إليكِ

343
إليكِ
سناء جديدي

 

فتحت عيني على هذا العالم و أنا بين يدين حنونتين، لم يكن ملمسها ناعماً كما خيّل لكم، فأمي امرأة كادحة أمضت فترة شبابها في مساعدة أبي في خدمة أرضنا، و ما أشدّ تعلقها بالأرض.
كانت ترفض رفضاً مطلقاً الانتقال إلى المدينة رغم إلحاح والدي، سكان القرية جميعا يبحثون عن فرصة لترك القرية إلاّ أمي.
كانت كلما فاتحناها في الموضوع تكتفي بالصمت، نحاول استنطاقها لكنها تأبى ذلك و تكتفي بتحويل بصرها نحو الحقل، و مع ذلك يمكنك أن تفهم من نظرتها تلك فيم تفكر، نفهم من ملامحها شيئاً واحداً أن هذه الأرض قد عايشت كل تفاصيل حياتها حتى أن تعب الأيام قد انعكس على وجهها.
رغم تعب شبابها كانت دائماً تردد بعض العبارات التي ظلت راسخة في ذاكرتي” الجسد متعب لكن القلب الشغوف يستمد قوته من خصوبة الأرض و ثرائها “.
ولدت في شهر حزيران، تقول أمي بأن ولادتي كانت صعبة على عكس بقية إخوتي، و هي حتى اليوم تنعتني بالمدللة، لقد كنت أكثر أبنائها تطلباً كما أنني قد بليت منذ ولادتي بمرض مزمن، كنت أشعر أني سبب شقائها مع أنها لم تبد ذلك إطلاقاً، كانت كلما نادتني أو اقتربت مني يذهب فكري بعيداً و أتساءل ماذا كان سيحصل لو لم تكن أمي هي أمي؟
كنت على ثقة تامة بأن جميع الأمهات يحببن أبناءهن لكن ما كنت أرضى بغير أمي بديلاً .
كنت أكتم ذلك الكلام كما لو كان سراً و لا يحق لأحد أن يسمعه، إن عاطفتي تجاه أمي تبدو مختلفة، و حبي لها ليس حباً عادياً، كل الأطفال يحبون أمهاتهم لكن ما أشعر به تجاهها أكثر عمقاً، حتى بت أتساءل عن سر هذا الحب و عن سر جمال الأمهات و ملائكيتهن، في الحقيقة لم أجد إجابة شافية و كل ما يمكن أن أقوله أنها لم تؤد واجب الأمومة فقط بل تعدى دورها ذلك فقد حاولت قدر الإمكان أن توصد أبواب الحزن حتى لا يتسلل إلى قلبي .

سناء جديدي
مؤلفة و كاتبة صحفية تونسية
مديرة مكتب الاتحاد العالمي للمثقفين العرب في تونس

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المقالات