العبورالى المشتهى الروحى في قصيدة “الياذةٌ على مُلْتَقى حُزنين” (قراءة جمالية)

192

قصيدة و قراءة :
العبورالى المشتهى الروحى
في قصيدة / ” الياذةٌ على مُلْتَقى حُزنين “
( قراءة جمالية )
حاتم عبدالهادى السيد

تحيلنا الشاعرة السودانية / ابتهال محمد مصطفى تريتر في قصائدها – منذ البداية – الى صراع الذات،عبر الأنثى التى تنشد الاكتمال عبر الوجع الشهى الزاعق في الروح ، وعبر لغة تشبه العنّابة التى لم ترتو بعد من ماء الحياة الأسنى، لذا نراها تصرخ في برية السكون والعتمة،تبوح لمرافىء الروح،وتستنطق الوجد،لتهجر الوحدة بحثاً عن الخلاص والنور، عن المشتهى الغائب،الذى لا يجىء.وعبر هارمونيطيقا اللغة التقصيديّة المائزة،نراها توضّىء القلب بوهج شعاع حروفها المضيئة،وتكوثر ماء الشعر بغناء ناى عصافير روحها الشّادية الصبوحة، تقول في قصيدتها “الياذةٌ على مُلْتَقى حُزنين” :
أجِيئُكَ مُلْتَقى حُزْنينِ
يَحْتَرِمانِ نَبْعَهما
وَمِنْ عُذْرِيَّةِ المَعْنَى
جَرَحْتُ الماءَ تَجْرِيحَا .
انها منمنمات الروح، هسيسها، حيث الحزن الذى تطلع منه كوردة البهاء التى تحترم النبع بحثاً عن سقيا الروح، وتجترح الحرف بحثاً عن ياسمين المعانى العذرية،التى تجرح الماء باشتهاء الأنثى المتبدّى خلف ظاهر المعنى، فهى تتغيّا لبّ، ومكنون وجوهرلحاء الحزن، عبرعذرية المعنى، وبكارته، وطزاجته ،فنراها تجرح هدب الماء بغلالة شفافة،من شفة الحروف،وتتقصّد ذلك عبر الاطلاق والمصدرية،في لفظة ” تجريحاً”،لكنه جرح مكلومة،هى الجريحة الجارحة للماء المنساب من ملتقى حزنين كنهرين يجريان في روحها فيصنعان الأسطورة، ” أسطورة ” الالياذة والأوديسا ” – الذات – عبر قصة الانسان الأولى الكبرى : ” آدم وحواء”،”قابيل وهابيل “، لتدلف الى ” شهريار ” الحبيب الغائب الذى تبحث عنه ” الالياذة”،وكأنها تصنع الياذة الشوق، قصتها عبر قصة الحياة :العذرية والبكارة ، وانتظار حبيب لا يجىء ، تقول :
( هَبَطّتُ../ وَجْبَتِي الحَوَّاء تَحْمِلُ عُرْيَ أسْئِلَتِي/إلى زِنْدِيقةٍ../شَغَلَتْ أكُفَّ الأرضِ تَلْوِيحَا/ لهابيْلينْ../يعْتليان/لكن لا غُرابَ أَتَىٰ/لقابِيلَين.. /فوق النَّخْل ينتظِران تصْرِيحَا /مَنَحْتُ الشَّهْرَيارَ دَمِي/وَقَوَّسْتُ المَدى/وَرَميتُ/طَلَّقْتُ الظلامَ/المُرَّ/زَوَّجْتُ المَصَابِيحَا ).
انها اذن، تصنع الفرح للآخرين / وتنتظهر مجىء الحبيب المقصود عبر” أل ” القصدية، الاشارية،القصرية :” أسلوبية القصر ومشاهداتياته “:(الشهريار)، فهى: تعنيه بذاته، اذ هى حواء الجديدة/ شهرزاد المتصوفة التى أضافت لجبّتها “الألف واللام”التمايزيتين”،لتحيلنا الى فضاءاتها المتساوقة،والممزوجة مع قلب حواء/ قلبها،الباحث -عبر العالم- عن الحب و اليقين:” الشهريار،الذى قوّست له المدى/ بعد أن تقوس ظهرها مرن قبل في انتظاره، لذا نراها رمت بالسهم ، لا لتجرحه كجرح الماء الرقيق، – كما أسلفنا – ، بل لتلفت انتباهه اليها ، تصطاد روحه الهائمة ،ليخطفها الى عشّ لياليه السعيدة ، الدافئة ،فى” ألف ليلة وليلة”،وهى الشاعرة التى تهريق روحها لانتظارمعشوق غائب،حبيب تتبّل روحه بالبهارالكونىّ،وتعطّر أنثاها بمسك الزيتون،وسحر زيتونها الدرىّ الأشهى،لمجيئه الدافق ، تقول :
( أعمّد بهْرةَ الأَشياءِ /أستجلي حقيقَتَها /ومن زَيتونِها الدُرْي../ أرسُمُني تسابِيْحا /أُكَسِّرُ في رِقَابِ القَولِ.. / أقْرَاطَ الجَزَالَةِ / بلْأُ فَتِّحُ في مَجَازاتِي /غُمُوضَ الناي تَفْتِيحَا/لأشغلَ بَالكَ المَمْشُوقِ /في إزْهَارِ وَحْشَتٌه/فَيُرِهِقُنِي /حَدِيثُ الوَرْد/إمْلَاءً وَتَصْحِيحَا /وَسَامةُ مَنْطِقي الدِّرْويشِ /أجْراسٌ تُحَجِّلُنِى/ وَطَارُ المُسْتَحيلِ/يَدُقُّ في صَحْنِي الأمَادِيحَا ).
ان اللغة هنا تضجّ بالاشتهاء، لكنها تتخفّى خلف مكياج اللغة الدافى السيموطيقى،وتتمكيج الحروف ،لتخفى شوقها الزاعق اليه،تفضحها حروفها فتهرب المتصوّفة البتول، الرّسولة،الى فضاءات لغة التقصيد والترميز والتراكم،لتطلى لواعج الأنثى، تخييلاتها،أحلامها بالعذوبة،عبر سموق جمالى غاية في الروعة والابهار،وغاية في الترقّب والحذر كذلك، تقول :
( نُكَابِرُ.. /تَفْضَحُ الألواحُ /ما خَبَّأتُ مِنْ شَجَرِالكلامِ/وَيَقْتفِيكَ الغَيمُ إثرَ الغيمِ مَفْضُوحَا /أرَى البُؤسَاء../ مُذْ مَرّوا على “فيكتور” هَيَّجَهم- / حَنينُ الضحكةِ المَشْروخِ /يا “فالجان” مِرِّيحَا / ألمُّكَ مِنْ دَمِ الأيامِ /والعُصفورَ يَرْقبُنِي/ لِيعزفَ نَايهُ للغيب/باسْمِ الحُبٌّ مَذْبُوحَا/أرَبِّتُ ظَهْرَ قافيتين /- مَا نَاما على بحرٍ- / وإلَّا مَسَّدا لُغَتِي / بِدِهْنِ الدَّهْشَةِ المُوحَى ).
انها تعيد صوغ لغة الرومانتيكية من جديد، وتصنع من عصافير اللغة منطاداً لتطير متفردة في البهاء الجمالى، للصور التى تخشّ الى الروح مباشرة – دون مواربة – لكنها لغة سوريالية تجردها لعصفور روحها الذى بلّله القطر،فبات يتقلّى على الجمر، ويحتسى الفقد والمرار دون سقيا تبلّ الروح ، أو عزف يريح الرّتق للجراح الموزّعة على الجسد العاشق، المذبوح باسم الحب،وتجىء الصور كونية ، منمّقة ، تستلب القارىء لتوقف عنده بلابل الدهشة، فأى جمالية مموسقة نراها وهى تربّت ظهر قافيتين ما ناما على بحر،ويصوّحان بالصراخ لمشهدية تمسيد اللغة/الجسد ،بالدهن وزيت القلب المضىء من رهق وجيعته،وبعاده الأبدى ؟!! .
انها المرهقة حدّ الوجيعة،الصابرة،الصادحة،تتلحّف دفء الحروف،لتتقوّت الحب والحياة،وتغنى مع ” فيروز” للعشاق،بينما قلبها المضنى ينوح بالآه،ولنلمح تكثيف الصور المضيئة،وزهو المعنى ،وما تمتاحه خلف ظاهر الوضاءة الشعرية ، تقول :
( مَعِي صَبرانِ /ضَفَّرْتُ الدَّقائقَ في احْتِشَادِهما /بَخُورُ الوقتِ/صَندلُ فكرةٍ.. /فَرَشتْ لنا السُّوحَا/مِعِي فيروزُ /يَشْتعِل الصباحُ على ضِفَافِ مَدَائِني.. /أرْتَاحُ عندَ جَدائِل الذِّكْرى/َأغْزِلُها تَواشِيحَا /أَجِيئُكَ مِنْ مَغَاراتٍ تُغسِّلُ وَجْه قَسْوَتِها/وَتُرْسِلنَا مَدارا/تَلُفُّ بِثَوبِها الرِّيحَا مَدَدْتُ إلى قَنادِيلِي مرَايَانَا / فَلَمْ أرَنَا /فَلَقَّحْتُ المُنَى الخَضْرَاءَ/بالأضْواءِ تَلْقِيحَا).
انها تعبر الى جزائر الروح في تحنان ولطف، وتخش الى فراديس الجمال عبر مزهريات اللغة الزاهية ، الموحية، التى تستدعى معها طوفان نوح ، وتاريخنا الانسانى الذى يحمل الغواية والسحر،والأناقة التى تخاتلنا،فننداح معها حتى النهاية، تقول :
(على فلكٍ وطوفانين/تحملني نداءاتي/ونوحُ يشقَّ حلقَ الأرضِ/حتى يَلتقِي نُوحا/أرَاكَ أراكَ /حَتَّى لا أرَى إلَّاكَ /أغْرَقنِي/اشْتِهاءٌ رَفَّلَ الرُّؤيا/ لِيلقَى الحُبَّ مَنْدُوحَا).
انها الشاعرة التى تزغرد حروفها في دمنا،وتطنّ كمليكة النحل اشتهاء وقت التزاوج، اللقيا،الغرام حتى الموت،واللذة الصوفيّة الكبرى .ولنرى تواشج المعانى، والجموح لرغبة الحياة ، وتداخلية الحروف التى تصنع الحب، والدفء والولوج الى الأثير المشتهى الرقراق،عبر جزيرة الحزن:المذبح الشعرىّ الذى تتكسّر عليه الأحلام، فتقوم باستدعاء الأسطورة واستيحائتها،لتصنع المعادل الأسطورى/أسطورتها الحزينة الدامعة الدامية،عبر شجن المعانى الباذخة،الشاهقة التى تستقطب بوصلة الروح الى آفاق الولوج الى الحياة،عبر العبور الى المشتهى للحبيب الغائب ، الذى لايجىء، تقول :
أرَى “إلياذةً”
عَبَرتْ إلى رَغبَاتِنا حِيلًا
كآلهةٍ..
كأنَّ الحاءَ في الباءاتِ لا تُوحَى.
انها الشاعرة/ ابتهال محمد مصطفى تريتر، فراشة الشعرالسودانى المعاصر، تصنع عرائس فراتها بتدفّقات موج النيل الآسن،البوح اللذيد،الرغبة والتّوق المتلاطمين،والتصوير الجمالى البديع الذى يخشّ الى لحاء الروح ،ويجاوز المعنى وانزياحاته الشكلانية ،ليسبرغلالة حروفها النورانية،ويمكيج الروح الشفوقة الحانية،يطبطب عليها بدلال مموسق،لنلج معها الى فضاءات الكون والعالم والحياة .
حاتم عبدالهادى السيد
مصر – شمال سيناء – العريش -13ش الطائف – كرم أبونجيلة –ص.ب 68
Abdelhady.hatem@yahoo.com
01005762702/ مصر 002

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع