تشي، المنارة اللاتينية

377
تشي، المنارة اللاتينية :
خالد بوفريوا
(طالب جامعي و كاتب مقالات في مجموعة من الوسائط الإعلامية)

 

يقال إن الثورة ليست بندقية ثائر فحسب بل هي معول الفلاح ومشرط الطبيب وقلم الكاتب وريشة الشاعر.
هكذا استوعبت مخيلة “تشي” الثورة على أرض قارة وقعت في تناقض حكومات رجعية وثورات طوباوية، وهكذ سطر القدر حياته بدقة جد متناهية. حياة ذات خلفية ثلاثية : أولها الولادة والنشأة في الوطن الأم “الأرجنتين”، وثانيها احتضان البندقية في كوبا ثم آخرها مسيرة ثائر في غواتيمالا .

خرج من نفق التنظير البسيط البعيد عن الإحترافية للثورة وحرب العصابات لكنه بالمقابل دخل النفق بمعية “كاستروا” وآخرين … نفق التبصر والوعي الثوري والتنظير الصائب لثورة التنظير على طريقة الكبار الذين سبقوه، ثم الممارسة والفعل على أرضية (السيرمايسترا) التي انبعثت منها رائحة الثورة الكوبية. ولعل أوراق ذكريات عن حرب الثورة الكوبية، التي خطها قلم “تشي” بمداد أحمر ميال للسواد، شاهدة على ما قلنا، ثم دون أن يغير المداد كتب كذلك كتيب صدر سنة 1960 عنوانه (حرب العصابات)، حيث ظهر تشي ،على نحو فريد، فيلسوفا للثورة اكثر منه معلم عمل. وهو يعتبر أولا وقبل كل شيء بمثابة تحدٍ لمنظرين آخرين للثورة، فمفاهيمه الرئيسية ثلاث :

• القوات الشعبية تستطيع دحر الجيوش ذات بعد تنظيمي.
• البؤر الثورية تستطيع الإمتداد لخلق ثورة شاملة.
• الثورة لابد أن تنتصر في الريف.

إن محاولة تحليل وتفكيك السنوات الست التي قضاها تشي في كوبا هي في الحقيقة تاريخ الثورة الكوبية نفسها، عاشها الطبيب الثائر بكل لحظاتها، عاشها المتعاطف مع البشرية البائسة بكل لقطاتها مما جعل الأطفال يرتلون داخل القاعات الدراسية :” سوف نصبح مثل تشي”، لكن صدى هذه الثورة ومنظرها الأول اجتاز حدود كوبا والأمريكيتين إلى العالم أجمع، وقد دون التاريخ في مقدمة صفحاته أن انسانا يحمل بندقية تفوح منها رائحة الإنسانية قد مر من هنا، إلى درجة أن لسان “سارتر “نطق بأن تشي أكثر الرجال كمالا في عصره. قلت بندقية تنبعث منها رائحة الإنسانية،ولم أبالغ في ذلك، لأن صدى خطواته مازالت تسمعها الآذان الافريقية والأسيوية.

لقد خط قلم تشي استراتيجية السياسة النقدية لكوبا عندما قضى مدة زمنية ينظر لها بعين الرضا في البنك المركزي حيث أشار إلى أن الرأسمالية لطخت شرف العامل عندما حولته من شخص يزهو بعمله إلى شخص يرى ضالته في ما يربحه من المال لقاء إنتاجه ،وحولته إلى جشع يسخر من ذاته حيث أصبح يعمل من أجل المادة لا من اجل العمل نفسه. إن تغيير موقع العامل من عمله وبالتالي مرابحه كفيل بأن يحول الإقتصاد والمجتمع والإنسان نحو الإشتراكية الحقة، وقد عبر عن هذا بوضوح تام في أحد خطاباته : لقد أزيلت الغشاوة عن أعيننا وتفتحت أمامنا الآن آفاق جديدة ونستطيع أن نرى ما كنا عاجزين عن رؤيته بالأمس في ظل ظروف من العبودية الإستعمارية وهو أن الحضارة الغربية تخفي تحت وجهها البراق مسرحا مليئا بالضباع والذئاب، هكذا نزع تشي الغطاء وكشف المستور، وهذا هو الإسم الوحيد الذي ينطبق على سفاكي الدماء الذين يقتاتون على الشعوب البائسة و المستضعفة.

حيثما يمكن أن يفاجئنا الموت فأهلا به، بعد أن تكون صرختنا القتالية قد وصلت الآذان الصاغية، وبعد أن تكون يد أخرى قد امتدت لتحمل السلاح بعدنا، وبعد أن يكون آخرين من الرجال يرافقون موكب حضارات الشهداء بزخات مزغردة من الرشاشات مصحوبة بصرخات القتال الجديدة وأهازيج النصر، بهذه الروح وهكذا ايمان ذهب تشي إلى بوليفيا ليقاتل فيها وفيها يموت.

حقا لا يروي الموتى حكايات ولكن يصنعون الأساطير، كان تشي أعظم رجال عصره واكثرهم ذكاء وتنظيرا ورديكالية وإنسانية.. وهذا هو الجميل الذي تركه للتقدمين عامة وللماركسيين خاصة. قديس كرس حياته وموته من أجل الإنسان والإنسانية.تذكروا معي جزءً من خطاب تشي في مؤتمر التجارة والتنمية للأمم المتحدة في اذار مارس 1964 :

“إذا كانت مجموع الدول المتخلفة تتنافس في ما بينها بلاجدوى من أجل فتات مائدة الجبابرة، متيحة بذلك الفرصة لشق صفوفها المتفوقة عدديا، فإن العالم سيبقى كما هو..” تبصروا وحللوا هذا الخطاب لأنه يحمل في طياته الشيء الكثير.

صحيح أن تشي مات من أجل الفقير، لكنه مات من أجل المستقبل ايضا.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع