إشكالية الحداثة في مجتمعنا العربي

492

نبيل عودة

 

يتهمني بعض ناشري الشعر والنقد ومختلف أنواع الأدب باني فقدت البوصلة الثقافية، ولم اعد اجاري عصري، ومن هنا نقمتي على ابداعات الأدب الحديث، او ما يطيب للبعض ان يسميه بالحداثة الأدبية، وحالهم كمن يعلن رسميا انه لا يفقه الف باء الحداثة ومصادرها الفكرية والفلسفية .. واحدهم لم يتردد ان يعلن ذلك عبر موجات الأثير بلقاء ادبي لا ادب فيه، وبثرثرات مقاهي بين واهمين انهم باتوا من شعراء وكتاب العصر.

أسوأ ما في هذا الأسلوب توجيه الاتهامات، إدانة المتهم وهو لا يملك حق الرد.

موقفهم لا يعني لي أي شيء جديد، انما اتعامل معه كإعلان شخصي للغباء، خاصة عندما يصرون على اصطلاح “الحداثة” حين تطبق على نصوص أحيانا من الصعب اعتبارها ابداعا ادبيا بل محاولات لكتابة ادب، واكثرية تلك النصوص تطمح لأن تكون شعرا. يبدو ان صياغة الشعر لا تحتاج الى شخصيات قصصية وعقدة قصصية ودراما وحوار بل مجرد أسطر مرتبة بصف عسكري، ولا بأس من عدم تواصل الفكرة بين سطر وآخر. دائما يوجد الناقد الذي يفسر ما لا يفهمه ولم يعنيه صاحب النص.

قمة الغباء ما قاله أحدهم بأن مشكلتي أني لم استوعب الحداثة وتفاعلاتها في الادب الحديث. لكن ليته يشرح للقراء مفهومه للحداثة او مصدرها الفلسفي، وعلاقة الحداثة بالتطور الاجتماعي، الاقتصادي، العلمي، الثقافي، وبحرية التعددية الفكرية وسائر الحريات. هذا ما نفتقده بشكل مطلق في واقعنا العربي، لو جرى الحديث عن الحداثة في الأدب العبري كنت سافهم ذلك. للأسف هناك ظواهر سلبية تلقي ظلالها على مجتمعنا العربي داخل إسرائيل رغم التغيرات العميقة الثورية التي حدثت خلال العقود الماضية، بعضها نتيجة سياسة التمييز العنصري والخنق الاقتصادي للمجتمع العربي الذي تمارسه السلطة الإسرائيلية، وأكثرها تأثرا وتقليدا للفكر السائد بالمجتمعات العربية والخلل البنيوي للواقع الاجتماعي، السياسي وتأثيره على حرية الابداع وحق التعددية الفكرية والثقافية.

عدا القلة من المبدعين يكاد يكون غياب كامل للأعمال الأدبية المثمرة على صفحات الجرائد والانترنت… واعترف اني حين عملت نائبا لرئيس التحرير ومحررا ادبيا في صحيفة “الأهالي” رفضت بقوة نشر اي عمل ادبي مما يسميه البعض بأدب الحداثة، لأنه حسب فهمي يفتقد ليس للحداثة بل للإبداع الحقيقي.

 اتنازل عن تقديم نماذج، حتى لا ادخل بصراع شخصي. وامل ان يهتم الادباء الناشئين بتطوير فكرهم الثقافي وقدراتهم الإبداعية ولا يتوهموا ان إطلاق صفة الحداثة ترفع من شأن ما ينشرون.

في التلخيص النهائي اقول ما يلي: الحداثة او حداثة ما بعد الحداثة … هي تعابير عقيمة لأنها أُخرجت من مسارها. الحداثة هي عملية تنوير اجتماعي، ثقافي وفكري. مجتمعنا، وكل المجتمعات العربية عامة، ما زالت على ضفاف الحداثة، وعدا بعض المثقفين … والقليل من الأدباء المبدعين، ما زلنا اجتماعيا وفكريا نعيش في مجتمعات تحت سيطرة او تأثير وتحكم الفكر الاصولي المتطرف. حتى على المستوى السياسي تتحكم بمجتمعاتنا قوى تفتقد للتوازن السياسي، الفكري والثقافي.

 السيطرة للأسف ليست لحركة الاصلاح والتنوير العربية، انما للقوى الظلامية … ما زلنا نبحث ونتعارك حول السماح للمرأة بقيادة السيارة … وحول اجازة الاعمال الأدبية، وحول السماح بتعليم نظريات علمية تنسف الغيبية الدينية، وحول اصلاح التعليم وتحرير عقل الطالب من اسلوب التلقين والايمان الاعمى بلا وعي، وما زالت مجتمعات العالم العربي، رغم ثرواته الهائلة، في أدنى مستويات الفقر، وتعاني من انتشار هائل للأمية. قبل سنوات قال الشاعر المصري عبد المعطي حجازي، بان من لا يعرف استعمال الحاسوب هو أمي. مثلا نسبة مستخدمي الانترت في العالم العربي منخفضة بالقياس مع الدول الأجنبية، ما عدا السعودية التي تتجاوز نسبة ال 70% نجد ان سائر الأقطار العربية وعلى راسها مصر لا تتجاوز ال 20% -40%، والمعروف ان السعوديين هم أفضل زبائن للمواقع الجنسية في الانترنت!!

لو راجعنا الوضع في الدول المتقدمة مثل اليابان والدول الأوروبية وامريكا لوجدنا النسبة تتجاوز ال 80% وبعض الدول تتجاوز نسبة ال 90% اليابان مثلا، اما في إسرائيل النسبة تتجاوز ال 80%. واعتقد ان الحاسوب اليوم اضحى ضرورة لكل بيت ولكل انسان. نسبة ال 80% لا تشمل كما اعتقد شريحة من العجزة والعاجزين بكل انواعهم. وربما نجد مثلا في مؤسسات مختلفة أجهزة للاستعمال العام للنزلاء.  في كل بيت في إسرائيل يوجد أحيانا حاسوب لكل شخص، للزوج، للزوجة وللأولاد.

الحاسوب سهل إمكانيات النشر، ما لا تنشره الصحفة او الموقع فالفيسبوك الشخصي هو البديل. لذا أرى تراجعا بالمضامين والمعاني والصور الشعرية وفن الصياغة الأدبية عامة. هذا ليس دليل الحداثة انما دليل انفصام ثقافي مع مجتمعنا. ان ثقافة الحداثة اعزائي الادباء لا تجيء ببضع خربشات شعرية او نثرية او نقدية، انما هي معركة تنوير ما زلنا على ضفافها … استغرقت اوروبا مئات السنين من الصراع مع الاصولية المسيحية للقرون الوسطى، ومع ذلك ما زال الغرب يعاني من ازمة معنى الحياة ومعنى الوجود، مما يعني ان التطور الاقتصادي والأكل والمشرب والمتع الجسدية، ليسوا كل شيء، وهي مشكلة تختلف مع مشكلة الانسان العربي، الذي ما زال يبحث عن اشباع جوعه اولا.

ان المحاولة للتقدم دون فهم اهمية عصر التنوير الذي حرر الانسان من التخلف الاجتماعي والعلمي والقوى الظلامية، ووضع مستقبله بين يديه، وغير اولويات حياته، وحرره من القيود على تطوير الفكر والعلوم والاقتصاد والثقافة وضاعف اوقات راحته وقدراته الاستهلاكية بمختلف انواعها، هي محاولة عقيمة ومحكومة بالفشل.

nabiloudeh@gimal.com

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

آخر المواضيع