الصِّناعات الثّقافيّة .. تَسْلِيحُ الإبْدَاعِ أمْ تَسْلِيعُهُ؟

دراسة وصفية للباحث الجزائري الدكتور محمد العربي ولدخليفة

121
الصِّناعات الثّقافيّة .. تَسْلِيحُ الإبْدَاعِ أمْ تَسْلِيعُهُ؟
دراسة وصفية للباحث الجزائري الدكتور محمد العربي ولدخليفة
( الأدب الإحتجاجي ظاهرة انتشرت في الجزائر في نهاية السبعينات)

 

سال كثير من الحبر حول مشاكل الثقافة و علاقة المثقف بالسلطة و بالجمهور ، و وقع جدل بين المثقفين حول كل مايتعلق بالإبداع، إلا أن القليل منهم من سلط الضوء على قضية في غاية الأهمية ألا وهي الصناعة الثقافية و من يصنع الثقافة؟ ، هل الأديب المبدع سواء كان كاتبا،شاعرا، قاصا أو روائيا؟،هل الباحث الجامعي؟، هل الناشط الجمعوي؟، أم الثقافةيصنعها المثقف؟، فالكتابات عن الصناعات الثقافية باعتبارها إبداع شحيحة جدا، ماعدابعض الأقلام التي خاضت في هذه المسألة، و منهم الباحث الجزائري الدكتور محمدالعربي ولد خليفة الذي سلط الضوء على هذا النوع من الصناعات التي ترتقي بالفكرالبشري و ترفعه إلى مستويات عليا يسودها الوعي الذاتي و الجماعي مقدماالجزائر كنموذج، إذ يقول: إن عدونا الأخطر موجود فينا إنه التخلف و علاماته التيلا تخطئ تتمثل في السياسات الآنية و العشوائية و في ضعف التأهيل العلمي و التقني ونقائص التسيير و التنظيم

أراد الدكتور محمد العربي ولد خليفة أن يسلطالضوء على السباب التي جعلت الصناعة الثقافية في آخر اهتمامات السلطات العمومية،حيث بقيت الصناعة مقتصرة على بعض التجهيزات الدفاعية و المنشآت العمرانية طيلة العهد العثماني وضيعت ذخيرتها العلمية فلم يحجث اي تطور في وسائط النقل و النشر، فكانت الصناعةالثقافية وافد حديث العهد لولا حملة نابليون على مصر في اواخر القرن الثامن عشرلتقهقرت الثقافة إلى مستوى أدنى مما كانت عليه في مناظرات أهل الفكر و حوانيتالوراقين، فمصطلح الصناعات التقليدية بذأاستعمالها سنة 1947 عند علماء الإجتماعالألمان الذين اسسوا ما يعرف بمدرسة فرانكفورت و من أشهرهم أدورنو و هورخايمر وماركيوز و هيبرماس.

و قد ارتأى هؤلاء العلماء البحث عن الإنتاجالصناعي للسلع الثقافية، إذ يقول: أن إنتاج الثقافة بالجملة مثل السلع الواسعةالإستهلاك، سيقضى لا محالة على كل ما يتميز به الإبداع و الإبتكار من تفرد وحميمية ، لأن تصنيع المنتوج الثقافي و تسويقه بالجملة سيجعل من صاحبه مجرد قطعةغيار في جهاز ضخم، و هذا يعني ان الدكتور محمد العربي ولد خليفة ينتقد النظريةالألمانية، التي تجعل من الإنتاج الثقافي مجرد قطعة غيار توضع في سيارة أو شاحنةثم مع مرور الوقت تصبح هشّة وتصبح تعرف بالتقادم فلا تعد تصلح للإستغلال فيعمدصاحبها على استبدالها بقطعة غيار أخرى تكون أكثر صلاحية، هو الصراع طبعا بينالأصالة و الحداثة ، هو صراع الأفكار الحديثة و الميتة التي تحدث عنها مالك بننبي، و لتبسيط الفكرة أكثر، اعتمد الدكتورمحمد العربي ولد خليفة بنظرية “تايلر” التي ترتكز على خصائص عمليةالتصنيع التي طبقها في مصانع فورد للسيارات، حيث كانت المنطلق للثورة الصناعية فيالقرن العشرين.

فالتصنيع الحديث – كما يقول هو- يتطلب تجزئةمراحل إنجاز المنتوج و تعدد الأطراف المشاركة فيه و إخضاع العملية كلها إلى مقياسالإنتاجية، أي العلاقة بين كمّ و كيف المنتوج، و تحقيق ربحي في وقت قصير جدا وبأقل تكلفة، لكن السؤال الذي يمكن أن يطرح هنا: هل ينطبق هذا الوصف على الفكر؟ هليمكن أن يشترك فكرنا مع فكر الآخر؟ من أجل تحقيق منتوج فكري أو ثقافي موحد؟ فإنتاجسيارة مثلا في عالم الصناعة، يحتاج إلى مكننة، و إنتاج الثقافة يحتاج إلى مؤسساتقائمة كدور النشر و تفعيلها و عدم ممارسة عليها الضغط أو محاصرتها بقوانين قمعيةتعسفية من قبل “اللوبيات” حتىلا تتلاشى العلاقة بين المبدعين والناشرين، ويقارن الدكتور محمد العربي ولد خليفةبين نظريات علماء الإجتماع ونظريات علماء الإناسة و الإنتروبولوجيا الثقافية الذيناعترضوا على النظرية التايلورية أمثال “إيريك فروم” و “رالف لينتون” حيث وصفوا الثقافةبأنها أصلية autochtone أو تقليدية، إذ يقول أن هذاالكلام لا يعني أنها منعزلة و مفصولة عن الثقافات المجاورة أو البعيدة، و استدلالصاحب الدراسة باشكال التقارب بين الأممبسبب فرض أو تبنى مذهب معين أو ديانة أو ألسنة ( اللغة) يكشف على أن التبادلالثقافي هو القاعدة، و النتيجة هو تصحيح الفكرة القائلة بالثقافة البدائية التيشاع استعمالها بين علماء الإنتروبولوجية و الإثنوغرافيا في القرن التاسع عشر، إذرأوا أنه لا توجد ثقافة بدائية و إنما ثقافة بطيئة التغيير، أي ثقافة غير منتجة، وهذا لأسباب عرقية، تاريخية ، مناخية .

أما الإثنوسانتريةالتي يتبناها إلى اليوم كثير من الساسة و المفكرين في أوروبا و بلاد العم سام فلهاأطروحات مثيرة للجدل كصراع الحضارات و محاضرات بابا الفاتيكان، و التطهير العرقيالذي ادى إلى قتل السود و تعذيبهم في الولايات المتحدة و جنوب إفريقيا و المذابحالفظيعة في البوسنة و الهرسك، و من خلالورقة الباحث فالبعض يربط الثقافة بالتقنية بعد الانتشار الواسع للفضائيات و الشبكاتالمعلوماتية، لم تعد السلطة و الهيمنةتقتصر على أسلحة الدمار الشامل و الصواريخ العابرة للقارات، حيث تم تحويلالتكنولوجيا إلى منتجات ثقافية تخضع لمقاييس السوق الربحية، من أهم تلكالتكنولوجيات الصناعة السينماتوغرافية و الصحاف، ثم الحاسوب و الهاتف الجوال وغيرذلك، بالإضافة إلى ما يعرف في البلاد الإنغلوساكسونية بالثقافة السيبرية cyberculture.

الملاحظ و حسبما جاء في ورقة الدكتور محمدالعربي ولد خليفة أن الجامعات الإفتراضية التي تسهل التواصل المعرفي كانت موجودة قبل ظهور جائحة كوفيد 19 ، ما يؤكدأن التكنولوجيا هي في حدّ ذاتها ثقافة في عصر الإتصال و التقنيات، و هذا يعني أنالبلد الذي يفتقر إلى تكنولوجيا و يعتمد على تكنولوجية صنعها غيره هو بلد مستهلكمتخلف لا يبدع، مثلما نجده في الأدب، حيث أصبح المبدع عاملٌ له علاقة بالسوق ويتكلم بلغة السوق، فعندما يريد شخص طبع كتاب مثلا، يجد نفسه محاصرا بالمال لطبعكتابه، لأن دخله ضعيف كما أن دور النشر ترى الإبداع من زاوية “ربحية ” (كم تدفع؟)، و وجد المبدع نفسه في قبضةاستبداد يتربع على عرشه قلة من الأباطرة ، ما يجعل جمهرة القُرَّاء تنكمش ماعداالمنشورات الجامعية التي كان لأصحابها الحظ في طبع كتبهم

يشير الدكتورمحمد العربي ولد خليفة إلى الدراسات التي قام بها المفكر نعوم تشومسكي عن مسؤوليةالمثقفين محذرا إياهم من ابتلاع الآلة الصناعية الرأسماية للمبدعين و تحويلهم إلى مادة خام بلا موقف و لاقضية، هو ما نراح حاليا عند بعض المثقفين ، حيث باع البعض قضيته من أجل إرضاء فلانو علان حتى يحقق له طموحه و يقضي مصالحه،كما تحوّل بعض المثقفين إلى مدّاحين يمدحون هذا و ذاك و يلمعون صورته، لأن له نفوذوله سلطة القرار، و يكفي أن يغير موقفه و يبيع رسالته لكي يمنحه اعتماد أو يوقععلى وثيقة ترقيته، و أصبح السوق هو الذي يحدد قيمة الإبداع و يحدد من هو المبدع، يقدم الدكتور محمد العربيولد خليفة تجربة الجزائر في النشر، إذ يقول: “إن مؤلفات الكُتَّابِ les ecrivains الذين ينشرون باللغةالعربية أو الفرنسية في الجزائر لا يطبع لهم في الغالب أكثر من ألفي ( 2000) نسخةو نادرا ضعف ذلك العدد، هذا الأمر كما يضيف لم يحصل تداركه منذ السبعينات.

فماذا عن دور النشر اليوم؟ للعلم أن هذه الدراسةنشرت في جريدة صوت الأحرار لسان حال حزب جبهة التحرير الوطني في صفحة اتجاهاتمؤرخة في 20 جانفي 2009 عدد 3319، فلو أجرينا مسحة إحصائية بعد مرور 12 سنة من نشر هذهالدراسة، نجد أن بعض دور النشر في الجزائر اليوم تعاني من التضييق عليها لدرجة أنها أصبحت تشترططبع 100 نسخة فقط بالنسبة لكِتَابٍ من الحجمالمتوسط ( 180 أو 200 صفحة) و كانت إحدىدور النشر في الجزائر اشترطت على أحد الكتاب طبع 10 نسخ فقط مقابل مبلغ معين، لأن موضوع الكتاب من جهة سياسي و حسّاس جدا، و يخشى صاحب الدار منأن يورط نفسه في قضايا قد تسحب الجهةالمخولة منه الإعتماد أو تغلق مؤسسته و يصبح مفلسا بين عشية و ضحاها، و من جهةأخرى أزمة المطابع و غلاء اسعار الورق، و رواتب الفنيين الذين يسهرون على إخراجالكتاب و طبعه، و وجد بعض أصحاب دور النشر أنفسهم مجبرون على طبع كتاب”الجيب” فقط، بسبب قلة إمكانيات الطبع، خاصة دور النشر التي لا تملكمطبعة، هل السبب يكمن في اللاإستقرار التي تعيشه الجزائر؟ أم راجع إلى الأزمةالمالية؟ أم إلى تعنت السلطة في التضييق على دور النشر و المثقف؟، حسب الأرقام توجدبالجزائر أزيد من 300 دار نشر

الظاهرة التيتحدث عنها الدكتور محمد العربي ولد خليفة و التي تزايدت في الجزائر في نهايةالسبعينات هي ظاهرة إعادة تصدير المنتوج الثقافي من الخارج إلى الداخل و صنع معاملما وراء البحر، و ظهر ما يسمى بـ: ” الأدب الإحتجاجي” و خبراء إعادةاكتشاف جزائر ما بعد الإستقلال و ذلك بعد فشل اليسار الوطني أو على الأصح إجهاضه ،حيث ظلت قطاعات كبيرة من الثقافة في حالة جينية و تحولت الجزائر كلها إلى سوق لإستيراد منتجات ثقافية أو إعادة تصدير ثقافتهاالمعدة في الخارج ( هذه بضاعتكم رُدَّتْ إليكم) ، ما يلاحظ أن صاحب الدراسة تحفظعن الحديث عن حقوق المؤلف و لجان القراءة التي قال عنها بين قوسين (…) أنهاأحيانا تكون سرّية ، دون أن يوضح مالمقصود بالقراءة السرية ، اي قراءة صامتة دوننقاش؟ أم لأمور أخرى تتعلق بالسياسة ، كماتحدث الدكتور محمد العربي ولد خليفة عن ظاهرة “التهريب الثقافي” و تعميق الانشطار و هو كما يقول انشطارقائم على تصنيف سطحي و أحيانا إيديولوجي يقرن اللغة و الثقافة الفرنسية بالحداثة وغيرها من الألسنة و الثقافات.

و قد اهتمت عدة دراسات بالانشطارالثقافي جعلت العديد من أعيان النخبة الجزائرية يراهنون على مستقبل أبنائهم خارج اللسان و الثقافة العربية المتخلفة،الدراسة اختتمت بأن عدونا الأخطر موجود فينا إنه التخلف و علاماته التي لا تخطئتتمثل في السياسات الآنية و العشوائية و في ضعف التأهيل العلمي و التقني و نقائصالتسيير و التنظيم، للتذكير فقط فالدكتور محمد العربي ولد خليفة غني عن التعريف فهومفكر و باحث في مجال الفكر و الأدب من مواليد 1938 بتونس حائز على شهادة دكتوراه في علم النفس الاجتماعي، وهو مجاهد، التحق بالمنظّمة السريّة لجبهة وجيش التحرير الوطني فيسن مبكرة، شغل عدة مناصب منها مستشار للشؤون الثقافية والاجتماعية في حزب جبهةالتحرير الوطني ، كاتب الدّولة للثقافة و الفنونالشعبية ، كاتب الدّولة للتعليم الثانوي والتقني كما شغل منصب سفير لدى دولة اليمن و إيران .

ورغم مهامه السياسية لميتوان الدكتور محمد العربي ولد خليفة في متابعة البحث العلمي على مستوى الجامعة بصفته أستاذا و كذلك الكتابةمركزا اهتمامه على مشاكل الثقافة و الهويةباعتباره عضو باتحاد الكتاب الجزائريين و غيرها من المهامالتي مارسها كناشط سياسي ونائب برلماني عن حزب جبهة التحرير الوطني ، له عدةإصدارات في مختلف المجالات منها كتاب بعنوان “المجاهد معطوب حرب التحرير، “دراسة سماتالشخصية عند جنود جيش التحرير”و كتاب لنظام العالمي ماذا تغيّر فيه؟وأين نحن من مستجداته؟ و كتاب المسألة الثقافية وقضايا اللسان والهوية بالإضافة إلىالعديد من الدراسات على غرار دراسة حول مسار الأفكار في علاقتها باللسان والهويةومتطلبات الحداثة والخصوصية والعولمة والعالمية.وهو حائز على وسامالمقاوم .

قراءة علجية عيش مع بعض الملاحظات

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع