ذاكرة القهوة بنكهة رمضان(2)

320

“ما ضل فل عند أبو الناجي يا معلمتي”
…….
كم زين الفل شعري في طفولتي!!! كنت أجلس مساء بجانب أختي الكبرى، أرقب الساعة المصلوبة على الحائط بصبر حتى تعتق الوقت ويعلن عقربها العنيد حلول الساعة الثامنة، عندها أنفث الهواء الذي احتبسته رئتاي بقوة، أمسك أختي من ذراعها، أهزها بقوة فلا تستجيب؛ فهي تشاهد التلفاز، أهزها مرة أخرى بقوة أكبر حتى تلتفت إلي غير راضية عما أفعل:”شو في يا سماح مالك؟!” “بدك تمشطيني الصبح سبلة وتحطيلي الفل؟”، “تخافيش رح أمشطك وأحطلك الفل يلا نامي ومتحكيش”
أغمضت عيني واستغرقت في النوم، وانتظرت الصباح بفارغ الصبر. شعرت الليل وكأنه استسلم في ثوان للفجر، فتحت عيني، ركلت الغطاء بقوة، مشيت خطوات إلى أختي التي ماتزال نائمة، دنوت بفمي من أذنها وهمست: “ريتا ما بدك تمشطيني سبلة وتحطيلي الفل؟ قومي صارت الدنيا الصبح”، تلتفت إلي، تفرك عينيها، تنظر إلي باستغراب: “يا فتاح يا عليم، صرت صاحية؟! لسا الوقت بكير ارجعي نامي”.
ولكن كيف أنام والشوق يغمرني؟!، بقيت أتململ فوق رأسها وأهمهم بأصوات مزعجة؛ حتى استسلمت ونهضت من فراشها.
قمت بكل طقوسي الصباحية، حتى وصلت إلى فقرة تسريح الشعر، حملت المشط والفل وتوجهت إلى أختي التي أشارت علي بالجلوس. أمسكت المشط وأخذت تسرح شعري بدفء مشاعرها الجياشة.
كم أحببتك يا ريتا الحنونة!!، حتى هذه اللحظة كلما رأيتها شعرت بدفء قلبها واستعرضت شريط الذاكرة بتفاصيله، وأخبرتها بفضلها علي وأني ما زلت أحبها كثيرا.
كانت تفرق شعري من الوسط، تقسمه قسمين، وتصنع من كل قسم “سبلة” تزينها بالفل الذي اشتريته من محل أبو الناجي. محل أبو الناجي كان يتربع في أعلى الشارع المحاذي لبيتنا من الجهة الجنوبية الغربية المطل على حارة الخرارزة، كان محله مصدر بهجة بالنسبة لي، فهو يحتوي كل ما هو جميل بإمكانه أن يبهج قلوب الفتيات.
وبعد أن تنهي ريتا تسريح شعري، أهرع إلى المرآة، أنظر فيها معجبة بنفسي، أبتسم ابتسامة الواثقة، أحمل حقيبتي على ظهري، أركض نحو أمي، أسالها: حلوة أنا؟، تبتسم، تقبلني، ترد: “بتجنني انت”.
بعدها نتسابق أنا وأخوتي إلى والدي الذي ينتظرنا على باب الاستوديو؛ كي نحصل على المصروف. عندما يحين دوري، كنت أنظر في عيني والدي أنتظر منه الثناء على مظهري، فما كان منه إلا أن يقول: “سماح الحلوة تعالي” يضع المصروف في يدي ويهمس: “بتصيري شاطرة اليوم في المدرسة، ماشي”
أهز رأسي علامة على الرضا والقبول، ثم أنطلق إلى المدرسة.
بفرح أمضيت نهاري المدرسي في ذلك اليوم، إلى أن نظرت إلي في نهاية الدوام معلمتي ساجدة، تأملتني بعمق ثم قالت: “شو هالحلو يا سماح!!! من وين هالفل كله؟”. أجبتها: من عند أبو الناجي. عندها طلبت مني أن أشتري لها بعضا منه؛ لتضعه لابنة أخيها.
لا أخفي عليكم أني استأت كثيرا وتمنيت أن لا أجد عند أبو الناجي فلا، وفعلا كان الفل قد نفذ، فرحت في قرارة نفسي؛ فلم أكن أريد لأي كان أن يشاركني مظهري.
أيام وذبل الفل على شعري واهترأ، ولكن من أين أجدد الفل؟! الفل قد نفد من محل أبو الناجي.
كان علي أن أتمنى الفل للجميع؛ حتى أظل فلة معطاءة، عابقة بالحب بالحياة.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

آخر المواضيع