المؤمنون بين الشريعة والحبّ الإلهيّ

522

مادونا عسكر/ لبنان

كلّما  تمحورت الجماعات حول الدّين كمنظومة تقيّد الإنسان بالظّاهر الإيمانيّ، تراجعت في النّمو الفكريّ واتّجهت نحو تحجيم العقل وأسره في أطر محدّدة تتراوح بين التّمسّك الحرفيّ بالشّريعة والانغلاق على الذّات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى وبفعل الانغلاق والتّقوقع تعدّ نفسها الأفضل بل الوحيدة الحاملة للحقّ. ما يؤثّر تلقائيّاً على التّقدّم والنّموّ الرّوحيّ لأنّ الأمر متعلّق  بالحرف لا بالرّوح. فالحرف قاصر وعاجز عن فرض نفسه على الرّوح كي يتثنّى لها الانطلاق والتّحرّر من هيمنة المعنى الظّاهر. وأمّا الرّوح فمرتبطة بالتّأمّل، اللّغة الصّامتة الباحثة في العمق الإنسانيّ انطلاقاً من الاختبارات الشّخصيّة الخارجيّة  والدّاخليّة. وكلّما تباعد الدّين عن الإيمان، أي كلّما تزايد الاهتمام بالشّكل الدّينيّ بدل الاهتمام بالنّموّ الإيمانيّ أي عمق العلاقة مع الله، تمحور الإنسان حول نفسه، بل عبدها ظنّاً منه بهذا التّمحور أنّه يعبد الله. فينتج عن ذلك إعلاء وهميّ للذّات يدخل الإنسان في دوّامة إثبات العقيدة أو الدّفاع عنها. فيشغل وقته بالبحث عمّا يثبت أنّها الحقّ الوحيد الّذي ينبغي أن يخلص إليه كلّ إنسان. وبذلك يمنح نفسه رتبة أعلى من الآخر معتبراً إيّاه ضالّاً. أو يشغل وقته بالدّفاع عن العقيدة، وكأنّه يبرّر وجودها أو يشكّ هو ذاته بمضمونها واضعاً ذاته في زاوية المتآمَر عليه، ممّا يجعله في حالة دفاع دائم. لذلك تتراجع اهتمامات الجماعات المنغلقة على ذاتها بالعلم والأدب والفنّ وتتّجه نحو التّعنيف الماديّ والمعنويّ بحجّة إحلال الحقّ. في حين أنّ الهدف الضّمنيّ هو تحقيق انتصار شخصيّ بعيداً كلّ البعد عن الحقّ أو عن تحقيق الشّريعة. كما أنّ هذه الجماعات، أيّاً كانت توجّهاتها أو انتمائها أو عقيدتها، تنحدر بمستواها الفكريّ والثّقافيّ إلى ما هو دون الثّقافة الّتي تخدم الإنسان وتسهم في تطويره، لأنّها محدودة بفكرها الخاص الموجّه نحو انتزاع الآخر من ثقافته وإيمانه الشّخصيّ.

 بالمقابل فالمهتمّون بالنّموّ الإيمانيّ منفتحون على النّور الإلهيّ، أحرار من ذواتهم  المعقّدة ومن الآخر العابد لأنصاف الحقيقة، مستنيرون بالنّور فيسيرون به ويخلصون إليه. الدّين وسيلة وأمّا الإيمان فحياة. وليس من ميزان نقيس به درجة إيمان كلّ شخص. وليس من مجهر يدقّق في العلاقة بين الإنسان والله. الأمر الّذي لا يقبل أيّ نقاش في هذه المسألة الإيمانيّة وفي العلاقة الحميمة والخاصّة مع الله. ومن خلال هذه العلاقة يعي المؤمن أنّه بحاجة إلى جهاد شخصيّ ومثابرة على تجذير وتعميق هذه العلاقة؛ لاستئصال الجوانب المظلمة  الكامنة في النّفس البشريّة حتّى يمّحي كلّ حاجز، مهما كان صغيراً، بينه وبين الله. بالتّالي فلا وقت لديه للانشغال بإدانة الآخر واتّهامه بالضّلال والتّعالي عليه. فالحياة مهما طالت قصيرة جدّاً وهو بحاجة لبلوغ هدفه، قلب الله. كما أنّه يعي جيّداً أنّ دعوة الآخر تقتصر على الحبّ لا على الانخراط في دين آخر بغية ربح الجنّة. فماذا يريد الإنسان من جنّة تميّز بين البشر في حين أنّ العالم يقوم بهذا الواجب؟ وكيف يتحدّد الإيمان إذا ما ارتبط بمصلحة بلوغ الجنّة؟ وما قيمة حبّ الله إذا كان طمعاً في الجنّة أو خوفاً من جهنّم؟ الحبّ لا يفهم هذا المنطق، الحبّ هو الحبّ. والحبّ يكون من أجل الحبّ وحسب. الجنّة هي قلب الله وقلب الله يستوعب كلّ البشر، وهو أدرى بخلائقه، وأعلم بالقلوب. ولا أحد يملك الحقّ بالإنابة عنه أو الدّفاع عنه أو إدانة الآخر انطلاقاً منه. ليس هدف الإيمان بلوغ الجنّة بل إنّ الإيمان مساوٍ للخلاص أو للحرّيّة الإنسانيّة الكاملة الّتي لا تتحقّق إلّا بالحبّ الإلهيّ.

“الحقّ حقّ في نفسه لا لقول النّاس له” (ابن النّفيس)، ولا يبلّغ الحقّ إلّا الحقّ ذاته، وهو يأتي بنفسه ويملأ قلب الإنسان بقدر ما ينفتح هذا الإنسان على النّور ويسمح له بالتّسرّب إلى أعماقه. فكيف يستقبل الحقّ من هو مشغول بإدانة الآخر؟ من السّذاجة والجهل أن يصدّق أحد أنّه يحمل وحده الحقيقة الّتي ينبغي أن يقتنع بها الجميع. فالحقيقة ليست معادلة حسابيّة، وإنّما الحقيقة مسيرة اختبار شخصيّ ورحلة طويلة يعوزها الصّمت والإصغاء والتّأمّل والجهاد الرّوحيّ والاستنارة العقليّة. وما سوى ذلك فمضيعة للوقت وتشويش للرّوح وارتباك للعقل وانحدار نحو الجهل. وفي اللّحظة الّتي تبادر فيها الحقيقة، لا يتلمّس منها الإنسان إلّا شعاعاً بسيطاً يجذبه إلى الانصهار بها حتّى الذّوبان. المؤمن يمضي نحو الله وهو يراه في كلّ شيء. يترفّع عن التّفاهات والسّخافات الّتي تهين العقل المعدّ لرفعة الإنسان. لذلك فليهتمّ كلّ إنسان بنفسه وليدع الآخر بسلام وليسعَ جاهداً ليتحرّر من ظلماته كي يرى الله بعين الحبّ، حتّى إذا ما التفت نحو الآخر عاين فيه الله. قدّيس لطيف يقول بذكاء: “الحكيم هو الّذي يخلّص نفسه”.  فالنّفس الإنسانيّة المعقدة بتركيبتها تحتاج إلى الكثير الكثير من الحبّ لتتجرّد وتستقيم وترتفع نحو الله. ومتى خلّص نفسه انعكس هذا الخلاص على الآخر وتبقى له حرّيّة الاختيار.

المؤمن العاشق يتطلّع إلى فوق فالقاع لا يغريه والوقت لا يتّسع للنّظر إلى أسفل. المؤمن العاشق يتحرّر من الشّريعة لأنّه ارتبط بربّ الشّريعة. المؤمن عاشق عابد في قلب الله الّذي يريد أن جميع النّاس يخلصون وإلى معرفته يبلغون.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

آخر المواضيع