النّيل في زجاجة!

255
النّيل في زجاجة!
نورة سعدي

 

 

النّيل في زجاجة عنوان مذهل ،بل إنه أكثر من مثيرأليس كذلك عزيزي القارىء ؟فهل يعقل أن تستوعب زجاجة مهما كان حجمها ذلك النهرالعبقري الذي لا نضيرله بين أنهار العالم جميعا ،النّيل الساحر الذي قدّسه قدماء المصريين كما فعلوامع الشمس وتصوّروا في الماضي البعيد أنّه ينبع من الجنّة ،النيل الذي يعد بحق رمزالخصب والخيرويمر من الجنوب إلى الشمال أو من الجهة القبلية إلى الجهة البحرية يجمع كل البيئات والأقاليم وهو بالنسبة إلى مصرشريانها الحيوي فلا عجب إذن أن قال هيرودوت أبوالتاريخ ،مصرهبة النّيل !،النّيل في زجاجة هل يصدّق عاقل كلاما من هذا القبيل؟كلا لا يمكن لأي كائن سويّ أن يصدّق ذلك،ولابدّ أنه سيصرخ من فوره ،لا ،مستحيل هذاغير صحيح ،لكن ماذا لو أكّدت أنني في لحظة من لحظات التّجلي العميقة قد رأيت تلك الهبة الكونية العظيمة تختزل في زجاجة و تمثل أمامي كرائعة فنيّة مشعة الصوروالمعاني ،رائعة اعتمد فيها صاحبها التكثيف والتّقطيروالتركيز ، أجل لقد تأتى لي أن أرى كل ذلك حينما عادت شقيقتي الصغرى من مصر وقدمت لي بناء على طلبي قارورة صغيرة قائلة ،هذه هديتك المشتهاة ،طبعا لم يكن ما تلقيته عطرا شرقيّا معتّقا كعطر ليالي الحلميّة على سبيل المثال لا الحصر وإنما كانت الهديّة حفنة ماء شفاف يتلألأ كما تتلألأ المدامع في المحاجرالزجاجية ، ما أن امسكت به عبرالزجاجة حتى هتفت في فرح غامر،أخيرا النّيل الباهرالمبهر ملهم الشعراء و الأدباء والفنانين والعشاق في حضرتي وبانسيابية عجيبة رحت أردد الأبيات التي قالها أحمد شوقي أمير الشعراء في حنينه إلى مصر ونيلها العظيم
يا ساكني مصر إنا لا نزال على
                           عهد الوفاء وإن غبنا مقيمينا
هلا بعثتم لنا من ماء نهركم
                             شيئا نبلّ به أحشاء صادينا
كل المناهل بعد النّيل آسنة
                           ما أبعد النّيل إلا عن أمانينا !
أجل لقد رضيت بغيض من فيض نهر الحياة على كل الهدايا الثمينة والأثيرة التي تزخر بها الأسواق التقليدية والحديثة في أمّ الدنيا والتي لم تكن أختي لتتأخر لحظة عن تزويدي بها لو لمست مني رغبة أكيدة في الحصول عليها ،كنت أريد هدية بحجم أرض الكنانة ،هدية تنطق بالعبقرية ،هدية شاهدة على حضارة عظيمة فلم أجد أبلغ من حفنة ماء من النّيل ،إذ يكفي أن أضع قطرة ماء واحدة تحت مجهرالتاريخ لتتداعى في ذاكرتي صفحات سنيّة من معركة الحضارة و الوجود في مصر الفرعونيّة والإسلامية عبر العصور ،فكلما نظرت إلى الزجاجة خيّل إلي أنني أرى الفرعون الأعظم رائد بناة الأهرام وقد خرج إلى نزهة في النّيل تحفّه القوارب الملكيّة وتحيط به الجواري بالدفوف والمزامير ،أو أنني في حضرة إيزيس و أوزوريس وكليوباترا وحتشبسوت و نفرتيتي وسميراميس ،كلما شممت ذاك الماء واستنشقت عبقه هبّت عليّ عطور أبطال الإسلام و رجاله العظام أمثال القائد أسد الدين شيراكوه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي و الأمير بهاء الدين الأسدي الذين جاؤوا إلى مصر لفك حصار الصلبيين عن القاهرة ،أجل كلما تأملت الماء في إنائه البلوري وجدتني أردد في نشوة ،إن كان لابد من تلقي هدية فلا أقلّ في اعتقادي من هديّة تاريخية جامعة تفتح نافذة على أمجاد الماضي ،تثري الفكر وتنعش الوجدان وتعيد الاعتبار للكرامة العربية المهدورة وتعود بآلة الزمن إلى الوراء !

نورة سعدي

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع