ثلاث في ثلاث

178

جلسة سمر مسائية ضمت ثلاث صديقات مزمنات من خريجات الجامعات وكلهن موظفات في مؤسسات الدولة ودوائرها الرسمية بعد انفراج للأزمة الكبرى ( الحصار الظالم لشعبنا الأبي ) ومع ( أكواب الشاي والمعجنات ) كان بينهن حديث لا نستطيع أن نسميه طيباً قط , لكن هذا الحديث جرى وأصبح ممكناً بفضل الانفراج الاقتصادي الجزئي , أما قبله فقد كانت النفوس قد ابتدعت لها أقفاصاً خاصة من الخجل لا واهية ولا شفافة تحول دون أن تتسرب أسرارها الى خارج صدورها . فللخجل أيضا قوته الخاصة اذ يعتصم المرء بأستاره ويتشبث بها فلا يفضح ما هو فيه حتى – لأقرب أقربائه وأعزّ خلانه – الا ربما بعد أن ينحسر مَدّه وتزول ظلاله فيصبح قصصاً تروى .
وفي معرض حديث وذكر للبيض وتقلب أسعاره قالت صغراهن : كانت ابنتي قد فارقت الرضاعة منذ وقت قصير فهي في عمر بدأت فيه تتناول بعض الطعام من أنصاف السوائل , ومن حسن الحظ كانت لدينا دجاجة تبيض وضعناها في قفص صغير خلف المنزل اذ لولا وجودها ما استطعت أن أكفل لابنتي ما تحتاجه من البيض . غير أن الدجاجة مثلنا لم تكن تحظى من الطعام قط بما يكفيها , ذلك إن الاسرة كانت تلتهم كل ما يوضع أمامها غير اني كنت اسرب للدجاجة كل ما يسقط إجباراً من نفايات الخضر عند تصنيعها وطبخها . لكن الدجاجة بدأت تفضل أن تضيف الى طعامها بيضها لتشبع نفسها بنفسها . لذا اتخذتُ لنفسي مرصداً من شباك غرفة يطل على خلف المنزل فكنت أقضي وقتي في مرصدي كيما اسابق الدجاجة فما ان تبدأ بالنقنقة الخاصة بوضع البيض حتى أسرع بالخروج اليها فما تكاد تضع البيضة الا وجدت يدي تسرع بأخذها منها قبل أن تنقرها .
فأردفت الثانية : وعلى ذكر البيض أيضا فقد حدث معي مثل ذلك حيث اني ورثت عن امي فيما ورثت بضع دجاجات وضعتها كما كانت سائبة في فسحة كبيرة خلف المنزل . ماتت أغلب دجاجات امي غير اثنتين كانتا تتناوبان التبييض فتسدان حاجتي من البيض إذ لم يكن مرتبي يسمح لي بذلك . وكذلك لم تكن فضلات طعامي تكفيهما فأخذتا تأكلان بيضهما , وذات يوم بلغت بي عصبيتي لما تفعلانه من أكل البيض شأواً بعيداً حتى اني أخذت اراقبهما بالإصغاء , وفيما أنا اراقب إحداهما في انتظار بيضتى … أسرعت فما وصلت اليها الا وقد كسرتها بمنقارها وبدأت تأكلها فما وجدت نفسي الا وأنا امسك الدجاجة بكلتي يدي وأهزها مؤدبة إيّاها كي لا تفعل ذلك مرة اخرى ويظهر اني نسيت في غمرة غضبي أنها مخلوق رقيق وحين انحسر غضبي كانت الدجاجة تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة فأسرعت بها الى الجيران كي تُذبح لتخليصها من عذابها أولا وكيما تكون طعاماً لهم ثانياً ففعلوا شاكرين الله لأنهم حظوا بالدجاجة المشاكسة .
وانبرت كبراهن تقول : لم يكن عندي دجاج وكان راتبي كله يكفي فقط لشراء طبقة واحدة من البيض شهريا لي ولاسرة من خمسة أفواه ومع إن لنا جميعاً رواتب فنحن موظفون من خريجي الجامعة غير إن رواتبنا كلها كانت تكفي فقط للمواصلات . الا إننا جميعاً كنا نقوم بأعمال إضافية منزلية للنساء وخارجية للذكور كيما نستطيع أن نأكل لنعيش بانتظار الفرج . وكان ضمن أعمالي الإضافية ( المحاضرات ) في المدرسة التي أعمل فيها . كنت فرحة بها , غير إن أقصى غاية ما كنت أتمناه أن يكون أجر محاضرة واحدة يكفي لشراء بيضة واحدة اسلك بها حَنجرتي ولم يحصل ذلك أبداً إذ تصاعد سعر البيضة الواحدة الى مائتين وخمسين ديناراً أما أقصى ما تصاعد اليه سعر المحاضرة الواحدة فهو الى ثمانين دينار كركرت صغرى الصديقات قائلة : انظرن معي (ثلاث في ثلاث ) (ثلاث نساء في ثلاث بيضات ) تلك أيام لا أعادها الله علينا وعلى بلدنا ذي الخير الوفير والناس الطيبين ولا بارك الله في حرب ولا مخمصة .

سمية العبيدي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع