إنهم بذلك يقتلون الهايكو الوديع!!

1٬198

قبل أن اتطرق إلى مضمون ما جاء في عنوان المقالة علي أن أعرج على بعض الأمور المتعلقة بهذا النوع من الشعر والذي أطلق المختصون عليه وأقصد الشعراء اليابانيين (قصيدة الهايكو) والتي حملت نفس التسمية في جميع اللغات شرقية كانت أو غربية دون أن تترجم أو تعرب إلى لغاتهم الأصلية , لقد تجاوز عمر هذا النوع من الشعر منذ تداوله في اليابان أكثر من ثلاثة قرون ثم انتقل حثيثا إلى بلدان العالم الغربي كأمريكا وأوربا وكندا وفرنسا وغيرها من البلدان حتى وصل إلى العالم العربي ومنها سوريا والسودان ومصر والمغرب وبنسبة ضئيلة إلى العراق حيث اقتصرت دائرة معارفه على نخبة معينة اقتصرت كتاباتهم على مواقع الالكترونية وصفحاتها.

إن قصيدة  الهايكو وكما عرف عنها من خلال تداولها من قبل الشعراء اليابانيين منذ القدم وحتى وقتنا الحالي تتألف من ثلاثة مقاطع يتكون المقطع الأول فيها من خمسة مقاطع صوتيه والثاني من سبعة مقاطع صوتية والثالث من خمسة مقاطع صوتية وبإمكان الياباني صياغة قصيدة هايكو بشكل جيد ومتقن بسبب لغته  التي تتألف من 46 حرفا أساسيا ولا يرجع سبب ذلك لحروف اللغة الأساسية فقط بل يعود لأسباب أخرى منها كثرة المقاطع الصوتية والتي كان عددها في السابق 40 الف مقطعا صوتيا تم اختزلت لتصبح الفين ويتوجب على الياباني أن يتقن 1950 مقطعا ودون ذلك يعتبر أميا, إن ما تحققه تلك اللغة من إمكانية كبيرة تمكن الياباني أن يعبر عما يريد في قصيدته  بشكل سلس وذلك باعتماده على تلك  المقاطع الصوتية العديدة إن شاعر الهايكو الياباني بإمكانه كتابة قصيدته بكلمات قليلة تتضمن معاني واسعة ووافية , واضافة لكل ذلك فإن الطبيعة الغناء ومعتقدات الياباني المتعلقة  بفلسفة الزن قد وفرت له الكثير له  ليتقن ويصوغ أجمل قصائد هايكو وبذلك فقد اشتهر العديد منهم وأصبحت اشعارهم يتداولها الكثير من الناس بمختلف اللغات من خارج اليابان  بالرغم من مضي قرون عديدة على انطلاقتها هناك وبعكسه  فإن الشعراء ممن هم خارج بلد الأم اليابان كالغربيين والشرقيين فلم ترتق تجاربهم ومحاولاتهم إلى مصافي ما كتبه الكثير من الشعراء اليابانيين من مختلف الأجناس والطبقات رجالا ونساء حتى شمل ذلك بعض الامبراطوريين وزوجاتهم وحرسهم الامبراطوري  فكتبوا وألفوا مئات أو آلاف من قصائد الهايكو ولم تقتصر كتابة هذا النوع من الشعر على النخبة الراقية فقط فقد تداوله عامة الشعب من فلاحين وفقراء وفنانين رسامين وفنانات الذين كانوا يكتبون قصيدة الهايكو معززة بأجمل وابدع اللوحات حتى أن البعض منهم كان يدونها على الأزهار الجميلة وأوراق الأشجار العريضة التي تزخر فيها الطبيعة اليابانية ,إن الحديث يطول والشرح يتطلب الكثير لبيان كيفية صياغة هذا النوع من الشعر ولأجل تسهيل هذا المهمة يمكن للمتابعين أن يجدوا ما يرغبون لمعرفته ومتابعة ما كتبت عنه وعن نماذج مختارة من شعر أهم من كتب فيه من الشعراء اليابانيين والعرب والأجانب وذلك بمجرد الدخول إلى الكوكل وكتابة عبارة (شعر الهايكو)إن ما يهمنا الآن هو توضيح ما يعتمده شاعر الهايكو الياباني عند صياغة قصيدته وهو توفر ركنين اساسين وهما الحالة والوقت الذي تمت كتابة القصيدة خلالها ويقصد بها أي من الفصول الأربعة أو الكلمة الموسمية أشار اليها الشاعر في قصيدته وتسمى باليابانية (كيجو) والركن الثاني هو توفر حالة القطع في المقطع الثاني أي بين المقطع الأول والثالث ويشار اليها بنقطتين الواحدة فوق الأخرى أو بشرطة خط وتسمى في اليابانية الكانجي

إن الكاتب والشاعر في الجانب الآخر سواء كان من الغرب أومن الشرق يجد  صعوبة بالغة في محاكاة  الياباني في صياغة قصيدة الهايكو وذلك  لعدم امتلاكه تلك المقومات إضافة لوصلها متأخرا لهذه الدول ولم تظهر بشكل واضح إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945 وبعد انفتاح اليابان على العالم الخارجي والتعرف على ثقافتهم وما تميزت فيه من ابداعات والتعرف على أسماء شعراء مبدعين كبار (كالمعلم باشو وإيسا وبو سون وليو وان  صاحب التوهج العظيم وأكيكو يو ساتو أميرة الشاعرات اليابانيات وغيرهم الكثير من الرجال والنساء ), وبالرغم من ذلك الانفتاح والتعرف على ما كتبه الشعراء اليابانيين من قصائد هايكو والتي لا تعد ولا تحصى إلا أننا  نجد إن الكثير مما ترجم من شعر الهايكو لكبار شعراء اليابان يصعب الوصول إلى معناه الكامل وقد يكتنفه بعض الغموض بسبب عدم ترجمته حرفيا ولسعة مفرداته ومقاطعه الصوتية التي لا وجود لها في اللغات الأخرى.

هذه باقة لبعض ما قيل في وصف شعر الهايكو:

يقول باشو: ليس هناك موضوع لا يناسب قصيدة الهايكو فالتقاط اللحظة الممتزجة بالاستبصار والاستنارة تتأتى من قلب جريان الزمن.

كما يقول: لا ضير أن تكتب العشرات من قصائد الهايكو والمهم أن تكون واحدة منها جيدة.

كما يقول باشو أيضا: يا لروعة من لا يضن أن الحياة زائلة حين يرى وميض البرق

ويقول شاعر الهايكو الياباني المعاصر بانيا ناتسو يشي:

الهايكو ليست بقصيدة فكر أو معنى بالمفهوم الشائع للمعاني وإنما هي باعثة على التفكير والاحساس العميق الذي يكاد يكون فكرا مخترقا للروح, ويضيف الهايكو ثمة عالم أصغر يحتوي عالما أكبر لا في حجمه بل في اشاراته.

الشاعر الإنجليزي عزرا باوند يقول بهذا الصدد: الهايكيدة حركة حاضرة من وعي الشاعر, هي لحظة أخرى في مكان آخر أو في زمان آخر للوراء نحو الماضي أو للأمام نحو المستقبل.

تقول الأستاذة الدكتورة والشاعرة بشرى البستاني بصدد الهايكو:

الهايكو إنها ليست عملية ممهدة ولا يسيرة بل هي طريق محاط بالمكابدة والمعاناة من أجل خلاص الروح والعقل والجسد فأما هايكو عربي ذو حركية جمالية وقيمية جديدة وأما المغادرة خارج النموذج ,هايكو قائم على احتواء متناقضات تمثل الحياة برمتها وهي السكون الذي تمرح في داخله حركية تعمل على اطلاق الرؤيا والانفتاح الدلالي الذي يثير الدهشة.

يقول الشاعر والناقد هيدغر: إن ما بين الخيط الأسود والأبيض هو الوجود خاليا من الأسماء كما ننظر اليه بعين الطفل أو بعين فنان في ليل الوجود وقبل أن تتخذ الأشياء اسماءها.

يقول الكاتب (بيلي كولتز) في نقده لكتاب هايكو إنجليزي في اعوامه المائة الأولى

أحب التفكير في الهايكو بوصفه أداة تحطيم للحظات تخرج منها لحظات قوية حاملة من الوعي ما هو كفيل أن يأخذ بالألباب.

أقول أنا : إنني عندما أصل إلى الانتهاء من مقطع واحد وبعد معاناة أشبه ما تكون بمعاناة امرأة خلال المخاض وبعد أن تمتلأ كراستي بالعديد من الكلمات المشطوبة والمبعثرة ولا انتهي منها إلا بعد أن أسمع المقطع لجليسي أو جليستي واحيانا أجد من يعترض عليها وعندها اعيد النظر بالمقطع مرة أخرى.

ولأجل أن نصل سوية إلى ما ذهب اليه الأوائل والحاليون حول مفهوم وصياغة هايكو عراقي رصين والتعرف على سبب عدم الوصول إلى هايكو يرتقي إلى المستوى المطلوب نقول: إن المشكلة تكمن في أن الغالبية ممن اختار الهايكو من العرب وبالأخص العراقيين منهم قد مارسوا لعبة ترادف المعاني واقتصر عطاءهم على ما يسطرونه على الورق بعد حذف بعض المفردات أو تغيرها للوصول إلى قناعة خاصة بهم قد لا تقنع القارئ ولا تحرك عنده ساكنا أو أي نوع من المشاعر وكيف لو كانت تلك المقاطع مقتبسة شكلا من اليابانية ولا مضمونا ولا تعتمد بالأساس على شد انتباه المتلقي واحاطته بالدهشة التي يطلق من بعدها عبارة (آه ما أروع هذا!!),

في كتاب (صوت الماء) وهو أقدم كتاب في تاريخ اليابان ورد فيه ما يتعلق بشعر الهايكو العبارة التالية (بالرغم من الاختلاف الشاسع بين اللغة اليابانية واللغات العالمية الأخرى فإن هذه المسافة بالإمكان طيها ويمكن لشعراء الهايكو خارج اليابان وضع قواعد خاصة مع الحفاظ على روح الهايكو وجوهره الحقيقي في التعامل مع الأشياء).

ونرى أن من أهم القواعد الخاصة التي يجب أن يتبعها من يحاول أن يكتب قصيدة هايكو هي:

  • التركيز على مسألة انفجار لحظة التجلي والدهشة.
  • قدرة الهايكو الغامضة على احداث تحول مفاجئ في وعي القارئ .
  • عدم استخدام عبارات التشبيه والاستعارة في الهايكو عند المقارنة وأن لا نقول إن هذا الشيء يشبه كذاك الشيء ,إن الأشياء في الهايكو ببساطة هي نفسها فالقمر هو القمر والنهر هو النهر والفصول الأربعة هي ذاته وبمسمياتها وليس غيرها.
  • العبارة في الهايكو خالية من الزخرف اللغوي والاطناب.
  • التأثيرات المذهلة تنجم عن الروابط الفورية بين الطبيعي والمصنوع مثال على ذلك حالة رفع العين أو النظر عاليا لاقتناص مشهد ما مما يحقق مبدأ المباغتة كقول (أرفع رأسي عالية….)أو التأثير بمشهد ينقل حالة عدم الأدراك في بادئ الأمر مثال على ذلك (هل انها ورقة شجرة تسقط / كلا إنها فراشة

نعود إلى المشكلة التي تأخر بسببها انتشار قصيدة الهايكو في الوسط العربي والعراقي خاصة و مدى تقبل المتلقي لهذا النوع من الشعر وبالأخص من تعود على قراءة وسماع الشعر القديم العمودي والمقفى والذي تصاحبه حالة من التطريب والألقاء الحماسي وتحريض السامع على أحداث معينة وما يتعلق بشؤونه وهمومه اليومية وما يؤثر فيه ويتأثر بها من مفردات لن نجدها في قصيدة الهايكو الذي اشتهر في الأساس على محاكاة الطبيعة وفصولها الأربعة وعدم الاستطراد في الوصف والعبارات الرنانة, لذلك فقد أخذ البعض يخرج من السياقات المتعارف عليها في كتابة قصيدة الهايكو مما جعل هذا النوع مما يكتبه هؤلاء يتراجع ويتدنى حتى وصل الحال ببعض ما كتب ونشر على المواقع الألكترونية لا يمت بصلة بقصيدة الهايكو اطلاقا بل تحولت إلى مفردات تقلد ما ذهب اليه الشاعر الياباني في نظمه ضاربا عرض الحائط الأسس والضوابط المهمة التي يحتاجها الشاعر والناظم لقصيدة الهايكو المقبول . لقد حاولت صحيفة المثقف قبل فترة من الوقت أن تساهم في رفع مستوى المحاولات التي يبديها بعض الكتاب والشعراء لكتابة هايكو عراقي رصين ينسجم مع ما يصدر في انحاء مختلفة من العالم والذي أخذ مكانته المرموقة و لشعراء يشار اليهم بالبنان  ,إن صحيفة المثقف الالكترونية قد خصصت بابا لشعر الهايكو بأشراف بعض المختصين من شعراء ونقاد إلا إن هذا التوجه سرعان ما خفت حدته وتوهجه وابتعد الكثير ممن ساهم في دعم هذا الباب ولم يبق إلا القليل ممن يكتبون ولفترات متباعدة ولم ترق محاولاتهم إلى المستوى المطلوب ولم يبدر من إدارة المؤسسة أية بادرة للتشجيع وتخصيص جوائز للمبدعين بعكس ما ذهبت اليه إدارة صحيفة الفكر ومركز النور للثقافة التي خصت  شعراء الهايكو بالمشاركة بانطلاقة جائزتها السابعة للأبداع لهذا العام ويمكن اعتبار هذه الخطوة جيدة وصحيحة لتشجيع من يكتب هذا النوع من الشعر وخاصة عندما تكون تحت اشراف لجنة عليا لدراسة تلك المساهمات يكون هدفها اختيار الجيد والذين هم على جادة الصواب من هذا الشعر السهل الممتنع .

إن غياب وتراجع من كان يساهم في الكتابة في صحيفة المثقف لدرجة اصبح ما يصدر عنها هو النزر اليسير وقد يكون احيانا خاليا من كل ما له صلة بقصيدة الهايكو ومما يؤسف له أيضا  أن من يمتلك القدرة على تبني مهمة وضع قصيدة الهايكو على طريقها الصحيح لا ينبري ويتصدى لتلك المحاولات الخاطئة  ولا يشير الى مكامن الأخطاء أو التجاوزات على روح الهايكو الوديع بالرغم من امتلاك تلك النخب المقدرة الكافية على النقد البناء والعمل دون سقوط مثل هذا النوع من الشعر صريعا بأيدي من لا يحسن التعامل معه بل أن الواقع يشير إلى عكس ذلك فقد تنهال عبارات المديح والاشادة بما يرتكبه البعض من أخطاء وتنحصر مجمل التعليقات حول شخص الكاتب دون الأخذ بنظر الاعتبار ما يقترفه ذلك الشخص من هفوات لا تغني ولا تنفع في صياغة هايكو عراقي جيد وقويم.

من منا لا يتذكر أو لم يقرأ الكثير مما كتبه الشعراء الافذاذ  من شعر الهايكو الذي تمتلأ فيه المواقع الالكترونية العديدة أضافة إلى الاصدارات الكثيرة وما نتج عنها اقامة الندوات وتأسيس النوادي الخاصة لشعر الهايكو والذي تعدى عدد أعضاء منتسبيها  الألاف وكذلك ما صدر من توصيات عقدتها مؤتمرات هنا وهناك في المغرب والسودان وغيرها من البلدان ومن منا لا يتذكر قول المعلم الكبير لشعر الهايكو الياباني ( ماتسوو ماتو فوسا) والمختصر باسم (باشو) حينما ما كان يسير مع أحد تلامذته العشرة المدعو(كيكاكو)عبر حقل رز وقد الف تلميذه هايكو وأطلع استاذه عليه وبالشكل التالي:

أقتلع زوجا من أجنحة / يعسوب/ ستحصل على قرن فلفل

فقال له باشو في حينها : هذا ليس هايكو أنت قتلت اليعسوب وعليك أن تقول:

أضف زوجا من الاجنحة / إلى قرن فلفل وستحصل/ على يعسوب

وعلى من يريد أن ينظم قصيدة هايكو واحدة جيدة عليه أن يتبع تلك الارشادات التي قدمها الينا الأساتذة الأولون من شعراء الهايكو اليابانيين وكذلك إلى ما أشار اليه سدنة الزن سابقا بقولهم ( إن هايكو واحدة من كل ثلاثين هايكو تمثل معدلا جيدا)

ومن هذا المنطلق لا أغالي القول عندما أدعي بأنني قد وضعت تلك النصيحة في حسباني عندما أنجزت ما يزيد على الف هايكو عراقي تم نشره على موقع صحيفة الفكر وحققت ما أصبو اليه وهو أن تكون مائة أو مائتين من تلك المجموعة جيدة ترضي وتقنع القارئ العربي والعراقي على وجه الخصوص

توفي باشو فقيرا وفي كوخ متواضع استلهم قصائده العظيمة من تلك الكوخ ومن الطبيعة الخلابة وتعتبر قصيدته الضفدعة الضربة الموفقة في تحريك الراكد وانطلاقة لتأمل الطبيعة الخلاقة ,  لقد توفي باشو اثناء احدى رحلات التأمل تلك وفي ليلته الأخيرة خط بيت هايكو على أحدى أوراق الأشجار هو:

مسافر مريض/ أجتاز في احلامي/حقول الأعشاب الذابلة

حبذا لمن يحاول كتابة هايكو جيد أن يسير على خطا باشو ولو بتأني كي لا يقتل هذه الروح روح الهايكو الوديع.

ملاحظة خارج التغطية/ إنني اعتذر من ناسي وأحبتي العراقيين وأخص منهم بالذكر البسطاء والفقراء والمهجرين والمهاجرين الذين إنكوا بنار الارهاب بمختلف اشكاله وصنوفه من المفسدين ودهاقنة الفساد وعصابات الجريمة المنظمة وحالات الخوف من النار وطوفان ماء السماء ,أعتذر من كل من لا يهمه هذا المقال من الذين انشغلوا بهموم الوطن الجريح ولكن لكل حادث حديث.

 

لطفي شفيق سعيد

رالي في 15 نيسان 2019

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

آخر المواضيع