معالم الحضارة

194

محمد كريم إبراهيم/
معرفة معالم الحضارة مهمة جداً في تحديدنا للحضارة وفي تكوين معيار أساسي نقارن من خلاله المجتمعات البشرية وغير البشرية مع بعضها البعض ومع تعريف الحضارة لنقيس مدى تقدمها وتعقيدها.
يتكون الحضارة من خمسة معالم لا بد من وجودها في جميع الحضارات:
1- أهل الحضارة: يجب أن يتواجد هناك أعضاء ذات أعداد هائلة وأكثر رغبة وقدرة على تغيير أنظمة الأخرى المغاير لنظامها أو لصالحها داخل حيز معين. وهذه الشروط يجب أن تتوفر في نظام ما لكي يلقب بأهل الحضارة. فالإنسان إن لم يكن أكثر عدداً في حيز معين, نقول بإنهم لا يعدون من أهل الحضارة فيه (ويجب أن يكون أهل الحضارة أكثر عدداً من منتوجاتها). والشرط الثاني (الرغبة والقدرة على تغيير أنظمة الأخرى) أيضاً يجب أن يتوافر في عضو ما لكي يلقب بصانع الحضارة, لأنه ليس هناك فائدة من زيادة العدد وكثافتها ما لم يقدر ذلك النظام على تغيير أنظمة أخرى حوله. ونقول بأن المجتمع الذي لا يستطيع أن يغير بيئته أسرع من أنظمة الأخرى حوله لا يعد أهلاً للحضارة. يمكنك أن تشبه أعداد وكثافة أهل الحضارة بالمكان وقدرتهم على تغيير بالزمان. فنقول بأن أهل الحضارة موجودين مكاناً وزماناً إذا توافرت فيهم هذان الشرطان معاً؛ مكاناً لإنهم أكثر عدداً داخل حيز معين, وزماناً لإنهم سيبقون أو يصبحون أكثر عدداً بتغييرهم للأنظمة الأخرى لنظامهم ولصالحهم مع مرور الزمن.
ومن أهل الحضارة يتضح وظيفة الحضارة الثابتة. اهداف التي تتبناها الحضارة هي الاهداف المشتركة التي تبناها اعضاؤها. فهي عاكسة للبشرية الموجودة في شعوبها إذا كانت الحضارة بشرية. وتهدف كل الحضارات البشرية في النهاية إلى تقليل من معاناة وجهود البشر, والزيادة من رفاهيتهم ومتعتهم, كذلك تهدف الحضارات الى تسريع من عمليات الانسانية والتقليل من عامل الزمن التي توجد بين ما يقوم به انسان وبين رغباته, ويسعى الى تقليل من زمن استجابة الانسان الى طبيعة وذلك بوضع خطط ومشاريع لحالات افتراضية طارئة.
2- مواد الخامة المراد تغييرها: هذه المواد يمكن أن تكون حية أو غير حية ويتثمل بأي مادة أو نظام كانت في البيئة المحيطة غير ممسوسة من قبل أفراد الحضارة. والحضارة أو المجتمع أو أي نظام كشكل عام يجب ان تبدأ بتغيير النظام الاقرب اليها إلى نظامها او لمنفعة نظامها أولاً. وربما تبدأ بعض المجتمعات بالسيطرة على بعضها البعض اولاً – كون مجتمع بشري معين يكون نظامه اقرب الى مجتمع بشري اخر. وكذلك بالنسبة للشعوب والدول الطامعة في الدول الاخرى. فقد تقيم تلك الدول حروباً للسيطرة على الدول الاخرى كون نظامها يشبه نظامهم لذلك من السهل السيطرة عليهم وفهمهم وتوقع ردات فعلهم.
3- أماكن والعمليات التي تتحقق التغيير من خلالها: في بعض الحضارات يكون هناك مواقع يتم فيها تغيير تلك المواد الى اشكال اكثر نظامياً واكبر منفعة من شكله السابق. وفي الحضارات الاخرى ربما لا تتواجد مثل هذه المواقع ولكن لا تعني هذه إن العمليات ليست مستمرة فيها بل يجب ان تتواجد تلك العمليات وبوفرة لكي تسمى بالحضارة, وإن كانت غير متمثلة بحيز معين فهي يجب أن تتمثل بأهل الحضارة الذين يقوموم بتغيير تلك المواد بأيديهم في مكان تواجد تلك المواد دون جرها إلى مكان مخصص. ونقصد بالأماكن والعمليات هي المصانع والمعامل والأدواة والمحلات التي تتمثل بحيز وأداة لتغيير مواد الخامة والعمال الذين يقومون بالتغيير.
4- مواد (النظام) التي تغيرت بالفعل: وهي نتاج التغيير التي تكون مفيدة لأهل الحضارة أو تشبه نظامها. مثال عليها هي الأبنية والممتلكات والمنازل والسيارات والملابس وغيرها من المنتوجات. وهي أشياء التي قامت أهل الحضارة بتحويلها إلى نظامها أو إلى نظام يخدم نظامها. وقد تكون تلك المنتوجات طويلة الأمد كتحويل الحديد إلى مطرقة أو قصيرة الأمد كتربية الحيوانات التي تعود إلى نظامها السابق بعد ترك أو موت مغيرها. وقد تصبح هذه المنتوجات جزءاً من الفرد في الحضارة (كعمليات الجراحية التي تدخل مواد غريبة للجسم) أو قد تصبح جزءاً من بيئته (كالسيارات التي لا تعد جزءاً من نظام جسم الإنسان).
5- حدود الحضارة: وهي تكون الخط الفاصل بين البيئة التي تم التلاعب بها وتغييرها, والبيئة غير المستكشفة بعد أو التي لم تتم تغييرها بعد (وهي المكان والزمان التي لا تتواجد فيها تلك المعالم). وحدود اما تكون مكانية او زمنية. اي يكون هناك حدود مكانية لم يستكشف بعد, وهناك حدود زمنية لم يطأ اليه الحضارة بعد لعدم وجود ادواة أو تقنيات كافية أو ادراك كافي في الحضارة من اجل تغيير تلك المواد (معلومات ناقصة داخل الحضارة في كيفية تغيير بعض اشياء غير المتغايرة). وأيضاً تنتهي حدود أغلبية الحضارات عند تغير طبيعة البيئة عن بيئة الحضارة الأصلية. فحتى لو كانت تلك البيئتان المختلفتان مرتبطتان معاً بالمنازل والأهل, فتغير بيئة الحضارة بين سكانها تؤدي إلى تكوين حدود بينها وذلك بسبب تغير عقلية أهلهما عن بعضهما (الإنسان الصحرواي غير الإنسان الجبلي). مثلاً, ربما تكون بيئة الحضارة صحراوية فتزدهر وتثمر فيها, فنقول إن تلك الحضارة تنتهي وتتبين حدودها عن تغير البيئة من الصحراوية إلى بيئة مغايرة (كبيئة الغابات مثلاً).
لكي نتأكد من ضرورية وجود هذه المعالم في جميع الحضارات دون أستثناء, يجب أن ننظر إلى بعض الحضارات القديمة والحديثة, القريبة والبعيدة, البشرية وغير البشرية.
نأخذ حضارة المصرية القديمة على سبيل المثال. يمكننا الأستدلال بتواجد أهل الحضارة من خلال منتوجاتهم وتغييرهم للأنظمة الموجودة في البيئة لصالحهم. وأفراد الحضارة المصرية كانوا متواجدين بوفرة وبكثافة في حيز حضارتهم. وأهداف الحضارة كانت مقيدة على الفخر وعلى صعود بالرتبات الأجتماعية! حيث كانت الحضارة مليئة بالمجوهرات والملابس الخلابة والبنايات التي تبين رتبة الفراعنة ومدى قوتهم وثرائهم. هدف الرتبة الأجتماعية الذي وصلوا إليه يعني أنهم قد عبروا مرحلة البقاء على قيد الحياة – عن طريق الزراعة والصناعة أصبح بإمكانهم تغذية نفسهم وضمان معيشتهم, وكذلك يعني بأنهم عبروا قليلاً مرحلة الجنس (أو على الأقل عبرها كبار حكامهم) – عن طريق ممارسة الجنس وعدم وجود موانع لممارستها غير حواجز مادية وقد تواجدت الأغراض مادية كما قلنا بسبب إزدهار الزراعة والصناعة عندهم. لذلك كان جل تفكير أغلبية أفراد الحضارة هو كيفية الوصول إلى رتبة أجتماعية عالية بين الناس, وهذا ما أدى إلى جن جنون الملوك حتى لقبوا أنفسهم بالآلهة وبنوا معابد وحنطوا أجسادهم للخلود.
المواد الخامة غير الحية كانت متقلبة الوجود في الحضارة المصرية, فسنةً كانت متوفرة وبكثرة, والسنة أخرى كانت شحيحة ونادرة (نستثني من ذلك تربة الخصبة ومياه النيل). أما المواد الخامة الحية من أمثال العبيد والحيونات والنباتات, فقد كانت متواجدة على مدار السنة تقريباً.
أماكن تحويل تلك المواد الخامة إلى شيء نافع توافرت أيضاً في الحضارة المصرية. صناعة الفخار, صناعة الزجاج, صناعة المجوهرات والملابس, تحويل المعادن إلى سيوف ودروع ومجارف ومناجل, جميع تلك الحرف والصناعات كانت تتواجد في مكان ما داخل الحضارة. وهذا أدى إلى توافر المنتوجات بكثرة أيضاً في الحضارة, وهي المواد التي تغيرت من خلال إجراء عمليات عليها لتصبح نافعة للبشر. الأدوات الزراعية التي وجدها علماء الآثار هي واحدة من المعالم التي تشهد على قدرة حضارة المصرية القديمة في تحويل المواد الخامة إلى أشياء ذات منفعة لهم.
بيئة حضارة المصرية كانت تغلبها الصحاري, فلذلك أنتهت حدودها عند بحر المتوسط شمالاً وعند بحر الأحمر شرقاً وعند أثيوبيا وجنوب سودان جنوباً, اما بالنسبة إلى غرب مصر, فلا نعلم لماذا لم تمتد الحضارة بإتجاهه نحو ليبيا. فقد توافرات الظروف البيئية المناسبة لنموها وإزدهارها حتى بلوغ محيط الأطلسي في موريتانيا. ربما لم يتوفر وقت كافي لنمو الحضارة وتكاثرها لاستغلال تلك الأراضي. ولا تعرف بالضبط حدودها المكانية وإلى أي درجة أمتدت أيدي مدنها وقراها.
من الحضارات الحديثة التي يمكننا رؤية تلك المعالم فيها هي حضارة البرازيلية. فلا نحتاج إلى شرح مطول لكي نعرف وجود تلك المعالم فيها. أهل الحضارة هم البشر الذين يعيشون داخل تلك البيئة الغاباتية, وهذه البيئة مليئة بالمواد الخامة التي لم تتغير بعد وهي الحديد والنفط والنباتات التي تتلاعب بها أهل حضارتها لكي تحولها من خلال المصانع والعمليات إلى منتوجات صالحة للإستهلاك البشري. وبالرغم من أن حدودها الدولي تمنعها من الإنتشار نحو الغرب والجنوب, إلا أنها تستطيع ذلك بكل سهولة لتشابه بيئتهم.
الحضارات غير البشرية لم يتسنى لها الترقي والتكاثر بمثل حضارة البشرية, لذلك هناك ندرة من الكائنات الحية التي دخلت تحت تعريف الحضارة وأصبحت من أهلها. نأخذ النمل على سبيل المثال, فأهل الحضارة هي النملة التي تكون ذات عدد هائل نسبياً متكثف في حيز معين, وهي تقوم بتغيير بيئتها التي تتواجد فيها مواد خامة من الطعام والتراب عن طريق عمليات معينة تقوم بها النملة إلى منتوجات ذات نفع لها. حدود حضارة نمل تنتهي عند الخروج من وكرها التي تتواجد فيها تلك المعالم.

قد تلاحظ بإن هذه المعالم تضمن تحتها بعض المجتمعات التي غيرت البيئة التي لا تضمنها كتب وعلماء الآثار والانثروبولوجيا وغيرهم. مثلاً, اذا تخيلنا مجتمع بدائي فيه كل تلك المعالم التي وضعناها كمعيار للحضارة, فإننا نحكم عليهم كحضارة بشرية بدائية, أمر الذي لا يعترف به علماء الآثار والمؤرخين.
هذه المعالم تبرز نقطة البداية لظهور الحضارات في مجتمع ما؛ أي إن وجود هذه معالم بشكلها البدائي والبسيط تعني بداية ظهور الحضارة وهذه تعتبر من أقل مستويات الحضارة وأقلها تطوراً. لذلك نقول أقل ما يمكن أن يتصف به الحضارة هي وجود تلك المعالم حتى وإن كانت بشكلها بدائي. ومن تلك المنطلقات تنطلق الحضارة إلى الأمام نحو الرقي والتطور.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع