بعض البلسم يداوي..ولا يشفي

378
بعض البلسم يداوي.. ولا يشفي
إبراهيم يوسف – لبنان
في التعقيب على “دموع الصناديد”
للصديقة الكريمة
شهربان معدي من الجليل

 

حينما تعجزُ قدرتنا عن مساعدةِ الآخرينْ
ليتجاوزوا محنتَهم..؟
فمن العيب والحرام أن نحملَ عليهم
ونهدرَ ما بقيَ من كرامتِهم
فلا يجوزُ “للقويّ”.. مهما كانتِ الدواعي
أن يشهِّرَ بمعاناةِ وخيبة المهزومينْ
لا سيّما عندما لا يكونُ القويُّ من المتضرّرينْ
من يدري..؟ ربما لو عشنا ظروفَهم
لكُنّا من عدادِ هؤلاء الضحايا المُعَانِيْنْ
هذا ما تعلمتُه من الدَّرسِ الأخير
في صفِّ الصحبة الرَّصينة المُقَدَّرة
وشهامة المترفعين.. المحترمين
C:\Users\ibrah\Desktop\thumbnail_IMG_4530.jpg
بِعْ أقراط أختي الصغيرة
وأرسل إليّ نقوداً يا أبي
لأشتري محبرة
فحياتي عبودية وانتظار
أعِدْ إليَّ طفولتي يا أبي
وضحكاتي القديمة
على شجرة الكرز وصندلي المعلق
في عريشة العنب
لأعطيك دموعي وحبيبتي وأشعاري
محمد الماغوط
في زمن المساواة “والوتس آپ، والسوشي”، وعطر تاهيتي والمثليّة وعريِ النساء، وفي عصر “البرغر” ومُكَيِّفات الهواء..؟ لا زال صاحب عربة “الكاز” يجرها بغلٌ عجوز، يطلق منفاخ بوقه وهو يجوب أحياء الحارة، فلا يجد لنفسه قلة من الزبائن. لكنه لم يقطع الأمل بعد.. ولا يصدِّق مع شهادتِه على العصر..؟ أنّ الدنيا تغيَّرت وتحولت حضارة الكاز إلى طائرات نفاثة تجاوزت في سرعتها الصوت. فلا المشاة ولا الراكبون على دوابهم بعد اليوم سيبلغون جنة الفردوس.
هكذا؛ لم يسلِّمْ أبو جعفر أن “بابور الكاز”، انقرض وتقاعد من مسؤولية الطبخ وانتهت صلاحيته من زمان، حينما أوكل أمره إلى الغاز والكهرباء “والميكروويڤ”.. وطاقة الشمس. لكن؛ ما زال يراوده الأمل والحنين إلى الماضي، فلم يتوقف عن التجول بعد، وعن إطلاق بوقه معلنا عن قدومه كل صباح، دون أن أتوقف بدوري عن الإحساس بالخيبة والحسرة على انقضاء الرجاء من الكاز والعودة إلى الوراء، بينما الزمن كالطائرات النفاثة، لا يتراجع أبداً ولا يعود إلى الخلف.
والزّمن أيضا يكاد يتجاوز واقع المحمول والحاسوب، “والفاهيتا” وغزل البنات.. وتوليد الجراثيم وعلم الحياة، وكل ما تمخض عنه الفكر البشري الخلاق. هذا الإله الإنساني القادر على هيأة الله ومثاله! لا ندري متى يتحول نشاطه إلى آفاق جديدة ولا نعرف أين ومتى وكيف؟ وهل سيصل المخلص المنتظر ويعفينا من مسؤولية التفكير؟ أم يأتي يوم على أطراف الزمن الآتي من بعيد، ويمكن معه أن نستعيد فيه موتانا إلى الحياة..؟ أم تتواصل متاهة الزمن المقبل والتقدير المستحيل؟
في عيادة العيون تبسمتْ لي الممرضة الشابة، وأنا أترك للطبيب بطاقة معايدة لمناسبة رأس السنة، فأقرأ حيرة وتردُّداً في عينيها الناعستين، وأبدي لها أسفي حينما لم أرسل البطاقة بالوتس آب، لأنني لا زلت لا أقتني الهاتف المحمول.
أما طشاري رواية التِّيه والشتات والشعور الإنساني العميق. للكاتبة العراقية إنعام كجة جي، وفيها يتمزق شمل العائلات بعد الغزو الأميركي للعراق. وحينما يعصف الحنين بقلبِ جدَّةٍ لاجئة في كندا، لكي تزور قبر زوجها في بغداد..؟ يبتكر لها حفيدها “اسكندر” مقبرة إلكترونية، ويخصص لكل فرد من موتى السلالة المبعثرة في قارات الأرض قبرًا خاصًا به.
ثم يخصص موقعا للمقبرة على شبكة الأنترنت، ويعلِّم جدَّته الطبيبة العجوز كيف تحرِّك “الماوس” لتدخل إلى المقبرة، وتزور قبر جده كلما داهمها الحنين. ويعلمها أيضا كيف تعتني بالقبر، وتغرس بجانبه ما تشاء من النبات، وتروي تربته لئلاّ تذبل الرياحين، وكيف تغيِّر مواقع القبور لحميمية الجوار!؟ وطفل النت المنكود لم يتعلَّم ولا يدري بعد أن قيمة الإنسان الحقيقية، أن يموت في وطنه وأن يحتضنه ويحنو عليه تراب أرضه، ليدفن بين من سبقه من أهله وعشيرته وبنيه.
وهكذا أيضا يا صديقتي التي تدرك جيدا معنى ما أقول، تبقى نكبة الأفراد أقل إيلاما من “طشاري”، وشتات الشعوب ومحنة انتماء البشر في سائر جنبات هذا الكوكب المنكود. فإن كان محمد الماغوط “لا يضع ملاءة سوداء على شارات المرور ويناديها يا أمي، ولا يرسم على علب التبغ الفارغة أشجارا وأزهارا ورياضا وأطفالا سعداء ويناديهم يا وطني”!؟ فكيف لفكر الطفل العنكبوتيّ المنحوس، أن يبتكر مقبرة لجدته على النت، لتزور ضريح جده كلما استبد بها الحنين.!؟
في فترة التحول التِّقَني بين جيلين مختلفين من الطائرات، ونحن مهددون بالصرف من الشركة حيث مارست عملا آلويا، وكان كل ما تعلمناه على الطائرات القديمة لم يعد يجدي أو ينفع في شيء. ورافق شعورنا هذا كثير من خيبات الأمل، كالتهديد بالصرف تعسفا، ومرارة ما بلغناه من سوء الأحوال، وما يترتب من الانعكاسات السلبية على وضعنا العام.
فترة النوم من أسوأ وأصعب الأوقات التي كانت تمعن في تهديدي وإحباطي، وأنا أرى في نومي حافلة النقل الجماعية، التي كانت تقلنا من محطات التجمع إلى الشركة، أنها تجاوزتني وأسرعتْ بالابتعاد عني، وأنا أعدو وراءها ملهوفا مقطوع الأنفاس والعرق يتصبب مني، لأتعلق بالحافلة لكي تقلني إلى عملي، فلا يضيع مستقبل أولادي في المدارس والجامعات.
الاتصالات الوسيلة الحديثة وما يواكبها؟ قتلت سعادة الطفل الذي كُنتُه، وحرمتني المشي حافيا في البراري والحقول. تلك هي ضريبة الآلة نسددها من أرواحنا ودموعنا. لتبقى العودة إلى الماضي لا تخلو من بعض البلسم يداوي.. ولا يشفي.
ولئن كان الشتات قاسيا تنوء بحمله القلوب..؟ وكانت الزينة وكل مصابيح شهر الصوم في رمضان تضيء الشوارع. لكنها لم تعد كافية لتبهج قلبي الحزين..؟ فتعالي بنا إلى استراحة النفوس المنهكة تلطِّف من حدَّتها فيروز؛ عندما يؤرقها السفر والغياب الطويل، ليفيض بها الحنين ويضنيها السكوت عن طرح السؤال. فيروز الروح الخالصة والجسد الطاهر، قربان السيد المسيح عشية الآلام، ونعمة السماء على الأرض، تنقذ نفوسنا من الظلمة والضياع ونوازع الوجع العظيم.
غَرَّبِ جِنَاحُوْ غَرْبِي  وْدَمْعِ السَّفَرْ عَ جْنَاحُوْ
وَصَّيْتَكْ رُوْحِ لْحُبِّي  وْقُلُّو يِسْعِدْ صَبَاحُوْ
مَعْ ضَوِّ الشّمْسْ بُكْرَا قَلِّي بْشُوْفِكْ عَ الْمَيِّة
خَوْفِي لَ الشَّمْسْ تِسْهَا وْتِنْسَى تِطْلَعْ صُبْحِيَّة
https://www.youtube.com/watch?v=ENPZqba6ZIc
وهكذا تبقى مقالة شهربان مليئة بلماحة الكاتبة المثقفة المدركة، وسيدة الأسرة الواعية المتفانية في خدمة من يحيط بها، وهي تحوِّلُ الداء إلى دواء في مقاربة وعبقرية الحسن بن هانىء، أحسن الله إليه وطيّب مثواه.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

آخر المواضيع