من أوهام النحاة!

446
من أوهام النحاة!
بقلم: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيـْفي

عن (ابن أبي الآفاق التراثي)، عن (ابن هشام الأنصاري، رحمه الله)، أنه قال في “شذور الذهب”:
“ويجب حذف “كان” وحدها بعد “أمَّا” في نحو “أمَّا أنت ذا نفر” ويجوز حذفها مع اسمها بعد إنْ ولو الشَّرطيَّتين، وحذف نون مضارعها المجزوم، إلَّا قبل ساكن أو مضمر متَّصل.”
ثمَّ قال (ابن هشام، نفسه، رحمه الله، أيضًا) في “شرح شذور الذهب”:
“وأقول: هذه ثلاث مسائل مهمَّة تتعلق بكان بالنظر إلى الحذف: إحداها: (حذفها وجوبًا)، دون اسمها وخبرها، وذلك مشترط بخمسة أمور ؛ أحدها: أن تقع صلة لأن، والثاني: أن يدخل على أن حرف التعليل، الثالث: أن تتقدم العلة على المعلول، الرابع: أن يحذف الجار ، الخامس: أن يؤتى بما، كقولهم : “أمَّا أنت منطلقًا انطلقت”، وأصل هذا الكلام: انطلقت لأن كنت منطلقًا، أي: انطلقت لأجل انطلاقك، ثمَّ دخل هذا الكلام تغيير من وجوه؛ أحدها: تقديم العلة، وهي “لأن كنت منطلقًا”، على المعلول، وهي “انطلقت”، وفائدة ذلك الدلالة على الاختصاص، والثاني: حذف لام العلة، وفائدة ذلك الاختصار ، والثالث: حذف كان، وفائدته أيضًا الاختصار ، والرابع : انفصال الضمير ، وذلك لازم عن حذف كان، والخامس: وجوب زيادة “ما” وذلك لإرادة التعويض، والسادس: إدغام النون في الميم، وذلك لتقارب الحرفين مع سكون الأول وكونهما في كلمتين. ومن شواهد هذه المسألة قول العباس بن مرداس، رضي الله عنه:
أبا خراشة أمَّا أنت ذا نفرٍ فإنَّ قومي لم تأكلهم الضَّبعُ.” (1)
– هل فهمتم شيئًا؟
– لا!
– أحسنتم، وهذا هو المطلوب! أذكرَني هذا بمدرِّسٍ للنحو، كان يغضب إنْ سألَنا: هل فهتم؟ فأجبنا: نعم! كان يقول: “أولوا ما فهمتوش وخلاص!”
– لماذا يفعل هذا؟
– المطلوب عدم الفهم، وتلك سُنَّتهم منذ القِدَم؛ كي يستمر مسلسل الشروح والحواشي، والحاجة إليها وإليهم! لكن ألا ترى أن المتن “شذور الذهب” كان أوضح من شرحه المفترض، مع أن المؤلِّف واحد؟!
– الحق أن المتن المشروح أوضح من شرحه!
– لأنه في المتن يصف الاستعمال، كما جاء عن العَرَب، على حين جعل يحاول في الشرح أن يُمنطق ذلك الاستعمال منطقةً عجيبةً، متكلَّفةً، ومتوهَّمة. وكان بوسعه أن يقول إنَّ (كان) قد تُحذف بعد “إمَّا”، ويكتفي بذلك. وأنا أتحدث هنا عن ابن هشام؛ لأنه موضع الشاهد، وإلَّا فهذا اللتُّ في كتب النحاة متوارث من قبله ومورَّث من بعده. وإنما هذا نموذج صارخ مما صنعوه باللغة العَرَبيَّة وبطلبتها؛ حين تَمنطقوا، فضاعوا وأضاعوا.
– ما الحكاية؟
– الحكاية حكاية طويلة عريضة. ربما صدمهم (العباس بن مرداس، رضي الله عنه) بما لا يتفق مع قواعدهم، التي أقاموا الدنيا من أجلها ولم يُقْعِدوها، إذ قال: “أمَّا أنت ذا نفر”. فما الذي نصبَ “ذا” هذه؟ يا للهول! لا بُدَّ من حل!
– ألهذه الدرجة كانوا واثقين أنه قال “ذا”، لا “ذو”؟ وكأنَّ الرواية جاءتهم مسجَّلة صوتيًّا!
– إنْ شاءوا، وثِقوا ووثَّقوا، وإذا بدا لهم بداءٌ، ضعَّفوا، وحكموا بالشذوذ، أو بالضرورة، ما وجدوا إليها سبيلًا.
– إنَّ صعوبة العَرَبيَّة، إذن، إنما صنعها لنا النحاة، من خلال تمنطقهم، وتنافسهم، وخلافهم، وصراعهم. فأضحى جهدهم وبالًا على العَرَبيَّة، وإنْ كان في ظاهره لخدمتها.
– ثمَّ انظر، هنا، كيف أصرُّوا على أن حذف (كان) واجب؟ وكيف جعلوا “أمَّا” بدل “إمَّا”؟ وإنَّما العبارة، كما ينبغي لعَرَبي أن يقولها: “أبا خراشةَ، إمَّا أنتَ ذا نفرِ”. بل ربما كانت “أنتَ” في الأصل: “كُنتَ”. على أنه يجوز أن يقال: “إمَّا أنت ذا نفر”، و”إمَّا كنتَ ذا نفر”. لكنها حرفة النحوي حين لا يجد له حرفة! ولقد صدق (عبَّاس حسن)(2) في نسبة هذه المسألة، التي استهلكت عقول النحويين، إلى محض التخيُّل؛ لأنَّ العَرَب، كما قال: “حين تكلموا بمثل هذا الأسلوب، لم يَدُر بخلدهم شيء من هذا الحذف، والتقدير، والتعليل، إنما نطقوا سليقةً وطبعًا، بغير اعتماد على تحويل وتأويل، أو مراعاة لقواعد المنطق، وغيره، مما لم يعرفوه في عصورهم السابقة على وضع القواعد النحوية.”
– نعم، لم يَدُر…، لكن كلامه ينطوي على تسليم نظري بتعليل النحويين وتحليلهم.
– صدقتَ! غير أن الأمر لم يكن يقتضي ذلك التخيُّل البعيد أصلًا. ثمَّ ليت شِعري، أعندهم من الشواهد غير بيتهم اليتيم؟ وزعْم (سيبويه) أنَّ العَرَب تقول: “أمَّا أنت منطلقًا، انطلقتُ معك”، و”أمَّا زيدٌ ذاهبًا، ذهبتُ معه”؟(3) فإنْ صحَّ هذا، أمَّا كان يسعهم أن يَعدوها لهجة؛ فيريحوا ويستريحوا؟! ثمَّ كيف تُبنى قاعدة، تشغل حيِّزًا من كتب النحو على مَرِّ الدهور، ولا شاهد عليها، سِوَى بيتٍ روي شفويًّا، احتمالات الخطأ فيه والتصحيف واردة بلا حدود؟ ومن أين انتهت تلك الرواية إلى (سيبويه، -180هـ) وحده، فتأكَّد قطعًا من ذلك الحرف الفارق، وأن الشاعر قال “أَنتَ”، لا “كُنتَ”، وبينه والشاعر نحو قرن ونصف من السنين؟! أكاد أجزم أن الشاعر لم يقل البيت كما رووه، وإنما قال: “أبا خراشةَ، إمَّا كُنتَ ذا نفرٍ”، فجَعلَ جاعلٌ الهمزة فوق الألف بعد أن كانت تحته في “إمَّا”، وحوَّلَ “كُنتَ” إلى “أَنتَ”، واشتغلت عجلة النحاة على هذا الأساس أكثر من ألف عام.
– ماذا عن ديوان الشاعر؟
– دعنا نذهب إلى ديوان (العباس بن مرداس السُّلَمي)! الآن حصحص الحق! في ديوان الشاعر، بتحقيق (يحيى الجبوري)، تجد البيت كما توقَّعناه: “أبا خراشةَ، إمَّا كُنتَ ذا نفرٍ…”؛ فالبيت في الديوان لا شاهد فيه؛ لأن “كان” ثابتة، لم تُحذف. ولقد ذكر المحقق أن البيت واردٌ في اثنين وعشرين كتابًا من كتب التراث، في اللغة والنحو والأدب، منها ثمانية عشر كتابًا برواية “إمَّا كنتَ ذا نفرٍ”، أوَّلها معجم “العَين، (ضبع)”، لـ(الخليل، -173هـ)، أستاذ سيبويه، وهو راوية موثوق، وقد رواه بصورته الطبيعية: “إمَّا كنتَ”. ولم يرد برواية “أمَّا أنت ذا نفر” إلَّا في أربعة كتب، منها ثلاثة نحوية- طبعًا!- أوَّلها “الكتاب”، لـ(سيبويه)، والآخران متأخران- إنما نقلاه كما هو عن سيبويه، توارثًا للشواهد كزملائهم من النحاة- هما: كتاب (السيوطي)، “شرح شواهد المغني”، وكتاب (البغدادي)، “الخزانة”. وأمَّا الرابع، فكتاب “المسلسل في غريب لغة العَرَب”، لـ(التميمي).(4) وكذلك يفعلون؛ فلهم رواياتهم الغريبة، المنتقاة أو المصطنعة!
– والله المستعان على ما ينتقون ويصطنعون!
_________________
(1) ابن هشام، (2004)، شرح شذور الذهب، عناية: محمد محيي الدين عبد الحميد، (القاهرة: دار الطلائع)، 215- 216.
(2) (1974)، النحو الوافي، (مصر: دار المعارف)، 1: 583.
(3) انظر: (1988)، الكتاب، تحقيق وشرح: عبد السلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 293.
(4) انظر: ابن مرداس، العبَّاس، (1991)، ديوان العباس بن مرداس السُّلَمي، تحقيق: يحيى الجبوري، (بيروت: مؤسسة الرسالة)، 106.

أ.د/ عبدالله بن أحمد الفـَـيْـفي

17:50:58

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع