أُمهات للإيجار(حدث ذلك سنة 2024)

418

كانت الجدة الكبيرة تستند على الجانب الأيسر لباب المنزل الخارجي المفتوح على آخره , ومن الواضح إنها تنتظر أحدا أو أمراً  ,  كفها اليمنى معقوفة الى باطنها وغائصة في خاصرتها  اليمنى . وكان الاهتمام يفرش سجادته على وجهها بأكمله وخاصة عينيها العجوزتين واللتين رأتا من الدنيا الكثير . اسمها حسناء وقد تعدى عمرها الثمانين , غير إن ذلك لا يبدو عليها فالطب قد تقدم كثيرا مما جعل متوسط الأعمار في ازدياد مطرد . سرحت بفكرها في عدة مسائل … استغرقها الموقف لذا تذكرت حكاية سمعتها من أُمها في طفولتها … كانت أُم حسناء وهي صبية تسكن إحدى النواحي على أطراف الريف مع أسرتها ومع إن زوجها معلم في مدرسة الناحية الا إنها لم تكن تعرف كل شيء عن الحياة الطبيعية حيث كانت غالبية الأُمور تعد من المحرمات التي لا يحسن الخوض فيها بحضور الأطفال والنساء على خلاف ما هو عليه الآن  . حدثتها أُمها ذات صباح وكانوا في زيارة الاسرة الكبيرة على مشارف الريف حدثتها يوم أصابها فزع كبير إذ مرت بقرة كبيرة بقربها , طمأنتها أمها و أخبرتها إن البقر مسالم .. ثم سرحت الأم بعيدا مما أثار انتباه حسناء فسألت أُمها أين سرحت بفكرها أجابت الأُم كانت لدى جارتنا أم محسن بقرة كبيرة تدر عليهم من الخير الكثير ومن ريعها وحليبها يعيشون تقريبا فلا مورد آخر لهم الا أرضا صغيرة منها طعام البقرة ومنها شيء من غذاء العائلة , استأنفت أُم حسناء ذات يوم وأنا وابنتهم حفصة كنا نلعب قرب البقرة فما كنّا نخاف منها … رأينا أبا حفصة يتقدم من البقرة ومعه رجلان يلبسان فوق ملابسهما معطفين أبيضين تقدما نحو البقرة وبينما أصغرهما انهمك في التربيت على ظهرها وعنقها أدخل الآخر حقنة كبيرة الى جوفها . وبعد أقل من عام كان للبقرة عجل جميل أحببناه تماما ولعبنا به ومعه ردحا من زمن .  عادت حسناء الى الواقع وهي ترى حفيدتها تعاني قلقا مبهما يستفزها فيفارقها الصبر لذا تلوذ بالحركة فتظل تذرع الغرفة ما بين النافذة والباب ذهابا وعودة . حفيدتها سحر التي نشأت يتيمة الأبوين في حضنها بعد أن قتل والداها معاً في حادث مروري . فهي تقيم معها في نفس الدار , وهي زوجة مذ عشرة سنوات لرجل يشتغل آونة ليتعطل اخرى  فقد كانت البطالة من نصيب العمال عموما وعمال الحقول خاصة وهي تتكرر وباطراد بسبب استعمال المكننة الزراعية  فما كان الرجل يجني ما يكفى الاسرة الصغيرة … حتى معونة الدولة للعاطلين عن العمل – التي شرّعت مؤخراً – ما كانت تسد كل الاحتياجات وبما إن جدتها تبلغ من العمر حد العجز وإن ظلت تحسن بعض الشيء القيام والقعود والتجول في أنحاء المنزل كلما أحست بالخدر أو الضجر لذا غدت سحر بمثابة ممرضتها الخاصة وخادمتها في نفس الوقت كما هي حفيدتها ولم تكن سحر قد أنجبت بسبب من زوجها المريض من جهة والفقير فلا يستطيع أن ينفق على  علاج ولا على أطفال . صبرت المرأة دهرا وها هو الفرج أخيرا يقرع بابها . كانت المرأة الشابة  تتمشى في الغرفة الرئيسة في المنزل  وهي غرفة تستعمل لأغراض شتى  , منها استقبال الضيوف ومنها الراحة وفيها تتلقى الجدة الكبيرة علاجها كلما زارها طبيب العائلة الذي يرعاها بموجب القرارات الرسمية . عادت الجدة تنظر للطريق بلهفة  ثم تذكرت أبناءها الذين تفرقوا أيدي سبأ في المعمورة فقد شدتهم وشتتهم رياح الغربة التي تعبر بسفنها البراقة السماء الدنيا لتغري الشباب بأشرعتها الهفهافة وبالوناتها الملونة . وفجأة تذكرت حسناء ما اقترحته زميلتها في الجامعة وهما في السيارة التي تدرج بهما في طريق العودة الطويل حتى منزليهما الواقعين في حي متطرف قالت الزميلة

: اسمعي حسناء   ماذا لو كانت هناك طريقة يمكن للمرأة أن تحمل دون أن يمسها رجل ؟ !    ذهلت حسناء كان ذلك قبل ما يربو على ستة عقود  أجابت حسناء

: ماذا ؟  كيف ؟ وهل يمكن ذلك ؟! أجابت الزميلة التي غاب عنها اسمها مع وضوح المحادثة في ذهنها كما لو إنها حدثت صباح هذا اليوم

: افترضي ذلك افترضي فقط   ليس ذلك المهم   وليس ذلك سؤالي بل سؤالي أذلك حلال أم حرام ؟! وما رأي مجتمعنا في ذلك أجابت حسناء بشيء من العنف

: وما أدراني ثم قلبت شفتيها وقاربت ما بين حاجبيها وأبدت لا مبالاتها بهذا الأمر إذ استدارت نحو الطريق  تتابع قراءة اللافتات الملونة على واجهات المحلات , لم تعرف الا الآن فقط إن هذه الزميلة كانت تستقرأ المستقبل . لاح من بعيد شبح سيارة خدمية وحين اقتربت عرفت العجوز إنها ما تنتظر فقد خط على جانبيها بالبنط الغليظ  ”  مؤسسة أُمهات للإيجار ”  فنادت حفيدتها بصوت عطوف – فيه بعض الاهتزاز بفعل الشيخوخة  – كي تستعد فقد حضرت اللجنة . نزل من السيارة  رجلان  وبمعيتهما امرأة في منتصف العمر ترتدي مثلهما معطفا أبيض  , و تلتها امرأة أُخرى تحمل سجلا كبيرا . سعت الاخيرة الى الحفيدة الشابة وجلست بقربها وأعادت عليها سيل الاسئلة التي وجهت اليها في المقابلة السابقة في مركز المؤسسة قبل شهرين  , سألتها عن الاسم والعمر واسم الزوج وإذا ما كانت قد أسقطت طفلا أو أجهضت يوما وتأكدت من رغبتها في الإنجاب وتربية طفل دون عمر رياض الأطفال ومدى استعدادها في التخلي عنه آنذاك ثم إن عليها أن تتعهد هي وزوجها بالتخلي عنه تماما  ,  ثم طلبت منها ومن زوجها الذي ظهر سريعا بعد استدعائه أن يوقعا أسفل عدة أوراق بعدها خرجت الشابة الى خارج المنزل مصطحبة سجلها الضخم , وكذلك الرجلان اللذان وقعا الأوراق بعد الزوجين – باعتبارهما مسئولَين وشاهدين من المؤسسة المعنية – ثم انصرفا وطلبت كبرى المرأتين من سحر أن تستلقي فزرقتها بالبيضة المخصبة وطلبت منها الراحة لعدة ساعات ووعدت بزيارات متكررة ومتقاربة لمراقبة نمو الجنين المنتظر ثم وضعت الظرف الأول في يدها وقالت ستستلمين مثله كل شهر وبعد الولادة ستستلمين مكافأة ضخمة ومثلها عند تسليمنا الطفل .  ثم خرجت مودعة .

سمية العبيدي

بغداد

9/7 /2019

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

آخر المواضيع