الفساد السياسيّ في الرواية المغاربيّة ل محمود الغيطاني

816

الفساد السياسيّ في الرواية المغاربيّة

ل محمود الغيطاني

ملاحظات و تساؤلات

رشيد أبو الصبر

 

عندما شرَعتْ ابنتي ذات الإثنى عشر ربيعاً في الرقن لي على الحاسوب هذه الملاحظات و التساؤلات، فاجأتني بالقول:

ـ لا تنشر هذا يا أبي.

لماذا ؟ قلت لها.

ـ لأنّه سيَجلُب لك من السبِّ و الِّلعان و ما إلى ذلك ممّا لم تسمعه أبداً.

 

و تذكّرتُ بعد ذلك أنّ صفحتي على الفيسبوك مفتوحة لها، و الغيطاني صديق لي فيها. بل إنّنا مراراً ما ننكت في البيت  ب “كُّسْ”.. إحدى علاماته البارزة في التهكّم والسخريّة.

 

و مع أنّه لم يَحدُث أبداً أن تهجَّم عليَّ سِّي محمود في تعليقاتي على تدويناته، و التي تأتي غالباً حادّة.. فإنّ ملاحظة ابنتي ستعمَل على مراجعتي هذا العمل و تذويب كلّ ما من شأنه أن يُحدِث صدامات شخصيّة لا طائل من وراءها، و ذلك لصالح المعارك النقديّة المُضيئة التي نشتغل عليها سويّاً.

في مؤلّفه النقديّ، “الفساد السياسيّ في الرواية المغاربيّة”، الصادر هذه السنة (2019) عن دار فضاءات للنشر والتوزيع (الأردن) في 204 صفحة، سيختار الناقدُ المصريُّ محمود الغيطاني لتناول الموضوع، أربعة عشر نصّاً روائيّاً مغاربيّاً :

سبعة نصوص روائيّة جزائريّة: اللاز (الطاهر وطّار)، في المدينة ما يكفي لتموت سعيداً (ياسمينة صالح)، لعبة السعادة (بشير مفتي)، أربعون عاماً في انتظار إيزابيل (سعيد خطيبي) ، تسعون (سمير قسيمي)، الحيّ السفلي و  قضاة الشرف (عبد الوهاب بنمنصور). أربعة نصوص تونسيّة: الطلياني (شكري المبخوث) ، مطماطة (عثمان لطرش)، المِشرط (كمال الرياحي)، خلدون مِيشال (محمد لحباشة). وثلاثة نصوص مغربيّة: بأيِّ ذنب رَحلت (محمد المعزوز)، بعيداً من الضوضاء، قريبا من السكات..(محمد برّادة)، هوت ماروك (ياسين عدنان).

 

سنقتصر في ملاحظاتنا وتساؤلاتنا هنا، على تناول الغيطاني الروايات المغربيّة الثلاثة، مع الرجوع الى بعض النصوص الأخرى عند المقارنة و التمثيل. و الإقتضاء.

 

بداية، لا يمكننا إلاّ أن نقدِّر جهود الناقد وعمله على إخراج هذا العمل الصّعب الجرِّيء، و الذي تكمُن أهميته من حيث الكمِّ في تعزيز ريبيرتوار الدراسات النقديّة الشحّيحة والمحتشمة في هذا الباب، و من حيث الكيْف في رصد تباين طرح موضوع الفساد السياسيّ على المستوى السردي.. إن على مستوى روائيِّي البلدان المغاربيّة جَمعاء، أوعلى مستوى روائيِّي البلد الواحد..

الفسادُ السياسيّ.. القاسِم العربيُّ والمغاربيُّ المشترك على الدوام.

 

كما لا يُمكن إلاّ أن نحترم اختيّارات الغيطاني لنصوص تناوله

وإن كنّا ـ في ملاحظة أُولى ـ نرى بأنّ

1ـ النماذج الروائيّة المغربيّة المختارة هنا لا تمثّل بالشكل الدقيق للفترة التي لا يختلف مغربيَّين على أنّها أسوأ فترات الفساد السياسيّ في المغرب الحديث.. الستِّينات و السبعيِنات و بداية الثمانينات.. فترة النضال الشامل.

فإبداعات هذه الفترة الأدبيّة والفنيّة تُعطي صورة حيّة و تقوم شاهداً على احتقان و اختناق الجوِّ السياسيِّ في المغرب، و الذي واكبه اكتواءُ المبدعين المغاربة الأحرار بلضاهُ النفسيُّ والجسديُّ المباشر، ونقلهم بالتالي معاناتهم عبر أعمالهم من المنافي الاختياريّة والإجباريّة وداخل السجون، مِن مِثل فاطنة البيه في “حديث العتمة”، عبد القادر الشاوي في “كان وأخواتها”، عبد اللطيف اللعبي في “مجنون الأمل“،

و لعلَّ ذِكر اللعبي سيقفز بنا إلى ملاحظةٍ ثانيّةٍ ذات صلةٍ لا نريد أن تفوتنا هنا.. كون الغيطاني

2ـ لم يختر من بين 14 رواية مغاربيّة رواية واحدة مكتوبة بالفرنسيّة، وقد تناولت هذه الرواية الفسادَ السياسيَّ المغاربيَّ موضوعاً وشكلا ببراعةٍ فائقة، و ساهمت بشكل كبير في إيصاله إلى المنابر الحقوقيّة العالميّة مباشرة دون وسيط الترجمة.

من مثل كاتب ياسين(1929ـ1989)، آسيا جبّار (1936ـ2015)، رشيد بوجدرة (1941)… من الجزائر على سبيل المثال.

 

ثمة ملاحظة أخرى بخصوص النصوص المختارة :

3ـ لم يتمّ من طرف الناقد اختيار سوى نصٍّ روائيٍّ نسويٍّ واحد.

هذا في الوقت الذي اختار فيه نصّين لنفس الروائيِّ الذكوريّ.. الحيّ السفلي و قضاة الشرف ل عبد الوهاب بن منصور.. الروائيّةُ المغاربيّةُ التي شاركت بشكلٍ لافتٍ في النضال ضدّ الفساد السياسيّ إبداعيّاً و على الساحة.. تمّ تقزيم تمثيليّتها هنا الى 7% !؟

 

4ـ ثمّ إنّنا نستغرب كيف لا نرى هنا مجرّد تلميحٍ للرواية المغاربيّة المكتوبة بالأمازيغيّة.

و قد استطاعت هذه الرواية رغم حداثة عهدها و ملازمتها خندق الإنشغال الهويّاتي ـ فيما هو في حدِّ ذاته صوتاً مرفوعاً ضدّ الفساد السياسيّ بإقصاءه البُعد المغاربيّ الأمازيغيّ ـ أن تضع لها موضع قدم في الرواية المغاربيّة بحصيلة 45 رواية بالقبايل بالجزائر، و 27 رواية في المغرب¤

 

و هكذا، فإذا كنّا لا نعرف كيف جاء اختيار النصوص الروائيّة في هذا المؤلّف، ولا لماذا أقصيّت منه الرواية المغاربيّة المكتوبة بالفرنسيّة و المكتوبة بالأمازيغية، ولا كيف تمّ تفزيم حجم تمثيليّة الرواية النسويّة فيه، فإنّنا نكاد نُوقن بخصوص الروايات المغربيّة، أنّ الغيطاني ما اختارها سوى ليَتحامل دون مواربةٍ على روائيَّيْن اثنين.. المعزوز، وبرّادة، و يثني على ثالث.. ياسين عدنان.

فكيف يَقذف سريعاً برّادة (1938)، الرجل الذي عايش و عاش جميع مراحل الفساد السياسيّ في المغرب الحديث، و راكم خلالها على مَهل، أستاذاً جامعيّاً و روائيّاً و ناقداً أدبيّاً و مترجماً كمّاً وكيْفا ما يَصعُب حصره من السرود، ثم يقول عنه صاحبنا:

“وكأنما أراد الروائي أن يجمع كل الأحداث السياسية في المغرب بين دفتي كتاب واحد محاولا مناقشتها، ثم أطلق على هذه الكتابة توصيف “وراية” في نهاية الأمر” ص.39.

ثمّ يضيف: “كأنها رواية احد الشبان اليافعين الذين يكتبون لأول مرة”. ص .45.

كيف يختبيء محمد برّادة خلف ياسين عدنان (1970) الشاعر، وصاحب التجربة الروائيّة الواحدة !؟ وهو أمر لن يرتضيه عدنان لنفسه.

¤ قراءات في الرواية الأمازيغية، منشورات رابطة تيرّا، المغرب، 2014

 

رواية “بأيِّ ذنب رَحلت” ل محمد المعزوز

 

في رواية “بأيّ ذنب رحلت” ل محمد المعزوز، يؤاخذ الغيطاني الكاتب على نقله الفكرَ الفلسفيَّ التأمليَّ إلى السرد الروائيّ، وإبعاد روح المتعة والتشويق عنه، وبالتالي انصراف القارئ عن إكمال الرواية :

“فبدأ في  تبني لغة فلسفية تتسم بالحكمة التي قد تؤدي به إلى التجرد الكامل والحديث في أمور عقلية مجردة وهو ما يسلب  النص الروائي روائيته و روحه ومتعته، ويوقعه في التأمل الطويل وفلسفة الأحداث والأمور تبعا لما يراها:

الأمر الذي يفقدها حيويتها وتشويقها ويشوبها الكثير من الملل الذي قد يجعل القارئ منصرفا عن اكمالها، لفلسفتها عليه”. ص.17.

 

ولقد وصل الأمر بالغيطاني إلى اعتبار اللغة التأمليّة الذهنيّة مشوِّشة للمتن الروائيّ :

“إنَّ خطورة استخدام هذه اللغة التأملية الذهنية المجردة بكثافة داخل النص الروائي يعود إلى أنها تتحول مع الإصرار عليها إلى مجرد ثرثرة لا علاقة لها بالمتن الروائي؛ الأمر الذي يجعل الرواية تبتعد كثيرًا عن موضوعها الأساس، وهو ما يدفع القارئ إلى إغلاق الكتاب.” ص.21.

 

لا نعرف كيف يَستنكر الغيطاني هنا إعمالَ التفكيرَ الفلسفيَّ في تناول الفساد السياسيّ، و الفلسفة جاهدة على الدوام على الإنزياح للإنسان في حقه في الحرّيه، و تقرير المصير، و في الوجوده حتى. ما يَعمل الفسادُ السياسيُّ على تقويضه.

 

و ليس من أحدٍ منّا في مغرب السبعينات لا يَعرف بأنّ الفلسفة قد شكّلت على الدوام للنّظام و أحزابه عقبة في طريق فساده السياسيّ، لمّا انتهى بإغلاق شعبتها بكليّة الآداب بالرباط.. الشعبة التي تخرّج منها العديد ممّن هم روائيّون مغاربة كبار: محمد عزيز الحبابي ـ بنسالم حِمّيش، …

و إذا كان التفكيرُ الفلسفيُّ التأمليُّ عند المعزوز، في نظر الغيطاني، “محطة معطلة للسرد”، تفسد على القارئ متعة وتشويق القراءة، فالشيء نفسه في حضور البلاغة: “كما أنَّ هذا المقطع السردي الطويل أدى إلى تعطيل الحدث السردي ريثما ينتهي الكاتب من وصلته اللغوية الغنائية المتخمة بالبلاغة، وهو ما يُسبب الكثير من الملل للقارئ”؛ نتيجة الميل إلى الذهنية و المجردات.” ص.20.

هنا سيقع الناقد في سُفسطائيّةٍ و تناقضٍ صارخين و هو يضَع الفلسفة والبلاغة في سلّة واحدة.

ثم يضَع بعد ذلك مباشرة الفلسفة والجمال في طرفيْ نقيض :

“نلاحظ أن الروائي يستغرق استغراقا عميقا في التجريد وفلسفة سرده حتى إنّه يخرج به من إطار الروائي إلى دائرة الفلسفي التأمليي، وهو ما يتعارض مع جمالية الرواية، ويحيلها إلى نص فلسفي”. ص.20.

ثم إنّه حتى عندما يجد الغيطاني عند المعزوز “محرِّكات للسرد” (عكس معطِّلات) في شكل مصادفات وأقدار، فإنّه سرعان ما يشمئزّ من كثرتها، فيعتبرها مصادفات وأقدار ملفقة غير منطقيّة :

“لكن المُلاحظ أنَّ الروائي قد اعتمد في بناء روايته على الكثير من المصادفات الملفقة غير المنطقية والمُبررة”. ص.25.

مصدفاتٍ تمَّ الزجُّ بها في النصّ، و من غير مهارةٍ في ذلك:

“أي أنَّ محركات الحديث الروائي كلّها تمَّ الزج بها زجًّا من قبيل المؤلف؛ كي يتحرك، لكنه لم يكن ماهرا في إدخال هذه المحركات الى العالم السردي”. ص.26.

و الحال أنّ ما يجعل مصادفة ما مصادفة، هو هذا بالضبط.. لا منطقيّتها، و أمكنانيّتُها المطْلقة، و خَواءُها مِن مَسوغ.

و أيضاً غرَابتُها. و حدُوثُها عرَضاً و كما اتفق.¤

 

¤ أنظر أيضاً موقف الكاتب من المصادفات في تحليله هنا لرواية “خلدون ميشال” للتونسيّ محمد

لحباشة: “إلاّ أنّها اعتمدت على العديد من المصادفات البحتة التي لا يمكن لها أن تحدث في الحياة” ص.191.

 

5ـ فماذا يبقى في النصِّ الروائيِّ إذا ما أفرغناه من محتواه التأمليِّ الفلسفيّ، والبلاغيّ، وحتميّة المصادفات والأقدار ؟

و أيضاً تعدّده اللغويّ. كما سيأتي تبخيس الغيطاني لذلك…

نعتقد أنّ الرواية بالتمثيلِ الرياضيِّ العِلميّ.. كلّ أو لاشيء..un tout au rien

 

رواية “بعيدا من الضوضاء، قريبا من السكات” ل برّادة

 

عندما سينتقل الغيطاني إلى تناول الرواية المغربيّة الثانية..”بعيداً من الضوضاء، قريبا من السكات..”، ل محمد برّادة، سيكون قد أحضر جميع عتاده النقديّ، و وصَل بمشاكسته المعهودة إلى أعلى مداركها.. فيبدأ بطرح السؤال التالي: “لكن هل نجح الروائي في إتقان هذا الشكل؛ [التجريبي] بحيث يقنع القارئ بشكل جديد رغب أنْ يقدمه له؟” ص.40

ثم يجيب على الفور:

” كما بدا هذا الفعل  التمهيدي/ الإطار مُقحما تماما على السرد  الروائي؛ الأمر الذي أثقل كاهله وبدا لنا زائدًا؛ ممّا أدى إلى الكثير من الترهل، أي أن محاولة التجديد لم تُفد النص الروائي بقدر ما سلبته الكثير من فنيته وسلاسته… حيث ظنَّ الكاتب أنّه من خلال هذا الفصل يستطيع التمهيد للرواية في شكل روائي جديد، لكنه في  الحقيقة كتبه لرغبته في شرح روايته مُقدما… ـ وهذا من دلائل الفشل السردي ـ.” ص.41.

 

هنا، مسألتين لابدّ من الانتباه إليهما تدحَضان هذا القوْل وتعتبرانه تحاملاً على برّادة ليس إلاّ :

أُولاهما، أنّ برّادة الروائيّ، كان ينتمي إلى الثيّار الأدبيّ الذي جرّب تقنيّات جديدة في الكتابة سُمّيت ب التجريب في المغرب.

و ثانيهما، استيعابُه العميق، كناقدٍ و مترجمٍ، للنظريّات التي تُعنى بالقارىء و للوضْع القرائيّ..

القارىء الذي سنأتي في هذه القراءة على علاقته بالكاتب من منظور الغيطاني، و قد ذكره في تناوله النصوص المغربيّة الثلاثة على التوالي أربعون مرّة !

 

هكذا يدعو الغيطاني إلى حدف هذا التمهيد (التجريبيّ) الذي يقع في 32 صفحة، معتبراً إيّاه ترهُّلاً وتزيُّداً وثرثرة:

“أو أنّه بالفعل يظنّ أنّه كلّما زاد عدد صفحات روايته كان ذلك جيدا له، وليذهب السرد الروائي الذي يجب أن يكون خاليًا من كلّ هذه الترهلات إلى الجحم.” ص.46.

وهو الشيء الذي أزعجه أيضاً في رواية المعزوز:

“الأمر الذي انعكس بدوره على صفحات الرواية التي تكدست كثيرًا لتصل إلى هذا العدد من الصفحات، في حين أنَّها كان من الممكن أنْ تكون رواية جيدة لو كان المؤلف قد تخلّى عن ذلك، واختصر العمل إلى نصفه.” ص.36

و في رواية “مطماطمة” للروائيِّ التونسيِّ عثمان لطرش”:

“هذه هي القصة التي تدور حولها رواية “مطماطة” والتي كان من الممكن لها أن تكون أكثر حيوية ويتم سردها في حوالي 90 صفحة فقط، إلا أنَّ إصرار الروائي على التزيد، والإسهاب، والوصف، والتعليق، والثرثرة، التي لم يكن لها أي معنى سوى إثقال السرد جعله يكتبها في 169؛ مما أكسبها الكثير من الملل، والرغبة في الانصراف عنها.” ص.162.163-

بل إنّه سيدعو إلى الإختصار في المقطع داخل الرواية:

“فكل هذا المقطع كان من الممكن جدًّا اختصاره في سطرين فقط” ص.165.

ولعلَّ الناقدَ المغربيَّ سعيد يقطين تحدّث عن هذا قبل الغيطاني في ما أسماه ب “البدانة الروائيّة”، ما جلب عليه كثيراً من المتاعب على اتفاق النقاد على أنْ لا معنى للبدانة على المستوى النقديّ.¤

ويتمسك بها الغيطاني: ” فالإيجاز السردي بات هو منطق السرد، كما أنّ الاستطراد يفترض الغباء في القارئ.” ص.168

¤ من ذلك قولُ واسيني الأعرج ضمن فعاليّات ملتقى أغادير الرابع للرواية (المغرب).

و لكن ماذا عندما يتعلّق الأمر ب ياسين عدنان ؟

“لدينا عالم روائيّ شديد الثراء و الخصوبة حتى إنّه كان من الممكن للروائي أن يستمر في سرده الروائي إلى ما لا نهاية من دون الشعور بالملل من قبل القارئ لو رغب الروائي في هذا؛ … ولعل هذا ما جعل الرواية حوالي 600 صفحة كان من الممكن لها أن تستمر إلى ما يربو على الألف أو يزيد لو رغب عدنان في ذلك دون أي ترهل أو إملال.” ص..65-64

و لنا فقط أن نتعجّب في البون الشاسع بين طرفيْ النقيض:

 

رواية “هوت ماروك” ل ياسين عدنان

 

عند الانتقال الى الرواية المغربيّة الثالثة هته.. “هوت ماروك”

سنجد ناقداً آخرَ على خلافٍ تامٍّ مع الذي رأيناه مع “بأيّ ذنب رحلت” و “بعيداً من الضوضاء، قريباً من السكات..”.. رواية كاملة الأوصاف، حتى أنّنا نشكّ في كونها رواية مغربيّة، أو شيئاً آخر غير الرواية :

 

“هذا ما يريد ياسين عدنان أن ينقله لنا ببراعة فنية وأسلوبية يُعبط عليها من خلال سرد فني متماسك ككتلة واحدة لا يوجد فيه أي ثغرة… فالعمل محكم بشكل فيه الكثير من الاتقان والدراية التي تجعل العمل من الاعمال الروائية المهمة في تاريخ الرواية العربية سواء على مستوى السرد، أو الموضوع الذي يتحدث فيه، أو البناء الفني الذي انتهجه الروائي في روايته”. ص60.

 

يأتي هذا المديح بدون مقدِّمات. حتى إذا صادف الناقد في الرواية ما لا يَروقه، سارَع إلى البحث له عن مَصوغ فيَلوذ إلى “رغم أنّ…” و “إلاّ أنّه…” مِن مِثل ما نقرأه في الصفحة 60 :

“ورغم أنَّ السرد كان فيه الكثير من الحديث عن الأيديولوجيات المختلفة و المتباينة من يسار، ويمين ديني متطرف إلا أنَّه لم يكن عائقاً في السرد الروائي…”

 

وفي الصفحة 62 في مناسبتين :

“فرغم أنه يردهما… إلا أنه ردها أيضا ببراعة…”

و “رغم أنَّ المؤلف أحياناً…إلا أن السرد…”

 

والصفحة الموالية لها (63) في ثلاث مناسبات:

“و رغم أنها من السهل جدا… إلا أننا لا يمكن لنا…”

و “ورغم أن هناك بعض الحكايات التي تبدو للقارىء أنها محض ثراثرات… إلا أننا سيتبين لنا فيما بعد…”

و “و رغم حرص الروائي على… إلا أنَّنا نكتشف فيما بعد…”

و هكذا دواليك .

 

ثمّ نجد الناقد هنا في “هوت ماروك”..  يحتفي بالتمهيد، و التمهيد المطوَّل. بعد أذ كان قبلَ قليلٍ في “بعيداً من الضوضاء، قريباً من السكات..”، يعتبره ثقيلاً، و مُقحَماً على السرد، و لا مكان له في الرواية على الإطلاق.

 

6ـ فماذا يعني على مستوى النقد المقارن أن يعتبر الغيطاني تمهيداً في:

32 صفحة عند برّادة، ثرثرةً وتزايداً وترهُّلاً ؟

و  في 200 صفحة عند عدنان، نجاحاً باهراً ؟ :

 

“يبدأ العالم الحقيقي لرواية “هوت ماروك” حينما يعمل رحال في السيبر ويصبح مسؤولاً عنه، أي بعد مرور حوالي 200 صفحة من صفحات الرواية، بينما ما كان سابقا على هذا العالم هو مجرد تمهيد لابدّ منه، وما كان للعالم الروائي أن يكون موجودًا أو مكتملاً من دونه. ولنا أنْ نتخيل أنَّ الروائي كان ناجحًا بالفعل في أن يجرنا معه على طول 200 صفحة كاملة في سرد روائي هو مجرد تمهيد لعالم روايته الحقيقي بينما نحن منساقون بالفعل معه من دون شعور بأي شكل من أشكال الملل أو التزيد أو الترهل…” ص.65.

 

بعد كلِّ هذا، لم يعد يهمُّنا الوقوف على ما يَعُجّ به تناول “هوت ماروك” من محاباةٍ وإخوانيّات لا تُضفِي عليها ـ عكس الإعتقاد ـ سوى الضبابيّة و الّلبُوس.

و لكن سنُحوِّر هذه المحطّات إلى أسئلةٍ عساها تواكِب الدَّرسَِ النقديَّ الروائيَّ و ما يَدور في فَلكه :

 

ـ هل من حدودٍ دُنيَا و قُصوَى ـ من حيث الحجم ـ للحديث عن عملٍ روائيّ؟

ـ هل الكيْفُ كافٍ للتأشير للعملِ الروائيِّ الواحد بدخول تاريخ الرواية ؟

ـ هل زاغت “البوكر” ـ بشكل فظيع ـ عن طريقها نحو أعمال روائية معيَّنة قبل المحطّة الأخيرة بقليل ؟

ـ …

 

و لعلَّ الغيطاني قد إنهمك على “هوت ماروك” بالنيَّةِ الصادقةِ ـ التي لا تكفي دائماً ـ لمّا حرّكت فيه الأهواء و أوقعته من مزالق نقديّة.

ولكنّها أيضاً، و على العكس من ذلك، كشفت فيه لأوَّلِ مرَّةٍ عن محمود الغيطاني الناقد، و هو يُعطيها العنوانَ المُضاعَفَ الأمثل.. “لعبة صناعة الرأي العام”، بعد إذ أبخس “بأيّ ذنب رَحلت” حين وسَمها ب “الهزيمة النفسية”، ثم “بعيداً من الضوضاء، قريباً من السكات..”، التي عنونها ب “الثرثرة الروائيّة”.

ثم ّلأوّل مرَّةٍ أيضاً نجده يَرفد هنا من نظريّةٍ نقديّةٍ ليُعضِّد بها رأيه :

“ورغم أن هناك بعض الحكايات الي قد تبدو للقارئ أنها محض ثرثرات لا داعي لها، و وقع فيها السارد مما قد يعمل على إضعاف عمله الروائي، إلا أننا سيتبين لنا فيها بعد، مع استمرار القراءة، أن العمل الروائي ما كان قد اكتسب أهميته وعمقه وثراءَه لولا هذه الحكايات التي ظننّاها فيما قبل ثرثرة، أي أنَّ الروائي هنا كان من المقدرة على قلب أفق التوقع لدى القارئ الذي سيظن أنَّ هناك العديد من الثرثرات في السرد الروائي، وتلك مقدرة فنية جعلت الرواية شديدة الخصوبة.” ص.63.

نظريّة التلقّي، وأفُق الإنتظار (horizon d’attente)، الذي تجاهله عند تناوله الروايات السابقة، كما تجاهلَ استدعاءَ نظريّةَ التجريب عند تناوله رواية برّادة.. أحد المشتغلين على التجريب نظريّاً وتطبيقيّاً، فاكتفى بالتحامل عليه من دون أسانيد !

 

7ـ أيُّ رواية لأيِّ قارىء ؟

كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، فقد أوْرَد الغيطاني في مؤلّفه كلمة “القارئ” بغزارة، بحيث نجدها، فقط، في تناوله الروايات المغربيّة الثلاثة تتكرّر أربعون مرّة، و تتكرّر أربع مرّاتٍ في الصفحة الواحدة عند تناوله رواية “هوت ماروك” ل ياسين عدنان (ص.63.).

وستكرّر في المؤلَّف، و بشكلٍ ملفتٍ أيضا،ً كلِمتا “المتعة” و “التشويق”،

و سنقف لاحقاً عند تداعيّات لزوم الكاتب هتَين الكلمتين.

 

عناية الغيطاني إذن بالقارئ، العناية الفائقة، و توجيههِ إيّاه، و سعيه الحثيت للوصول به إلى قارىءٍ نموذج، عن حُسن نيّة، لن يُفضي به في نهاية المطاف إلاّ إلى إلحاق كبير الضّرَر به :

 

فهو في رواية “الطلياني” ل شكري المبخوث و هو ” يلهث خلف هذه اللغة الرشيقة المنسابة حتى نهاية الرواية غير راغب في انتهائها.” ص.159.

قارىء وضيع.

 

و في “بأيّ ذنب رحلت” ل محمد المعزوز، قارئ الغيطاني نزواتيّ، يبحث عن المتعة والسهل المبتذل فلا يُعمِل عقله : “في حين أن القارئ إذا ما كان راغبًا في قراءة كتاب الفلسفة لما ذهب إلى رواية المعزوز؛ حيث الرواية في حقيقتها حكاية لا بدّ لها من تحقيق المتعة.” ص.20.

 

وفي رواية “المِشرط” للروائيّ التونسيّ كمال الرياحي، قارئ حقير دليل مملوك لا حَوْل ولا قوّة له : “هذا العمل الذي ينجح فيه السرد الروائي في جذب القارئ من تلابيبه؛ فيأخذه ممتلكاً إيّاه.” ص.175.

 

و نفس القارىء لرواية “هوت ماروك”: “مهما طال السرد فيها يجتذبنا من أعناقنا للاستمرار في قراءتها دفعة واحدة غير قادرين على التخلي عنها لحظة.” ص.58.

 

ليس هنا عند الغيطاني قارئ يُسائِل النصوص، يُربِكها، يَرمِي بالرواية منذ صفحاتها الأولى في سلّة المُهمَلات ثمّ يبحث عنها ليُعاوِد قراءتها،…

ليس لديه شيء من هذا.. ناهِيك عن ناقدٍ متمرِّس !

 

8ـ وأمّا اللغة التي يرتضيها الغيطاني للقارئ، فهي أيضاً محطّ تساؤل :

 

فهي لا فصيحة يرتفع إليها القارىء.

كما عند الروائيِّ التونسيِّ عثمان لطرش في روايته “مطماطة” :

“كما نراه يحاول التفاحص لأقصى درجة… ، الأمر الذي يقف عائقا بين السردي و المتلقي ويشتت انتباهه و تركيزه.” ص.171.

 

ولا عاميّة شعبيّة تنزل إلى القارئ

كما في رواية ياسين عدنان ـ وهي المسألة الوحيدة التي يؤاخذه عليها ـ : “ربما كان ما يؤخذ على رواية “هوت ماروك” الاستخدام الواسع للمحكية الدارجة المغربية في الحوار..” ص.73.

 

و لا هي بطليقةٍ تنأى عن القواعد الصارمة، خدمةً للتجريب و المثاقفة و حريّة تِرحال الكلمة.

كما عند الروائيِّ التونسيِّ محمد لحباشة في روايته “خلدون ميشال”، في قوله مثلاً في  جملة: “لم أكن لأكون هنا لولاك”

فيراها الغيطاني لغواً و يُصحِّحها بهكذا: “لولاك لما كُتب لي أن أكون هنا” ص. 197.

 

و الحال أنّ ما في المسألة، سَفرَ جملةٍ فرنسيّةٍ خفيفةٍ إلى العربيّة.

 

لا أحد هنا يَعرف بالضبط، اللغة التي يريدها الغيطاني للقارئ من أجل ألاّ تشُوبَه شائبة في الوصول إلى قمّة المتعة :

“لو كان [ياسين عدنان] قد لجأ إلى تفصيح الحوار بدلاً من كتابته بالعامية المغربية لكان من الأفضل له كثيرًا… لا سيّما وأن هذه الدارجة كانت تخرجنا من الإستمرار في القراءة والإستغراق معها بمتعة.” ص.74.

 

“المتعة و التشويق”، الكلمتان اللتان ستردَان أيضاً بغزارة في هذا المؤلّف إلى جانب كلمة “القارىء”..

المتعة و التشويق، الزوج (couple) الذي ظلّ الغيطاني يترقّبه ويترصّده في دراسته للروايات المغاربيّة الأربعة عشر، مدافعاً عنه بصلابة، وهو الناقدُ المنتصرُ للصّورةِ و المُشاهدةِ على الدَّوام لمّا..

9ـ انحاز إلى العرضِ السينمائيِّ في علاقته بالسرد الروائيّ

كما انتصر قِبَلاً للحضارات التي انتقلت إلينا عبر الصورة و شكَّك في تلك التي وصلتنا عبر الكلمة ¤

و لا ريب إذن أن يقسو الغيطاني هنا على الروايات التي تحتفي بالكلمة البليغة وتحِنُّ إلى الأشكال ما قبل روائيّة لغة و أسلوباً… ( الرسائل ـ المقامات ـ …)، و يتعاطفَ بالتالي مع تلك التي تستجيب لقناعاته.

 

¤ كلامه في ندوة الأدب و السينما، في الدورة 24 لمعرض الدار البيضاء الدوليّ للنشر و الكتاب، يوم

الأحد 11 فبراير 2018 .

 

و لا ريب كذلك

أن يكون الغيطاني الناقدُ السينمائىُّ قد ميَّز رواية “خلدون ميشال” ب “اعتمادها على المشهدية؛ حتى أنَّ القارىء سيظل متذكرا لها بعد الإنتهاء من الرواية باعتبارها فيلما سينمائيا شاهده.” ص.196.

 

و أن يقف طويلاً بانبهارٍ شديدٍ على رواية “تسعون” للجزائريِّ سمير قسيمي، منذ عنوانها ( تسعون دقيقة = زمن شريطٍ سينمائيٍّ متوسّط)، حتى ليَكاد ينقلها إلى شريط سينمائيّ :

“فلقد نجح الروائي هنا أن يجعل سرده بالفعل مرئيًّا لمن يقرأه حتى إنّه سيشاهد الكلمات في صور حيّة و كأنها صور تدور أمامه بالفعل، أو كأنه أمام شاشة عرض سينمائي…” ص.147ـ148.

 

و لقد ارتفع بالغيطاني، مرّة أخرى، كما عند “هوت ماروك”، عِشقُه ل “تسعون”، إلى الإنفلات من الإنطباعيّة و التلقائيّة، و الرّفد من نظريّة أخرى للنقد الأدبيّ، عند باختين، و إن جاء ذلك لتسخيرها للنقد السينمائىّ :

“و لعلّ استخدامه [قسيمي] ضمير الغائب و الراوي العليم أفاده أيّما إفادة في مثل هذا اللون من الإسترجاع الذي يتشابه تماماً مع الفلاش باك Flash Back في السينما.” ص.148.

 

خاتمة

كما في المقدّمة، لابدّ و أن يكون وراء هذا المؤلّف مجهود فكريّ و بحثيّ كبيرين و هو يتناول موضوعاً واحداً، و لكنْ بأربعة عشر رؤية و طرح مختلفيْن. و بذلك سيُغري بلا شكٍّ بالقراءة لكلِّ واحدٍ من الروائيِّين على حِدة، و يَفتحَ الباب أمام تناول كتلة من الروايات المغاربيّة يجمعها نفس الموضوع ( الهجرة ـ المرأة ـ الزنوجة ـ… )، ما من شأنه أن يعالِج الكمِّ الهائل من الإصدارات الروائيّة المغاربيّة الراكدة و التي تَصدُر تِباعاً.. المعالجة التي و لابدّ أن تفرز نصوصاً هائلة على مستوى الكيْف، و تُغنِي بالتالي ريبيرتوار النقد الروائيّ المغاربيّ.

التعليقات مغلقة.

آخر المواضيع