التاسع من شباط يمر حزينا كل عام والقتلة يمضون من دون عقاب

137
التاسع من شباط يمر حزينا كل عام
والقتلة يمضون من دون عقاب
لطفي شفيق سعيد

لم يستغرق حلمه سوى دقائق معدودات فقد تصور خلالها أنه قد سقط في الترعة وأن سيارة( الجيب) التي كان يستقلها قد انقلبت فأنهت حياته وطمر جسده بغرين نهر بما يشبه نهر ديالى ، كان يشعر دائما أن موته حالة معلنة منذ أمد بعيد ، لذلك فقد كان أحيانا يتحسس موضع قلبه ليتأكد بأنه لا يزال حيا وإنه يجلس في غرفته المتواضعة بمعسكر المنصور وأن أجله لم يحن بعد, وان ثلة القتلة لم تباشر بإطلاق الرصاص عليه, وأن البلل الذي أصابه هو من بسبب اجتيازه الترعة بسيارة (الجيب) وقت اصطحابه العقداء الثلاثة من آمري أفواجه ليكتشف طريقا أخرى توصله إلى هدفه بأسرع ما يمكن وأن الماء الذي غمر ثيابه لم يكن بمقدار مياه نهر ديالى الذي قد يغمر جسده بعد حين من الزمن, كما وأن جسده لا زال على حاله ولم يقطع إلى نصفين ويعبأ في كيس مع مجموعة من الحديد ،كما وأن الفصل كان صيفا قائظا ولم يكن شتاء زمهريرا وإن الساعة لا تشير إلى الواحدة والنصف من ظهر يوم السبت التاسع من شباط الأسود عام 1963 وهو موعد القتلة المدون في اللوح المحفوظ بل كانت الساعة تشير إلى الواحدة والنصف أيضا ولكنها من ظهر يوم الأحد الثالث عشر من تموز عام 1958 فشتان بين تلك الساعة التي أجهض فيها القتلة على الوطن واغرقوه بالدماء وبين تلك الساعة التي تهيأ فيها الثوار الوطنيون لإنقاذ الوطن وتحريره من ربقة الاستعمار. لقد تحدثت اليه في حينها وخلال تلك الأوقات العصيبة من ذلك النهار القائظ فلاح لي منتصبا شامخا وهو يقف على عتبة باب مقره في اللواء التاسع عشر وهو يتحسس جبينه براحة يده اليمنى و كان يردد بعض العبارات والتوجيهات المطلوبة التي تخص ما هو مطلوب مني , أختتمها بقوله (أريد أن آخذ قسطا من الراحة ) وكأنه كمن يتهيأ للمثول أمام ثلة الإعدام ، لقد كان بمقدوره أن يحسب الوقت المقرر لاغتياله لأن حالة استشهاده كانت ترافقه دوما وأن وابل الرصاص سيخترق بدلته (الخاكي) العسكرية والتي كانت لا تفارق مظهره على الدوام , و أن وقت التنفيذ لم يحن بعد, ولم يصدر الأمر لقتلة , ,ولم يغادر الرصاص فوهات بنادق القتلة كما لم يهيأ كرسي لإعدامه في صالة الموسيقى في دار الإذاعة وحيث أن بدلته (الخاكي) العسكرية المرقشة بالدم والرصاص والبارود لا تزال كما هي معلقة في أحدى غرف وزارة الدفاع وأن الرصاص الذي انطلق سابقا في ساحة الغريري والذي أصاب كتفه وساعده كان قد صدر من قتلة مأجوري آخرين ولم تكن هي النهاية.
ففي واحد من أيام سنة 1956 أتذكر أنني كنت أتطلع إليه وهو في داخل سيارته الجيب المنتصبة فوق أحدى تلال مدينة المفرق الأردنية عندما كان يحاول أن يستطلع طريقا آخر مختصرا يوصله إلى سوريا لكي يلتقي بمن سيتشاور معهم حول أمر مهم في نفسه ، كان متأكدا في حينها بأن القتلة سوف لن يطلقوا عليه الرصاص في ذلك الوقت على أقل تقدير وقبل أن ينجز مهمته الكبرى التي سيضحي في حياته من أجلها , كما وإن اختراقه لجبهة العدو الصهيوني في فلسطين واحتلاله مدينة كفر قاسم مضى عليه زمن طويل وإن ما شعر فيه في ذلك الوقت هو هاجس اعتقد خلاله بأن الرصاص الذي كان يتردد صداه في الفضاء والمصحوب بزخات المطر لم يكن موجها نحوه ولكنه مع هذا شعر كأن رصاص القتلة قد اخترق قلبه وهو مجرد حدس وتصور مسبق وأن عملية اغتياله مؤجلة لوقت آخر.
إن ساعة القتلة التي كانت تشير إلى الواحدة والنصف من ظهر يوم السبت الموافق 9 شباط عام 1963 هي نفسها الني تمر حزينة بمثل هذا التاريخ من كل عام. استرجعت خلالها تلك اللحظات الرهيبة والمصحوبة بالألم والمرارة عندما عصفت الرياح الهوج واكتسحت الأخضر واليابس وأنطلق عواء القتلة ليعلن بيان الإبادة الرقم (13) وعندها هرع الفقراء والبسطاء ليستطلعوا الأمر فوجدوا أن كل شيء قد أصبح خواء وأن الأرصفة والجدران قد اصطبغت بالدماء.
أما هو فقد كان يتوقع أن يأتي ذلك اليوم الذي سيقف فيه أمام ثلة القتلة حيث لم تكن في هذه المرة مجرد حالة مؤجلة بل شهادة معلنة أمام جميع من شاهده يقف منتصبا كالأشجار رافضا أن يعصب القتلة عينيه مؤديا تحية وداع لوطن جريح ومرددا الهتاف باسم الشعب فتسترجع صداه صالة الموسيقى في دار الإذاعة العراقية لتنقله إلى جهات الأرض الأربعة معلنة النهاية المحزنة لنصير الفقراء وآخر الرحماء في وطن ساد فيه الجبناء في ضل شباط الدم والعناء.

لطفي شفيق سعيد
التاسع من شباط من كل عام

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع