رحلةُ العودة من العالم السفليّ
كريم عبدالله
الظلام سفينة تستعجلُ ركوبها الأجساد المنهكةالقابعة وراء الصمت تستحثّ خطاها عواصف سرّية دوّاماتها تستند على تخوم الذكرياتالخاطفة ما أقسى فقدانها منذ البداية , مضحكة أخرى تمارس خرابها المكشوف بقسوة لاتخلو من الإستهزاء والمكر والدهاء , هي حكاية مستمرة الحبكة منمنمة ككرنفال نعيشهافي كتاب مجهول ..!!! .
حينما تناثرت من حولي وأبتعدت ذرات الأوكسجين, شعرت بأنّ سقف الغرفة التي كنت محجوراً فيها مع حاسوبي وكتبي وأوراقي قد بدأيقتربُ منّي بخبث وأصرار حتى جثم فوق صدري , لم أستطع أن أصرخ وأستغيث , لأنهمجميعاً كانوا ( يتعاركون ) مع ضيف خبيث حطّ رحاله في أجسادهم . لمْ أدرِ مالذي حدثبعد أن أغمضت عينيّ وشعرت بأنّني للتو قد خرجت من سجن كان يضيق عليّ بالتدريج ,وأحسست بحرّيتي تعود لي مرّة أخرى , فها هي تسير معي وأنا فوق عربة نقل المرضىداخل ممرّات المستشفى . فجأة , أنفتحَ باب هاااااائل ووجدتني أدخل من خلاله ومعيالكثير من أمثالي الذين عرفوا الحقيقة وأستسلموا لأقدارهم المكتوبة , وأُغلقوراءنا الباب بأحكام وأنتهى كلّ شيء , في الخارج بقي الكثير ينتظرون أن يفتح البابمرّة أخرى ليدخلوا , وبقي أهلي وأصدقائي ينتظرون عبثاً عودتي , كنت أسمع اصواتهموهم ينادون عليّ : كريم .. عدْ لنا نحن ننتظرك .. مازال لدينا الكثير . وعندماأستياسوا من عودتي , عادوا جميعاً يحملون أحزانهم وذكرياتهم الجميلة معي , أمرأةواحدة قرّرت أن تبقى وتنتظرني وتنتظر عودتي , كنت أسمعها تقول : كريم أرجوك لاتتركني وحيدة في هذا الفضاء الموبوء , بينما صديقي الشاعر عدنان الساعدي بقي هوالآخر ينتظر , وكان ينادي عليّ : أخوي كريم سابقى هنا لنْ أبرح مكاني , لابدّ أنتعود , بينما صديقي وجد الروح كان ينفث الأمل من خلال كلماته التي بقيت ترنّ فياذني , وسعد ياسين يوسف صديقي الآخر كان ينادي عليّ من بعيد : ايّها السومريّ عدّلنا فمازال للشعر معك بقيّة كثيرة , أما صديقي علاء ابو مريم كنت أشعر بحزنهالعميق وهو ينادي عليّ : أيّها المعلّم كلنا ننتظر عودتك فلا تتأخّر علينا أيّهاالحبيب .
أنّه الظلام الدامس والعتمة الثقيلة وجدتهمابعدما أغلق وراءنا الباب , كنت أسمع صوتاً يقول : 58 سنة , عندما فتحت عيني وسطهذا الظلام كانت هناك عبارة مضيئة مكتوب فيها ( الباب الخامس ) , كنت خائفا ممايجري حولي , فجأة حطّت على كتفي يد حانية برّدت هذا الخوف , فاذا هي يد أمي ( نورة) , يااااااااالهي ..!!! , كم أشتقت الى رؤيتها والى رائحة ( شيلتها ) السوداءالتي تفوح دائما برائحة الطيبة والمسك و( السِعْدْ ) , كان وجهها حزينا هذه المرّة, لم تقلْ سوى : مالذي جاء بك مبكراً الى هنا ..؟؟!! . فنظرت الى يميني فإذا بوجهيأبي ( كاطع ) يقطع عنّي لحظة الذهول والقلق , لمْ ينبس بايّ كلمة , ولمْ يفعل سوىتعليق الكثير من الأثقال فوق ظهري , حتى أحسست بأنّني سأسقط على الأرض منها ,أمسكاني وسارا بي في موكب حزين وسط هذه الجموع وهذا الظلام ومن هول ثقلها , فيالطريق كنت أستشعر بوخزات كثيرة في جسدي وبشيء يكمّم فمي , وشيئاً يضغط على صدريبقوّة , ( آني أخاف من جكّةْ الأبرة ) , ( ثلاثون عاماً وأنت تجكّْ الناس بالأبروتخاف منها , ذقْ الأن ما كنت تخشاه ) .
عند نهاية الطريق فُتح باب آخر مكتوب عليه (الباب الرابع ) , حينها تخلّى عنّي والديّ وتركاني مع الآخرين ندخل من هذا الباب ,خفّت قليلاً الحمولة التي كنت أحملها , وشعرت بشيءٍ من الحيوية تعود إليّ , كانهناك نسيم قد مرق في رئتي أنعش جسدي المنهك , حالما دخلت أستقبلتني جدّتي ( حدهن )صاحبة العيون الفيروزية والعمامة السوداء الكبيرة , أحتظنتني بشعف وقالت لي : هاولكْ كريّم , جدّهْ شجابك هنا , ليش مستعجل .. بعدك حلو ومدوكن كما كنت ..؟؟!! ,وكان يقف بقربها جدّي عبدالله الذي لمْ أرهُ في حياتي أبداً , لمْ أرهُ إلاّ منخلال صورتهِ الشمسيّة التي قام والدي بتكبيرها لدى رسّام محترف في الباب الشرقيّوعلّقناها في بيوتنا نحن أحفاده تبرّكاً بهِ , فهو ( الزاير عبدالله ) الذي زارالأمام الرضا في خرسان ضمن حملة على راجلة أستمرت زمناً طويلاً , يقول عنه والديانّ المرأة التي تعسّر في ولادتها كانوايستعيون بعمامته البيضاء ويضعوها فوق بطنها فتولد بسرعة . كانا قد أمسكاني من ذراعيّوسارا بي وسط الظلام , كنت أسمع حفيف أجنحة رقيقة تحلّق حولي واصواتاً لا أكادأميّزها تقول : بسرعة أرجوكم , العلاج الروسيّ في الوريد , حقن هيبارين تحت الجلدلئلا يتجلّط الدم , فيال سفتراكسون 1000 ملغم صباحاً ومساءً , فيال باراسيتامول ,جهّزوا أكثر من قنينة أوكسجين , ضعوا قنينتان عند رأسه وثالثة عند الحمام لئلايختنق ونفقده . عند نهاية الطريق فُتح باب كبير آخر مكتوب عليه ( الباب الثالث ) ,وتركتني جدّتي ( حدّهن ) وجدّي عبدالله , لا أدري أين سأذهب وسط هذا الظلام ومَنْسيكون دليلي فيه , فجأة ظهر رجل وقور لا أعرفه أقترب منّي وأمسك بي مطمئناًومهدّاً من روعي وقال لي : أنا جدّك ( عليّ ) لا تخفْ يابني , لمْ يبقَ أمامكالكثير , ولكن لماذا يا بني تستعجل الذهاب , ألا تدري بأنّ الذاهب في هذا الطريقلنْ يعود , فقلت له : أ لهذا حزننا سرمديّ..؟؟!! . فقال لي : نحن المخلّدون فيالعالم السفليّ . رفع عنّي بعضاً من الأثقال التي كانت قد كسرت ظهري , فأحسستبحيويّة الشباب وعنوانه تعود إلى جسدي وتدفّق مستمر من نسيم عليل يُنعشُ كلّ جسدي. أوصلني جدّي ( عليّ ) إلى ( الباب الثاني ) وقال لي : أدخلْ يابني من هذا البابستكون سعيداً . أُغلق ورائي الباب وكنت أسير مع الجميع وسط الظلام و فأنبرى لي منبين الجميع رجل وقورٌ لا أعرفه وأقترب منّي قائلاً : مرحباً بك يا بنّي , لا تخفْانا جدّك ( داوود ) اخبروني بمقدمك فحضرت لأهوّن عليك بعض آلآمك , وورفع بعضاً مناثقالي ورماها جانباً وقال لي : أنت متعب جداً باثقالك هذه , ستشعر بالتحسّنالقليل الآن , وفعلاَ وجدت نفسي أفتح عينيّ من جديد , كانت غرفة أنيقة بيضاءةالجدران وسرير مريح وتلفاز يبثّ الموسيقى و وبجانبي ولدي ( أنور ) ينظر إليّ بحزنوقلق , شعر ببعض الطمأنية وهو يراني أفتح عيوني بعد ثلاثة ايام من الأغماء , وقاللي : أبي , هل أنت بخير ..؟؟ , فأومأت له بأنني مازلت حيّاً . اغمضت عينيَّ منجديد وذهبت مع جدّي ( داوود ) وسط الظلام , ليتركني عند ( الباب الأول ) , وقد عدتأكثر شباباً وحيوية وسعادة وأنا ألتقي برجل وقور آخر لا أعرفهُ , حالما رآني أبتسمفي وجهي وقال لي : مرحباً بك يا بني , أنا جدّك ( سلمان ) , تعال معي لتجتاز هذاالباب وتستعد للمصير الذي ينتظرك . رفع عن كاهلي كلّ الأحمال التي كنت أحملها ,كان ولدي ( انور ) يعصر البرتقال ويسقيني به مستبشراً , وكان يُطعمني كالطفلويُجبرني على تناول الطعام الذي فقدت شهيته وطعمه ورائحته , وكان يأتيني صوتها منبعيد حزينا ضعيفاً غارقاً بالدموع والتوسّل والدعاء : كريم , الله يعينك , كنشجاعاً فأنا أنتظر عودتك , لا تتأخّر عليَّ , فانت الوحيد الذي أحبّ وأريد , كريملا اله الاّ الله , فاقول مع نفسي : محمد رسول الله . أوقفوني طويلاً أنتظر عند (الباب الأول ) , فلا يجوز المرور من خلاله دون دليل أو ضامن , كنت وكأنّني أشربالأوكسجين شرباً , والتهم الطعام بشراهةٍ , وكانت تدخل جسدي كميات كبيرة منالأدوية , بقيت وحدي أنتظر عبثاً مَنْ ياخذ بيدي ويخلّصني من هذا الأنتظار , كنت أريدالخلاص بسرعة لما عانيته في طريق رحلتي الطويلة هذه , إلى أن جاءني شخص لا أعرفه ,أقترب منّي وهزّني بعنف من كتفي قائلا لي : مَنْ الذي جاء بك إلى هنا , يا لكَمِنْ أحمق يستعجل اللاعودة ..!! . أعاد تعليق جميع الأحمال التي تخلّصت منها أثناءالطريق , ودفعني بعنف قائلاً : عدْ لمْ يعد لك من مكان هاهنا . وإذا بي خارجالمكان , وأشعة الشمس اللاهبة تشوي الوجوه , لا أدري إلاّ والسيّارة تقف أمام باببيتنا الذي لمْ أتوقع العودة إليه مرّة أخرى , كان أحفادي يرقصون حول السيّارةويحملون البالونات الملوّنة و( يطشّون الواهلية فوق السيّارة ) , كنت أشبه بالعريس الذي زُفَّ إلى عروسهِ , لمْ يُسمحلي أن أترجّل من السيّارة , وخشيت أن أهلي مازالوا يخشون منّي كوني مصدر عدوى لهم, لكن أخيراً فُتح الباب وسُمحَ لي بالدخول , كان ينتظرني خروف قامت أبنتي ( أيمان ) بشرائه وذبحهِ تحتَقدمّي , وكان أيضاً زوج من الأوّزات أبنتي ( زينب ) هي الأخرى أشترتهما فداءً لي ,بينما أبنتي ( نورا ) قد هيّأت لي مكاناً هادئاً ( وطشّت ) أكثر من كيلو ( واهلية) فوق رأسي وفوق الفراش , بينما بقيّة بناتي ( زينة ودينا وليلى ) قد عادت لهنّ صحتهنّوكنّ بأستقبالي مع زوج أبنتي ( ايمان ) كان ( ضياء ) قد اخذ دور القيادة مع زوجتيأثناء فترة غيابي , لكنني أفتقدت أبنتي الصغيرة ( زهراء ) و وتداركت زوجتي الموقفقائلة : ( زهراء ) هي الآن تتصل بك على الواتس آب , لقد بقيت تبكي عليك مادمت أنتترقد في المستشفى , كنت أرى صورتها في الموبايل ودموعها تجري , فلوّحت لها علامةالنصر فابتسمت وسط فرحة أطفالها , فقالت لي زوجتي بحسرة وألم وحزن عميق : ( ليشهيجي سوّيت بنفسك كريم ..؟؟؟!!! ) , فقلت لها : ( موبيدي , أحبها والعباس أبو فاضل, أحبها هواي , شلون بيّ ) , فضحكت غامزة قائلة : تالله ستبقى تحبّها حتى تكونمجنوناً حقيقاً وأنا أزورك في مستشفى الشماعية .