصل نجح علولة في توظيف التراث الشعبي في المسرح الجزائري وإبرازه من خلال التجارب المسرحية لأبرز رواده وفنانيه من خلال تأثرهم بالمذاهب ،والنظريات المسرحية الغربية والتي تجسدت في أعماله وتجاربه ككاتب ومخرج مسرحي ، و هذا مكنه من إثراء المسرح الجزائري بأفكاره وبإبداعاته المتميزة والتي استخدم فيها أسلوب التجريب وتوظيفه في مسرحياته متأثرا في ذلك بالمسرح البريختي واعتماده على تقنيات تحطيم الإيهام لدى المشاهد وتكسير الجدار الرابع من خلال استخدام شكل “الحلقة” الذي يندمج فيه الممثلون مع الجمهور مخالفا بذلك مسرح العلبة الإيطالية والذي أطلق عليه مصطلح “العلبة المسرحية” التي يشارك فيها الجمهور مع الممثلين ومشاركين في أحداث المسرحية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، كما تجسد ذلك في مسرحية “الأجواد” كنموذج جديد أبدعه الكاتب والمخرج المسرحي علولة و أقحمه في المسرح الجزائري الحديث .
و الجدير بالتنويه و الإشارة لا تزال أعمال علولة من ابرز الإحداثيات التي يعتمد عليه طلبة قسم الفنون الدرامية بالجامعات الجزائرية ، و على حد قول احد الطلبة الذي يدرس “فنون درامية” بجامعة وهران حيث صرح قائلا :”من لم يقرأ لعلولة و يتعمق في أعماله المسرحية بالتحليل و النقاش أيضا فاءنه من المستحيل أن يكون لنفسه رؤية مسرحية جيدة و لا أن يكون مسرحيا جيدا في المستقبل، انه شخصية ملهمة و لامسنا ذلك خلال الايام المسرحية لعلولة التي كانت تقام في وهران حيث جسد مسرحيين شباب و طلبة شخصيات ونالوا ادوارا رئيسية في مسرحيات ألفها علولة و بالخصوص ثلاثيته الشهيرة “حمام ربي”، “الأجواد” و “الخبزة” .
و للإشارة فاءن عبد القادر علولة من مواليد 1939 بندرومة بولاية تلمسان أقصى الغرب الجزائري ، و هو كاتب مسرحي تعرض للاغتيال على يد جماعة مسلحة في 10 مارس 1994 بوهران ، ثم نقل إلى العاصمة الفرنسية باريس للعلاج لكن شاء القدر أن يفارق الحياة ي في 14 من الشهر نفسه، أي بعد 4 أيام على اغتياله متأثرًا بالجروح البليغة التي أصيب بها .

 

بقلم / بوخلاط نادية / الجزائر

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المقالات