ملامح من الإستراتيجية السّياسيّة للإمام عبد الحميد ابن باديس

186

*ابن باديس صحّح فلسفة ابن عربي و **جبر الكسر الذي وقع في التاريخ*

*ملامح من الإستراتيجية السّياسيّة للإمام عبد الحميد ابن باديس *

*(ثورة 22 فبراير 2019 أرادت أن تكون الجزائر باديسية لا باريسية)*

*(الحرب الباديسية كانت حرب افكار و قيم)*

*للمرة الثانية يغيب الإحتفال بذكرى وفاة العلامة الجزائري عبد الحميد ابن
باديس، رائد النهضة الإسلامية و الحركة الإصلاحية في الجزائر و في الوطن
العربي و مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الأولى كانت بسبب الحراك
الشعبي الذي انطلق في 22 فبراير 2019 التي أرادها جزائريون أن تكون باديسية
لا باريسية و هذ ا العام بعد فرض الحجر الصحي إثر ظهور فيروس كورونا كوفيد 19
، و كما هو معلوم فقد حفلت مسيرة العلامة الإمام عبد الحميد ابن باديس
بالمشاهد والتحديات الفكرية و التاريخية في الدفاع عن الهوية و العروبة، فكانت
حياته كلها مواقف، جعلته موضع انتقادات و هجوم من أعداء حاولوا تكسير مسيرته،
و الطعن في منهجه الإصلاحي، بالرغم من أن منهجه كان منهجا حاملا للقرآن هدفه
الإنسان*

و لعل إحياء ذكرى وفاة العلامة عبد الحميد ابن باديس المصادفة للسادس
عشر (نيسان) أفريل من كل سنة فرصة للعودة إلى مساراته الإصلاحية و تمسكه
بالثوابت من أجل الحفاظ على الهوية و بناء مجتمع واعي ، لاسيما و هو القائل أن
الأمة الجزائرية ليست فرنسا و لن تكون كذلك، فقد كان رهان ابن باديس هو بناء
دولة ترتكز على الرقي العلمي و الثقافي والتاريخي للبلاد، باعتبار أن التاريخ
واحد من المرجعيات التي تبنى بها الهوية الوطنية، فقد تميزت مسيرة الإمام عبد
الحميد بن باديس بتصحيح العقائد ألإسلامية التي تسربت إليها البدع و الخرافات
من جراء بعض الممارسات الطرفقية، و كذا الصراعات السياسية، كانت الساحة
الجزائرية ترزح تحت وطأة أبشع نظام استعماري عرفته البشرية استهدفت فيه
العقائد، فكان على ابن باديس إلا أن يقف في وجه الفرنسة و التغريب، حيث أسهم
في إثراء اللغة العربية و أصول الحكم و إشكالياته، فكانت نصوصه و كتاباته لا
تخلو من السياسة و هو يُعَبِّرُ عن مفهوم الوطنية و الهوية بتعبير حديث، أما
على الصعبد الفكري الفلسفي، فقد كان لإبن باديس ثقافة فلسفية دينية، قريبة إلى
حد ما بفلسفة محمد عبده، فكانت له إضافات في هذا الجانب.

تشير دراسات أن ابن باديس تأثر ببعض العلماء حين التقى بهم بجامع الزيتونة
على غرار أستاذه الشيخ محمد البشير صفر، الذي كان له الفضل في اطلاع ابن
باديس على أمته و وطنه و بث فيه الروح التي جعلت منه عالما مصلحا، كما تأثر
ابن باديس بالفكر الخلدوني ، حيث حرص حرصا شديدا على دراسة مقدمته الشهيرة و
تدريسها لتلامذته بعد كل صلاة الفجر، كذلك الشيخ محمد النخلي المتوفي عام
1824، و كان هذا الأخير قد وجّه ابن باديس إلى التركيز على التاريخ الأصولي في
الأندلس، و كتابات ابن العربي، ومن هذا المنطلق عكف ابن باديس على دراسة كتاب
“العواصم و القواسم” ، الذي الفه ابن عربي، و تكفل بنشره عام 1928 على نفقته ،
بالمطبعة الإسلامية بقسنطينة و هو يقع في جزئين، و الذي كما يقال أقام
إمبراطوريات وأسقط أخرى و هي واحدة من مخطوطات ابن العربي، و لعل تحقيقاته لهذه
المخطوطة إحدى الدلائل التي تجعل من ابن باديس محققا و مدققا، حينما عكف على
دراسة مرحلة النبوة و ما بعد النبوة، و تحليله مجتمع الخلافة الراشدة، بعدما
رأى أن التصورات المذهبية و السياسية مسّت التاريخ الإسلامي في محطاته
الواسعة ، و بالخصوص المرحلتين الأموية و الأندلسية، و ما شهدته من صراعات
قومية شعوبية.

و قد تحدث الباحثون عن هذه المخطوطة لاسيما الدكتور الطاهر بونابي مختص في
التاريخ الوسيط من جامعة المسيلة ، تحدث هذا الأخير عن المشروع النهضوي عند
ابن باديس و قال أن الوعي التاريخي هو حالة الشعور بالذات و الهوية في إطار ما
سمّاه ابن باديس بالإسلام الذاتي الذي هو حالة من التحقيق و النقد في مناهج
العلوم، مشيرا أن ابن باديس لم يستمد وعيه التاريخي من الفلسفات النظرية، و
إنما هناك دوافع جعلته يقف على التاريخ العربي الإسلامي في القرن السادس هجري
أي العاشر للميلاد و سمّاه إنسان ما بعد الموحدين، لقد لعبت المدرسة الباديسية
دورا هاما في تربية النشء و برز منها كتاب و مؤرخون و أدباء و فلاسفة و أصبحت
شهرتها إلى جانب المدرسة العبدوية ( نسبة إلى محمد عبده) عالمية في الشرق و
الغرب، و هناك من حمل رايته بعد وفاته، و منهم المؤرخ الجزائري امبارك الميلي،
و نجله محمد الميلي، الفقيه الشيخ أحمد حماني، و أحمد رمضان، و عبد الرحمان
شيبان و غيرهم، و كما قال الدكتور عبد الرزاق قسوم الرئيس الحالي لجمعية
العلماء المسلمين الجزائيين ، فالجزائر اليوم بحاجة ماسّة إلى المنهج
الباديسي، للقضاء على ظواهر التفكك الإجتماعي و السياسي، و الثقافي، و إعادة
تصحيح المفاهيم الحضارية و تأصيل معانيها خاصة في هذا الظرف بالذات أضحت تعاني
شتى أنواع الإضطرابات.

*التجربة الباديسية في الدفاع عن الهوية الوطنية*

لقد كان الإمام عبد الحميد بن باديس في دروسه يدعو طلبته إلى الإلمام بالماضي
و قراءة التاريخ، و الدفاع عن الهوية الوطنية و كان في كل حلقاته و دروسه يردد
على مسامعهم بأنه وجب معرفة التاريخ، و يؤكد لهم أن من عرف تاريخه جدير بأن
يتخذ لنفسه منزلة لائقة به في هذا الوجود، السؤال الذي وجب أن يطرح اليوم هو
كالتالي: كيف يمكن لهذا الجيل أن يستفيد من تراث ابن باديس؟ ، لا شك أن الرد
سيكون بتنزيل تراثه على الواقع حتى لا يبقى مجرد فكرة بل وجب تحويله إلى
ممارسة يومية من خلال معالجة القضايا الحسّاسة التي آمن بها الجيل الحالي الذي
خرج في مسيرات شعبية لأكثر من سنة و قال : “نريدها جزائر باديسية لا باريسية”
و ناشد بالتغيير الجذري في مختلف مجالات الحياة لاسيما الجانب الإجتماعي و
الثقافي، ومحاربة “التغريب” و “الفرنسة” التي تحاول أطراف تكريسها في الثقافة
الجزائرية الأصيلة، و هو بذلك أراد التعبير بأن جيل اليوم جيل واع بل أصبح
أكثر وعي و يريد السير على منهج الإمام ابن باديس، بالمحافظة على الأصول و
الإنفتاح على العصر المعروف بالأصالة و التفتح و الدفاع عن “الهوية” الوطنية
من دين و لغة و انتماء حضاري، يقول ابن باديس : “لقد درست تاريخ الأمم، فوجدت
الأمم تنهض بشيئين اثنين: إما بكثرة العلم، و إما بكثرة الظلم، أما العلم فنحن
فيه فقراء، و أما الظلم فنحن فيه أغنياء، اللهم إن كنت تريد إنهاضنا بكثرة
الظلم فنحن لك من الشاكرين”، فابن باديس كما يقول الدكتور مصطفى باجو من جامعة
الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قسنطينة لم يغفل ما أبدعه العصر من وسائل
التأثير و تشكيل الرأي العام و التأثير على مجريات الأحداث فتوجّه للصحافة و
أنشأ الجرائد لمتابعة الأحداث و معالجة الأدواء و تبصير الناس بحقيقة الإستعمار
الذي أراد أن تكون الجزائر فرنسية.

و هو يرافع لصالح الهوية الوطنية، قال الإمام عبد الحميد ابن باديس: ” إن
أبناء يعرب و أبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرنا، ثم دأبت
تلك القرون تمزج ما بينهم من الشدّة و الرخاء، و تؤلف بينهم في العسر و اليسر
و توحدهم في السرّاء و الضرّاء حتى كوّنت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما
جزائريا، أمّه الجزائر و أبوه الإسلام”، في هذه العبارة الذهبية المقدسة
يتجلىّ أثر التربية الإسلامية في صناعة الضمير الجزائري الحرّ، القائم على
الوئام و المصالحة و التسامح مع الناس مهما اختلفوا، فقد بيّن ابن باديس أن
الهوية الوطنية تتشابك فيها خيوط العروبة و الأمازيغية و يستظل الجميع تحت
راية الإسلام التي وحّدت الصفوف و صهرت القلوب عبر التاريخ، و هي لا شك تجربة
شاملة و رائدة تؤكد عظمة الشعب الجزائري الذي يواجه اليوم مخططات ذكية لطمس
معالم الشخصية الجزائرية و السعي للهيمنة الفكرية عليها تحت ستار العولمة
الثقافية في إطار صراع الأقوياء، لإحتلال مواقع النفوذ في عالم الفكر و
الثقافة و الإقتصاد، هذه الظروف دفعت بجيل العصرنة الخروج إلى الشوارع في
مسيرات شعبية عرفت بثورة 22 فبراير، للتصدي لكل ماهو تغريبي بالرغم من تطور
التقنيات و تنوع الإمكانيات و دخول عصر الإنترنت الذي جعل العالم كله قرية
صغيرة.

*فرنسا وظفت جمعية الآباء البيض ضد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين*

فمن يقرأ فكر ابن باديس و جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يقف على حقيقة
أنه داع للقومية الإسلامية ( لا هي عربية و لا هي أمازيغية و لا هي علمانية
ولا هي بعثية) مرتكزا في ذلك على التربية الإسلامية و الثقافة الإسلامية و ليس
على وحدة الأصول “العرقية” ، و قد ذهب بعض الباحثين في هذا الإتجاه و منهم
الدكتور أحمد بن نعمان الذي عالج في بحوثه المغالطات العرقية في القومية عند
ابن باديس و منهجه في تشخيص الواقع العربي و الإسلامي ، واقع تعددت فيه
الإتجاهات فمنهم من قال ان التراث الثقافي و الإجتماعي المشترك هو أساس التجنس
في الوطن العربي، و أعطوا ضمنيا فكرة العِرْق أهمية بالغة و منهم الأمير مصطفى
الشهابي الذي يفضل الدم العربي على باقي الأقوام، فيما عبّر معارضون عن رفضهم
فكرة وحدة العرق في تكوين المجتمع القومي من أساسها، و لذا عمل ابن باديس على
إبعاد العامل العرقي في تكوين الأمّة المبنى أساسا على وحدة الدين و وحدة اللغة
و آدابها، فبالرغم من أنه أمازيغي قحّ، فقد كرّس ابن باديس الصنهاجي حياته
مدافعا عن اللغة العربية و العروبة مختلفا في ذلك عن أصحاب الإتجاه الأممي
الذي يعتمد على الدين وحده و يسقط العوامل الأخرى كاللغة و الثقافة و التاريخ،
و مختلفا كذلك عن الإتجاه العلماني الذي ينفي عامل الدين في القومية و خاصة
الإتجاه البعثي لأسباب طائفية.

كانت الحرب الباديسية حرب أفكار و قيم، فقد قدم ابن باديس و رفاقه في جمعية
العلماء المسلمين الجزائريين صورا زاهية تنطلق من التذكير بفترات من الماضي
التاريخي الزاهر و تغذية الآمال بمستقبل يتحررون منه من الإستعمار، لم تكن
الحرب بين الجزائر و فرنسا حربا عسكرية واقتصادية فقط بل كانت حربا دينية بكل
المقاييس، لكنها كانت حربا غير متكافئة، لأن ميزان القوى فيها راجع لفائدة
علماء الإصلاح في الجزائر و الوطن العربي الذين قطعوا أنفاس الإستعماريين،
الذين لاحقوا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين و التصدي لها و محاربتها منذ
تأسيسها في أعقاب الحرب العالمية الأولى ( 1931)، و محاصرتها إعلاميا من خلال
توقيف صحفها من قبل الإدارة الفرنسية على غرار صحيفة المنتقد الأسبوعية التي
أسسها الشيخ ابن باديس عام 1924 بسبب موقفها من حرب الريف و الزعيم عبد الكريم
الخطابي، و ما لحقها من صحف، و تؤكد الكتابات التاريخية أن الإمام عبد الحميد
ابن باديس ركز جهوده في مواجهة الإحتلال الفرنسي على منطقتين هما: الأوراس من
جهة و بلاد القبائل من جهة أخرى، و هذا ما جعله يفكر منذ 1924 في تأسيس حركة
يكون مقرها مدينة قسنطينة.

كانت أولى حربه التصدي لجمعية الآباء البيض التي سعى الإستعمار إلى توظيفها،
كذلك جمعية الأخوات البيض للتبشير بالمسيحية في بلاد القبائل في اوقت الذي حرك
فيه افستعمار بعض الزوايا الطرقية لإقناع سكان الأوراس بالخضوع و التسليم
بالأمر الواقع على أن الإستعمار قضاء و قدر، فكان ابن باديس في مواجهات عنيفة
مع الزوايا و الطرقيين، و قد تمكن من السيطرة على الوضع في بلاد القبائل، لأن
الزوايا كانت مرتبطة بالسكان و لم تكن متحالفة مع الإستعمار، و من ثم أدت خدمة
كبيرة للغة العربية و نتشط ابناؤها في خدمة حركة الإصلاح الديني سواء كانوا
من الجيل القديم مثل الشيخ ابو يعلى الزواوي، أو من الجيل الذي جاء بعده مثل
الشيخ سعيد صالحي، و الشيخ سعيد البيباني، و هذا باإعتماد على التراث الذي
خلفه كل من الشيخ الحداد و المقراني و فاطمة نسومر، أما في الأوراس فقد لعبت
الزاوية الدردورية رفي التصدي لمخططات الإستعمار، فعلى الرغم من أن دستور
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين غير سياسي، إلا أنه كان لها دور سياسي ،
فكانت حركة سياسية وطنية في كل تجلياتها و معانيها، يقول المؤرخ شارل روبير
أجرون: إن حركة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين اتخذت مواقف سياسية تتعارض
بصورة مطلقة مع النفوذ الفرنسي، فقد حاربت التفرنس عن طريق تطوير صحافة
عربية”، كانت هذه الإستراتيجية السياسية التي رسمها ابن باديس ضمن خطته
الإصلاحية الشاملة لبعث الوعي في النفوس و رشد الأفكار.

إعداد/ علجية عيش

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع