توهّجُ المشهد الشعري في نصوص تقليلية للشاعرة :رحمة عنّاب

913

توهّجُ المشهد الشعري في نصوص تقليلية للشاعرة :رحمة عنّاب – فلسطين .

بقلم : كريم عبدالله – العراق 1/10/2019

أنّ القصيدة التقليلية تتطلب صناعة مشهدشعريّ قصير متحرك , وهذا يتطلب إستحضار وتداخل الأزمنة والأمكنة وشحنها بالمزيد منالمشاعر المتأججة , يحتاج الى وعيّ متّقد يسبح في خيال خصب منتج ذكيّ يعرف كيفيصيغ المقطع الشعري واين يضع المفردات ويصبغها بضربات رشيقة تبهر وتستفزّ وتنشتلالمتلقي من الواقع وتأخذه الى واقع آخر يجد فيه المتعة النفسية ويتلمظ اللذّةالأبداعية . هذا المقطع سيكون موجزا مركّزا مرمّزاً مكثّفا يمتلك من المقدرة مايحرّك به وعي المتلقي وينفذ في العمق الأنساني , فكلما تحرّرت مخيلة الذات الشاعرةعن قيود الزمن وابتعدت عن السطحية والمباشرة وجنحت الى ما هو غير مألوف ومعتاد ,امتلك  النسيج الشعري إضاءات وتوهّجاتودلالات تجعله ينفتح على تأويلات متعددة  .انَ السياحة بين ومضات الشاعرة الفلسطينية : رحمة عنّاب انّما هي سياحة او نزهةبين جمالية اللغة وصدق المشاعر وجموح الخيال , وهي ايضا ترنيمات إنثوية يدثّرهاصراع نفسيّ يرقد على منابع من العواطف والحرمان والجمال النقيّ .

سنختاربعضا من هذه النصوص التقليلية ونحاول قراءتها , ونستشفُ ما تحمله من ذات مشتعلةبالعواطف وصوت شعري إنثوي رقيق يستطيع صناعة المقطع الشعري بصور تتوالد لا ينتابهاالترهّل أو الخمول وينفذ عميقا في النفس ويجعل المتلقي يقف عندها منبهراً  .

أولاً :

يا لمواقيتكَ .. !!

تُضاجعُ عزلتي

فـ تنتشي الساعاتُ العاقرة ..

تبدأ الشاعرة هنا مستخدمة حرف ( يا )للنداء للتعجبي ,في محاولة لأثارة الذات الأخرى والطلب في تلبية هذا النداء بسببمعاناتها وما يعتريها وإضطراب النفس وشعورها بالحاجة الى إشباع هذا الفراغ الروحوسدّ منافذ الوحشة , وبعدها تأتي مفردة ( المواقيت ) وهو المنادى المتعجبمنه , وهنا سنستشفُ بأنّ  هناك مواقيتزمانية واخرى مواقيت مكانية تحاول ان تعيد الذات الاخرى الى هذه المواقيتالزمنكانية وتشحذ ذاكرته بهذا الكمّ الهائل من الذكريات التي تطمح اليها الذاتالشاعرة والتي تكتب بوعيّ تام وتحت سلطة العقل , فكأنّها لاعب شطرنج يعرف كيفيحرّك أدواته واين يضعها , اي أن اختيار المفردة اختيار مدروس وليس عشوائياً . ثميأتي المقطع الآخر / تضاجعُ عزلتي / في محاولة للتورية والتغريب مستخدمةأنسنة الأشياء عن طريق لغة هامسة تمتلك روحاً نقيّة معذّبة تتدفق مشاعرها هادئةتفيض متوهّجة عذوبة وحناناً , فلقد استطاعت الذات الشاعرة أن تؤنسن عزلتها التيأنزلت عليها الهموم والأحزان وجعلت من فراشها مكاناً موحشاً تتكاثر فيه الأشواك ,وكأنّ لا شيء ينادمها الاّ هذا القلق الوارف والمخيّم على سريرها البارد , وهذاالحزن الأبكم الذي كان ومازال وسيبقى يرافقها ويطرد النوم من لياليها الطويلة . ثميأتي المقطع الأخير / فـ تنتشي الساعاتُ العاقرة / وكأنّ مضاجعة العزلة كاننتيجتها هذه النشوة في لحظة الجدب , انّها محاولة البحث عن السكينة والأطمئنان فيزمن يفتقد الى النماء والحياة والحبّ والوفاء , وإشباع اللحظات والتخلّص من ثقلالزمن وسطوة المكان . انّ الذات الشاعرة تتحدث عن الآخر والذي قد يكون / الوطن/ الرجل / الأمل / الهدف السامي / أو الذات الشاعرة نفسها , لقد حمل هذا النصّمن سمات الأيروسية الشيء الكثير وحاولت الذات الشاعرة أن تقي نفسها بهذه الرمزيةالمحببة ومارستها بحذر شديد فكان أن تورّدت المفردات فأنهمر كلّ هذا العجب العجيب.

ثانياً :

حيثكَ اذهب
اخلع نعلالخوف
و أبحرباستقامة كسفينة عصية
لا تثنيهامجاهيل العذاب .

بهذا المقطع النصّي المتحرك تبدأ الشاعرة مقطوعتها الثانية / حيكَاذهب / في محاولة لإثارة مشاعر المتلقي وأن تُلهب الوجدان في لغة يغلب عليهاطابع التصوّف والحكمة والصفاء الروحي والعشق الألهي والتعلّق والتماهي مع المحبوب ,وهنا أيضا نجد انّ الذات الشاعرة واعية لما تريد قوله وتكتب تحت سلطة العقل , انهاتدرك ما تريد لهذا فهي تطرد الخوف من أعماقها وتتخلّى عنه وعن هواجسه وقلقه منخلال هذا المقطع النصّي المتحرّك أيضاً / أخلعُ نعلَ الخوف / من خلال تناصقرآني جميل وحالة من التطهّر الروحي والخلاص من منغّصات هذا الواقع المأزوم . وفيمقطع نصّي متحرك آخر نجد الأرادة الصلبة والأصرار على الوصول الى المعشوق رغمالمصاعب وتلاطم أمواج الواقع / و أبحر باستقامة كسفينة عصية / في محاولة الهروبوالأرتقاء والأطمئنان . وفي المقطع النصّي الأخير وهو متحرّك ايضاً تحاول الذاتالشاعرة أن تدخل مرحلة التطهّر والخلاص والسعي الحثيث للبحث عن السكينة والوصولالى حالة الصفاء والتلذّذ باللقاء / لا تثنيها مجاهيل العذاب / . انّ لغة الشاعرةهنا نجدها مشحونة بالعذوبة والرهافة وعامرة بالتلميح والتقشف والأرتقاء .

ثالثاً :

صوتي ذرّته الريح يرتد صداه على ركح ناي ليل حزين .

اننا هنا أمام شعر ليس عاديا يقتصر على التكثيف اللغوي والعذوبة فقطأنما هو عبارة عن ضربات سريعة متتالية تنفذ عميقا في النفس , فنحن هنا نرى فكرةمتجلّية عبر هذا الزخم الشعوري وفي مقطع نصّي خالي من الحشو والزوائد اللفظية ,مما جعله متماسك بلا زيادة أو نقصان . ففي هذا المقطع نجد الصورة الحسّيّة للشعريةالشعرية قد تجسّدت على شكل نمط سمعي تجلّى من خلال استخدام / صوتي / الريح /صداه / ناي / فهذه المفردات تنهض بمهمة التعبير عن الأجواء المحتشدة داخلالنصّ وتجسّد معالمه وملامحه بحيث تجعل المتلقي يعيش داخل هذه الأجواء ويتفاعلمعها , فالشاعر الحقيقي هو الذي يقبض على اللحظة الشعرية ويطوّع اللغة من أجل أنيدغدغ وجدان المتلقي ويثير دهشته , وبهذا نستطيع ان نستمع بخشوع الى الموسيقىالداخلية من خلال صورتها الشعرية ومفرداتها التي نقلت الينا هذا التأثير والإيحاءوفتحت لنا أبواباً للتأمل والتأويل , وفي نفس الوقت نقلت الينا إنفعالات الذاتالشاعرة في لحظة معينة وخاطبت من خلال ذلك الأنسان الموجود في داخلنا .

رابعاً :

أكتبكَ نصاً محموم الحنين ..

إنّ ايّ نصّ شعري لابدّ أن ينتج عن إنفعال وتدفق شعوري عنيف كي يستطيعإثارة المتلقي , ويجب أن يكون هذا النصّ عبارة عمّا يشبه الحلم , وتستطيع الذاتالشاعرة أن تستنبط وتستوعب هذه المشاعر والعواطف وتعيد صياغتها نتيجة التأملالعميق في الذات وتقوم على ربط كلّ هذا بنصّ يعبّر بوضوح عن الحلة النفسيّةالداخلية للذات الشاعرة , وهنا نجد انّ هذه الذات الشاعرة قد قامت بتحويل هذهالمشاعر المحمومة الى تدفق لغوي يحمل من الموسيقى وصورة فنيّة زاهيّة ساعدت فيإبراز المعنى الذي سعت اليه , وجسّدت لنا في نفس الوقت المعاني النفسيّة والعاطفيةوالتجسيديّة معبّرة عن تجربة واقعية أو ذهنيّة .

خاسماً :

الصباحات الناعمة لا توقظها الا طراوة كركراتاصواتنا السخيّة تغسل ستائر حزن الانتظار الباسل تعاقرنا حجّة افراح يُثاقلها أملامخمليّ العفاف….

هنا تتجلّى السرديّة التعبيريّة بأوضح صورها من خلال هذا البناءالجمليّ المتواصل والرصين , حيت تعظيم طاقات اللغة والأنزياحات اللغوية العظيمةوالخيال الدكتاتوري الجامح والزخم الشعوري العنيف , فالسرد التعبيري هنا لا يعنيالسرد الحكائي القصصي انما هو السرد الممانع للسرد متجلّياً من خلال الانزياح فياللغة عن واقعيتها وإلباسها لباس الخيال واللاواقعية , والرمزية العميقة واللغةالعذبة المتدفقة في نصذ نثري ( الكتابة ألأفقية بطريقة الفقرات المتواصلة بدونفراغات او تشطير أو ترك نقاط متعددة بين الفقرات النصّية أي ان الكتابة تكونبطريقة الكتلة الواحدة المتوهّجة ) , فهنا نجد الذات الشاعرة قد حلّقت عالياوإبتعدت عن الجفاف في اللغة وأخذت معها المتلقي الى هذه السماوات البعيدة يسبح فيعالم رطب نديّ من الخيال , وفي نفس الوقت حافظت على مستوى الإيحاء الرمزي وخلقتألفة ما بين النصّ والمتلقي , وكذلك حققت النثروشعرية أي الشعر الكامل في النثرالكامل وهذا ما يجعل النصّ السردي التعبيري يختلف اختلافا كبيرا عن قصيدة النثر (والتي يجب أن تسمّى النصّ الحرّ ) والتي يطغى فيها الشعر على السرد . انّ الكتابةبالسرد التعبيري يحقق التجلّي الواضح للشعر في النثر وكذلك يحقق الغايات الكتابيةوالجمالية مما يجعله الأقرب الى المتلقي .

سادساً:

ضميركَالغائب
لا يشبه أناقة لغتي.

هنا نجد الحضور اليقيني للذات الشاعرة وكأنّها تقول ( أنا أفكرفأنا موجود ) , فهي تدرك يقينيا وجودها الفكري في محاولة لأثبات الذات الواعيةوبأنّ وجودها حقيقيّ لا يدانيه أي ّ شكّ , فهي تحاول إضفاء صفة النقص والقصور (الغائب ) على الذات الأخرى وحضورها المتمثّل من خلال الأفكار والسلوكياتوطريقة تفكيرها التي تعبّر عن شخصيتها ( أناقة لغتي ) , فهي من المراحلالمتقدمة التي يعيشها ألأنسان حينما يمتلك لغة أنيقة ( الشِعر ) يستطيع منخلالها ترجمة مشاعره وأحاسيسه وبثّها للمتلقي ليستمتع بها ويعيش أجواءها ويتفاعلمعها .
بقلم : كريم عبدالله بغداد : العراق

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

آخر المقالات