النبكة والجدران

177

صعدت سعاد على خوان قديم أثري تقصفت جوانبه غير إن قوائمه الأربع ظلت صامدة تحت منبسطه العلوي الصلد الذي أصابه الجدري عبر عقود استعماله لأغراض شتى منها استعماله كسلم أو صقالة إضافة لخدماته الأخرى . وقفت بثبات ابنة منتصف العشرين مع إناء يحتوي بعض ” الجص ” تعيد الآجرّة التي كادت تثقب جمجمة رضيعها الزاحف على ” الفرشي ” تعيدها لمكانها , اعتادت سعاد على ذلك أي أن ترمم ما يتساقط من جدران المنزل أولا بأول كي لا يلحق هذا الجانب من البيت ما لحق بالجانب الأيمن من خراب أدى الى تساقط بعض الجدران كما لو أنها مصنوعة من حلوى , سلمت الجدران الأُخرى ومنها هذه الغرفة الكبيرة التي تتخذ من جانبها الأيمن مناما لها ولزوجها أما جانبها الأيسر فهي تعده لنوم طفليها أما الرضيع فتنيمه لصيقا بها حتى إذا ما بكى ليلا مدت له ثديها لترضعه حتى يعود للنوم تارة أُخرى . لم يعد للغرفة الكبيرة باباً فقد أكلته الأرضة مذ زمن بعيد – فاستعاضت عنه بقطعة من الخشب الخفيف ” الفايبر” – فصار الباب الأصلي طعاما للتنور …. سرح فكرها بعيدا لعمر الصبا حيث كانت تزور خالتها لتلعب مع بناتها فلا أخت لها لتلعب معها كانت بعض الأحيان تبيت ليلتها مع بنات خالتها وكان زوج خالتها يخرج عن وقاره المعهود ليغني لها أو بالأحرى ” يعدد : ” بنيتلج بالكبر تنور ” ثم يلحقها مازحا بكلمة ” يبووووو ” وكلما غنى لها ذلك تأخذ بالبكاء لأنها تتذكر أمها ويحدث هذا غالبا في وقت متأخر لا يمكن لها عنده أن تعود لحضن أُمها فتنام على بكاء وتذكرت أيضا إنها حينما تعود للمنزل كان أبوها يوبخها بلطف قائلا: ” الي يلكى خير من أهله يبات ” فكان يزيد حزنها وأسفها على استغراقها في اللعب و تلكؤها بالعودة لمنزلها قبل فوات الأوان . كانت الحفيدة سعاد مولعة بمنزل الأجداد لا تريد رحيلا عنه . أما زوجها العامل البسيط في معمل الغزل والنسيج فقد كان له أن يتخذ سكناً في المجمع السكني الملحق بالمعمل . الا أن سعاد لم تستطع أن تهجر المنزل الذي ولدا ونشآ فيه والذي لمّهما ولمّ أبويها وأبوي زوجها حتى اختارهم الله لجواره , كل ذكرياتها الحلوة والمرة حدثت هنا لذا لا تستطيع أن تخلع عنها رداء الذكريات طيب الرائحة لتغدو الى بيت آخر أو شقة تعلو عن الأرض ما شاء لها الله وبُناتُها . لم تكن تستعمل البيت كاملا أولا لتهدم جانبه الأيمن كما إنها لم تشعر بحاجة الى النصف المتهالك منه , ولو فضل بعض المال لديها لأحبت إصلاح الخلل لا لحاجتها له فعلا بل لدفع الضرر , ذلك إن أطفالها اتخذوا من الجانب المتهالك مربعا للعب للقفز والاختباء . احساسها بالأمان يتنامى في هذا البيت يسنده تاريخ الأسرة المروي عبر تدفق السنوات تذكرت ما روته أمها عن ابن عمها الجميل في صغره عندما كان في الثالثة من عمره والذي كان يلعب في فناء الدار في ظل النبكة التي تصنع مظلة هائلة فوق الفناء حيث تمتد مفترشة الفضاء من أقصى الجانب المتهاوي الى نهاية الجانب المسكون لتجتازه الى سطح الجيران مغدقة ثمرها إبّان نضجه على الجميع بلا منة , وإذ كان الباب الخارجي مفتوحا كالعادة تسلل الطفل الى الشارع في غفلة من نساء الأسرة الكبيرة حينها إذ كن يعملن في أنحاء المنزل تسلل خارجا وحين انتبهت النسوة لغيابه وبعد بحث في أرجاء المنزل والسطح تبين اختفاؤه هرعت النسوة بعد أن ارتدين العباءات على عجل ليتوزعن في الحي القديم بحثا عنه غير إنه كان قد ابتعد الى ما لا يتوقع أحد وهن في ارتباكهن إذا بإحدى نسوة الأقارب تأتي به الى ذويه مسرعة بعد أن فوجئت به يدلف الى مطبخها ليجلس بجوارها بصمت . كانت تشعر وهي في هذا الحي بأنها بطة تسبح في بركة مغلقة تبترد بمائها وتنعم بخيرها ولا تريد أن تنتمي الى مكان آخر حتى إن كان بحراً كالسماء سعة وجمالا . ابن عم أُمها هذا أردته رصاصة طائشة في عمر الخمسين في معركة لا شأن له فيها ولا ناقة ولا جمل . حينما نزلت من صقالتها الأثرية كانت تستعد لمواجهة توبيخ زوجها والحاحه المتكرر لتغيير المنزل فكانت تغزل الأسباب لعرضها عليه , هي لا تستطيع إخفاء ما حدث عنه ضميرها لا يسمح بهذا لذا عليها أن تستمع لعبارات التوبيخ بصمت ثم تعرض تبريرها مفصلا . تذكرت ضمن ذلك عميها اللذين غرقا في دجلة وكادا ينتهيان حينما أنقذهما ” نشمي ” من سكان الحي وأعادهما للبيت سالمين . الحي مع إن الخراب يزحف نحوه بقدمين جديدتين غير إنه في نظرها محمياً بسقوف وجدران الرحمة من الله ومن سكانه الطيبين . تعالق العلاقات واشتباك النسب سرادق يستظل فيه الجميع وهي منهم لذا لا تطيق مغادرة الحي الآيل للسقوط …. وكما السدرة العتيقة غرست رجليها عميقاُ في” بقجة ” البيت المتهاوي واستقرت في باطن الثرى . ”
*****
سمية العبيدي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع