ذكـرتُ سـابـقًا أنّي وأخي نـافع نـعـمـل أثـناء الـعـطـلة الـصـيـفـية إمّا في الـبـناء أو الـمرطـبات عـنـد إبن محلتـنا وصـديقـه
إســكنـدر او زيد بـعمل الـدونـدرمه وذلـك بـسـبب وضعـنـا الـمـادي السيئ وعمري لا يـتجاوز الـثامـنة حيث يـبـدأ
الـعـمل من الـسـادسـة صـباحًا وحـتى الـعـاشـرة لـيلاً تـتـخـللهُ نـصف سـاعـة افـطر في المـنـزل ومثلها ساعة لـلغـداء
ثم اعود الى عـملي وهـو إعـداد الـدونـدرمه وتـجهـيزها للـبـيع وبـعـدهـا أقـوم بـخـدمة الـزبائـن وعـنـد ذهـاب نـافـع
أقــوم بـالـبـيع مكانـهُ وفي المـسـاء واللـيـل أدور بكؤوس الدوندرمة بين الـمـقاهي الـتي قُـربُ الـمـحـل .
كان سـعـر قـدح الـدونـدرمة عـشـرة فـلـوس وهـو مـبـلغ مـناسـب في ذلك الوقـت وفـي عـصـر أحـد الايـام أرسـلـني
أخـي بـقـدح دونـدرمـه الى شـخـص يـجلـس باحــدى الـمـقـاهي الـمـجـاورة للـمـحـل وعـنـد وصـولـي قـدّمـتُ الـقـدح لــهُ
إلّا أنّـهُ رفـض أخـذه وبعـد الـنـقـاش واصـراره عـلى الرفض قُـلـتُ لـه الـذنـب لـيـس ذنـبـك ولـكن الـذنـب ذنـب مَنْ
قـدّرك فـما كان من هـذا الـشـخص إلّا أن يـذهـب الى أخي نافع ويـقـول لـه أخـوك شـتـمـني وقـال لي : ألعـن أبـوك يـا
بـو كـرادك فصُدمـتُ بهذا الافتراء والكذب لأني أجهل أصلاً قوميته ولـم يخطر ببالي اني شتمتُ قومية أحد من
الناس ولـم أســمع من عـائـلـتي مَـنْ يـتكلـم أو يسب أو ينتقص شـخص أو عـائـلـة لقوميتة ويُــؤكـد ذلك تعايشنا
ووجـودنـا فـي مـحـلـة الاكـراد الـفـيـلـيه الـمهم أنّ الـكـذبـةَ انـطـلـت على أخـي فشاط غـضـبًـا ودافـعـتُ عن نفسي
بـطـلـب شــهـادة الرجل الـجـالـس بجـانـبه وكان يلبس حزامًا من القماش الأخضر ويُـدل هذا على أنّـهُ سـيـد عَـلَوَي
وكان عُـمُرُه فوق الاربـعـين ولـه مـحل ملاصق الى المقهى ذهـبـنـا نحن الثـلاثـة الى الـشـخـص المعـني وإذا بـه يـؤيـدُ
قول الـمُـفـتري ويـقولُ نـفـس الـعـبـارة وكأنّ الموضوع متـفـق عـلـيه مُـسـبـقًا مـما جعـلـني أسـتـشـيـطُ غـضـبًـا وأخـذتُ
أقسم بالله أنّهما كـاذبـان إلا أنّ أخـي لم يُـصدقني وكيف يصدقني والاثنان مصدقان لا يأتيهما الباطل من بين
يديهما ولا من خلفهما فاخذ يضربني عِـدّة ضربات وركلات حتى انقذني منه اسكندر ولا أدري كم هناك من
الناس الابرياء يذهبون الى المجهول بتهمٍ باطلةٍ وشهاداتٍ مُلَفَّقـةٍ ويبقى الحكم لله .
هـذا الموقـف ما زال صداه في نـفـسـي مؤلمًا ولكنه أوضحَ لي أنّ هـناك ناسًا لا ضمير لهم غايتهم خـلق فـتـنـةٍ او
مُشكلةٍ لحـقـد او لحسدٍ وذلك لفساد سريرتهم والله اعلم وكانت هـذه الـشـهـادة أول شـهـادة زور أسـمعها من
رجل ينتسب للسلالة العلوية إنـتهى الـموقـف بضربي وتـركي العمل عـصر ذلك اليوم 13/ تـمـوز/ 1958.
نِـمـتُ لـيـلـتي وأنـا في حالـة من الالـم الـشـديـد وفـي صـباح الـيـوم الـتـالي إذا بـأخي نـافـع يـوقـظـني لـيـقـول لي صـارت
ثـورة بـالـعـراق إنـهـض حـتى نـذهـب للـشـغـل فـكـان جـوابي هو شـتـم الـثـورة ومَـنْ قــام بهـا ورفـضـتُ الـعـودةَ
للـعـمل وبعـد سـاعـة نـزلـتُ السـطح الى الـدار لأن الـعراقيين في ذلك الوقت لا يـجـدون غـير الـسـطوحِ مَلـجـأً لهم
من الـحـرِّ ومن الحشرات والـهـوام الـمـؤذيـةِ وقـد خـسـر العـراقـيـون أمـتـع اللـيـالي وألـذّ النـوم بـعـد أن جـعـلـوا من
الـمـبـردات هـي الـبـديـل عن الـنومِ في سـطوح الـمنازل .
أقـول نـزلـتُ وتـناولـتُ فـطوري ثـمّ خرجتُ لأســتـطلع الوضع الـعـام وإذا بـالـمـقاهي الـقـريـبـة تـزعـق مـذيـاعـاتُـها
بـالـبـيانات الـصادره من الانـقـلابـيـين وكل بـيانٍ وآخـرٍ تـصـدح أناشـيـدٌ حـماسـيّـةٌ مـصـريّـة ســبق أن كانت تُـذاع من
إذاعـة مـصـر أيام الـعــدوان الـثلاثي [ اسـرائـيـل / بريطانيا / فرنسا ] عـام 1956 وكان أبـرزهـا نـشـيـد الله أكـبر
ووحـدة مَيغـلبها غـلاب وإذا الـشـعـب يـومًا أراد الـحـياة وغـيرها مـن الانـاشـيـد وكان بـين فَـيـنةٍ وأُخـرى يُجلجلُ
صوت الـعـقـيـد عـبـد الـسـلام عـارف من خلال المـذياع في قـراءة بـيانٍ أو بلاغٍ عـسـكريٍّ وبين وقـتٍ واخـر يُكرر
الطـلـب على الـمواطنين الـمـسـاعـدة بالـقـبـض عـلى رئـيـس الـوزراء الـبـاشـا نـوري سـعـيـد الـذي إخـتـفـى .
وهـنا أوضـح وأقــول إنّ مـا حـصـل هـو إنـقـلابٌ ولـيـسَ ثـورةً كـما يُـقـالُ عـنـها وقد نجحت بـمـؤازرة الـشـعـب
الـذي عزز موقفها من اول سـاعة لانـطلاق الـبيـان الاول وعلى العـمـوم المـدلولُ واحـدٌ وهـو تـغـيـيـر الـنـظـام
من مـلكي الى جُـمهـوري .
أقـول إخـتـفى رئـيـس الـوزراء نــوري سـعـيـد واُعْـلِـنَ عـن مـقـتـل جـمـيـع أفــــراد الـعـائـلـة الـمـلكـيّـة بـضـمـنهم الـمـلك
فـيـصل الـثـاني وبـسـماع مـقـتـل الـمـلك حـزن غـالـبـية الـعـراقـيـين وخاصةً الـنـسـاء باعـتـبار المـلك الشاب لا دور لـه
في سـيـاسـة الـبلـد والـمـسـؤولُ عنها هـما الـوصي عـبـد الاله خال الـمـلك ورئيس الوزراء الباشا نـوري سعيد
والموضوع سـأتـناولُـهُ في المحـطـات الـقادمة إنْ شــاء الله .
خـرجـت الـجـماهـيـر الـحانـقـة عـلى الـنظـام الـمـلكي كالـحـصان الـجامح بـلا قـيادة وقـامت بـسـحـل جـثـمان الـوصي
عـبـد الاله ومُـثّـلَ بـه بـوحـشـيةٍ وعُـلّـقَ ببـاب وزارة الـدفـاع والشيئ بالشيئ يُذكر أن الوصي بعد القبض على
العُقداء الاربعة حين فشل انقلابهم أُعــدِمُـوا بالرصاص وعُـلِّــقوا في بـاب وزارة الدفاع الواقعة في باب المعظم .
إسـتـبـشـر الـشـعـب بـجـمـهـوريـتهِ الـفـتـيّـةِ وظـنَّ بـهـا الـخـلاص لـبـناء وطـنٍ حُـرٍّ وشـعـبٍ سـعـيـدٍ حـسـب الـشـعـار
الـشــيوعي الـذي كان ســائـدًا وطـاغـيًا آن ذاك والجماهـيـر في نشوةٍ تجـوبُ الـشـوارع في كل الـعراق حاملةً صور
جـمال عـبـد الـناصـر باعـتـباره هو الرمـز لكل الاحـرار في الـوطن العـربي وبـرز في الـسـاحـة الـعـراقـيّـة وجـهُ العـقـيـد
عـبـد الـسـلام عـارف لأنّـهُ صاحـب الـبـيان الاول ومـا أن اسـتـقـر الـوضـع في بــغـداد حـتى أخـذ بـجولات يزور بها
الـمـحـافـظـات والـقـاء الـخُـطـب الارتـجـالـيـة وفـيهـا مـا يـدعـو الى الـسُـخريـة ومـمـا جـاء في كلـمـتـه الـتي ألـقـاها في سـاحة
إعـداديـة الكوت في ذلك الـيوم الـمُـترب والـحـرِّ اللاهـب قـولُـهُ إنّ جـمهوريـتَـكم جـمهوريةٌ إلهـيةٌ سـمـاويةٌ خاكيّـةٌ
وهـنا عـلا الـتـصفـيق والهـتاف بحـياة الجمهـورية والانقلابيـين ولـه في محـافظـة الـرمـادي كـلـمـة سـمعـتُها من
الـمـذيـاع يـقـولُ فـيها : يــا أهـل الـرمـادي يـا مَـنْ ذررتـم الـرمـاد في عـيـون الـمـسـتعـمـرين الى آخـرهـا حـتى أصـبـحـت
هــذه الـكـلـمـات مَـثـارًا لـلـسُـخـريّـة والـتـنَـدّرِ بـعـد رجحان كفّة الـزعيم عـبـد الكـريم وطَـيي قـيـدِ العفيد عبد السلام
إثر محاولته اغتيال الزعيم والامساك به من قبل الزعيم كما جاء في البيان الرسمي وتَـمّ اعفاءهُ من مناصبه
الرسمية وهنا أقول أن كل حركة انقلابية من العسكر اذا فشلتْ فهي مؤامرة واذا نجحت فهي ثورة كما حصل
في 14 / تموز وعلى ذلك تكون المعايير .
ومـن الاشـياء الـتي حصلت عـنـد زيـارة الـعـقـيـد عـبـد الـسـلام للـكـوت هـو تـوزيع الـدور الـسـكـنـيـة الـتي إنـتهـى
الـعـمـل فيها وهـي مـن مـشـاريـع الـعـهـد الـمـلكي الـتي كانـت جـاهـزةً للـتـوزيـع على العـوائـل الـفـقـيـرة فـأصبـحـت مـكـسـبًـا
للانـقـلابيـين وتـم إفـتـتاحها ووسِـمَـت بـاسـم عـبـد الـسـلام حـيث سُـمّيَ ذلك الـمجـمع الـسـكني بـحيِّ الـسلام كما قـام
بـافـتـتاح مـشـاريع أخرى هي من منجزات العهـد الملكي .
في عـصـر الـيوم الـثـالـث مـن الانـقـلاب يُــذاع عِـبـر إذاعـة بـغــداد بـيان هـام وهـو القبض على رئـيـس الـوزراء نـــوري
سـعـيـد مـتـنـكـرًا بِـارتـدائـه عـباءةً نـسـائـيةً في حي الـبـتـاويـيـن حـيـث أمـسـكـت بـه الـجـماهـيـر وأخـرجـتـه مـن الـسـيارة
التي كان يـتـنـقـل بهـا مع احدى نساء عائلة السربادي وسُـحِـلَ جـثـمانُه كـما فُـعِـلَ بالـوصي عـبد الاله وهـذا
الـعمل كان مـفـخـرةَ للـشـيـوعـيـيـن حـتى اتـخـذوا مـنـهُ شـعارًا يـرددونـه في كل تـظاهرةٍ جـماهـيـرية وهـو :
مـاكـو مُـؤامره تـصـير والـحـبال مــوجـوده .
والـذي أريـد قـوله هـو أنّ الـشـعـب الـعـراقي جـامح في عـواطـفـه ومـتهـور في انـدفاعاتـه العاطفية وبـشـكل فـوضوي
وما زال على وضـعـهِ وكـأنّ الـسـنيـنَ عاجزةٌ من تـغـيـير و صـقـلِ طـبائـعِـهِ وأعـني بذلك السـواد الاعظم منه .
كـما قـامـت الـجـماهـير صبـيـحة الانـقـلاب بـالهـجـوم عـلى الـقـصريـن الـمـلكـيـيـن وهما الـرحـاب والـزهـور وسُـرِقَ مـا
خَـفَّ حمله ونـقـلـهُ وحُـطّـم مـا لـم يـقـدروا على حـملـهِ ولـم يُـتـرك في الـقـصرين شــيئٌ إلّا اُتـلِـفَ .
أعـود الى رجـال الانـقـلاب فـقـد بـدأ بـالـظهـور بعـد أسـابـيـع وجـه الـزعـيـم عـبـد الـكـريم قـاسـم عـلى الـسـاحـة
الـعـراقـيّـة مـمـا أثّــر عـلى شــعــبـيـة الـعــقـيـد عـبـد الـسـلام عـارف وخـاصّـةً في الـمـحافـظات الـشـمالـية والـوسـطى
والـجـنوبـية ومـن هـنا بـدأ الـصراع الـخـفي بـين الـزعـيم رئـيـس مـا يُـسـمى بـكـتـلـة الـضـباط الاحـرار وبين صـاحـب
الـبـيـان الاول الـعـقـيـد عـبـد الـسـلام صاحب الجمهورية الالهية الخاكية وهو صراع المناصب مع دوافع
طائفية يُنكرها مَنْ يأخذ بظاهر الامور .
******************************************************
الدنمارك / كونهاجن الاحد 26 / تموز / 2020
الحاج عطا الحاج يوسف منصور