إشكاليّة المثقّف والحداثة

203

إشكاليّة المثقّف والحداثة

بقلم :رنا يتيم – لبنان

 

بطيئة كانت عجلة التاريخ فيما يتّصل بالابتكارات، والتحديثات. ثم كانت الثورة الصناعية، بمآزره فكريّة فلسفيّة، تلتها فتوحات سيكولوجيّة، ثم انفجار تكنولوجي، لا حدود لشظاياه المخترقة للبديهيّات، وكأنّ العالم اليوم يمشي في عربة بلا مكابح.
لطالما كان المثقّف جزءًا من كلّ هذا، صانعًا للحظته، مشاركًا في رسم المشهد، مبدعًا في تصويب المسارات، وعميقًا في استنتاج الآتي من الاختراعات، ومآلات الحيوات القادمة.
اليوم تمدّد المثقّف ليكون مهندسًا في شركة “تويتر” أو مبرمجًا في “غوغل”، أو مصمّمًا في “أدوبي فوتوشوب”. تحوّل الفنان، والأديب، والمخترع إلى فاعل محترف، خلّاق، يذهب إلى عمله بصفته الاحترافية، وليس بتوصيفه القديم كـ “مثقّف”، مختلف عن العوام، ذلك أنّ الحداثة وما بعدها أعادا خلط تلك التعريفات، لنكون جميعنا نخب في أماكن، وجميعنا عوام في أماكن أخرى، على حسب الاختصاصات التي يفلح فيها المرء.
مع ذلك، لم ينغمس جميع المثقّفين في سوق العمل، بشتّى ميادينه التكنولوجيّة والأكاديميّة، فبقي بعضهم كلاسيكيًّا بمظهره (اللحية، الشعر الطويل، النظارة، القبعة، الصحيفة) وحافظوا على مراكزهم المعتادة، سيّما المقاهي المشرعة للنقاشات والثرثرات حول فناجين القهوة.
لا نقول أنّه نموذج بائد، لكنّه غير متوائم وروح العصر، حيث توظيف الكلمة في مستقرّات جديدة، والرسم في ميادين حديثة، والأفكار في أوعية حاضنة، فاتحة ذراعيها لكلّ مجنون مدهش، ولذلك لم تعد البيوت كما كانت، ولا السيارات، ولا الهواتف، أو الآلات.
هكذا سبقت الحداثة، تلك الفئة المُنظِّرة لها. بحيث صار المثقّف يرى، ويعلّق، ويستنتج، بينما المترو يمشي بسرعة جنونيّة، والطائرة تخترق جدار الصوت، والماكينات تطرح المنتجات والسلع غير آبهة بذلك المثقّف المتابع، وكأنّه متفرّج في صالة سينما.
لا شك، سيبقى للّوحة رونقها، وللقصيدة جوهرها، وللرواية عمقها، والمقالة سحرها، لكن المثقّف سوف يكون في مكانه الطبيعي، حين يشبه زمنه، فيسبق القطار، ولا يتعامل معه كراكب في إحدى محطّاته.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع