قراءة في رواية ( عنقودٌمِنَ الشيزوفرينيا ) للكاتب كريم عبدالله – العراق

بقلم الطبيب الاختصاصي أمراض نفسيّة: باهر بطي

311
ولايزال العنقود يتدلى
قراءة في رواية ( عنقودٌمِنَ الشيزوفرينيا ) – للكاتب : كريم عبدالله – العراق
بقلم الطبيب الاختصاصي أمراض نفسيّة: باهر بطي – بورتلاند,أوريكون, الولايات المتحدة– 11/7/2021

( الكون ساعة هائلة من حيثتبدأ تنتهي, ومن حيث تنتهي تبدأ, بلا انقطاع…..من حرّك هذه الساعة ) يفتتح ( كريمعبدالله ) روايته (عنقود من الشيزوفرينيا ) بهذا التساؤل لندخل معه في ملحمة كلكامشيةحداثوية. أقول كلكامشية لأنها رواية اشتملت على كل صراعات وتساؤلات كلكامش منعشتار التي تجتاح صورها الرواية في أزمتها مع التفاحة, الى الصراع مع الشرير خمباباثم انكيدو الذي مات ومواجهة حقيقة الموت ودور الحية في مشكلة البشرية مع الخلود,وإن كان كلكامش قد وجد في النهاية تعريفاً لمعنى الحياة الا ان كريم يصر على استفزازالقارئ بلغة تسيل عذوبة فيما هو يشاكس ويظل يتركه في حيرة حتى آخر سطر.

محاور رواية “عنقود من الشيزوفرينيا”تؤكد انها عنقود منسوج بلغة ادبية مبدعة بعناية فائقة بين انتقالات المفردات والجملالصورية والسردية وبين مستويات العمق الفكري للرواية. الابداع الادبي ( لـ كريمعبدالله ) ينقل الصورة ( عفواً أقصد صوراً عنقودية ) بسرد تعبيري وشعري في الوقتذاته يتنقل بالقارئ بين حالات من الدهشة والاشمئزاز وحالات الاستفزاز ومسائلة تلغيالثوابت في عقل ( أنا ونحن ).

الرواية تمتلك عدة مستويات وسأبدأ بالمستوى التوثيقيفي الرواية لكل من تاريخ رعاية الصحة النفسية في العراق , ثانياً الواقع النفساجتماعي للفرد والمجتمع العراقي , ثالثاً الواقع السياسي للمرحلة الحاضرة من تاريخالعراق . وعلى المستوى الاعمق والكلي يوجد التساؤل الفلسفي متمثلاً بالسؤالالوجودي ( من انا ومن نحن واين موقع انا من نحن .؟. ) وماهية الانسانية وطبعاًالسؤال الخالد: ماذا ولماذا الحياة والموت .؟ .

لنبدأ رحلتنا مع التوثيق لأزمة المريض العقليفي العراق ونقرأ في ص 8- 9 ( الجميع يتفقون ان هذا المكان يبدو للناظر إليه منالخارج جميلاً….أما لو دخلت إلى أعماقه فستجد اختفاء الحياة وانطفاء السعادةوالاحلام المجهضة, وتتلمس بنفسك آثار القمع والاضطهاد والتسلط ). هذا هو واقعالمريض العقلي سواء كان (فاقد) ام (مستقر). واقع المرضى الحقيقي انهم في ( الردهاتالمقفلة بأقفال الخوف , يتكاثر خلف ابوابها المتصدعة حزن مزمن……ضحكاتهم بكاءطويل مزمن , المستقبل كالماضي يبتسم متهكماً على تلول الخيبات…. ماذا يعني أنتكون مصاباً بالفصام وأن تقبع بلا أفراح في عمق هذا الظلام….. ثقيل هو الأسىالواقف الى جانبك يرافقك حتى المثوى الاخير حيث تحمل احلامك الصغيرة مجاذيف عاريةذاكرتها بلا تواريخ ). ونجد الصفحات ص 76 الى ص 84 امثلة على حوارات واحداث تتنقلما بين رسم معاناة مرضى في مستشفى والمعاناة النفسية للمرضى في مجتمع يقول بالرحمة ولايعرف معناها الحقيقي, فنجد مريض يقتل مريض نتيجة النظام المتخلف للرعاية فيالمستشفى , الى معاناة مريضة مثلية الجنس . ووسط هذ التنقلات حوارات الصراع النفسيللمريض مع الذات ومع المجتمع القمعي . ورغم ذلك يبقى الحوار بين الامل واليأسمستمر فيقدم ( كريم عبدالله ) مقترحا على لسان مريضة (اننا الان نعيش هنا هذاقدرنا بعد ان تخلى عنا الجميع….قد يظن الذين خارج جدران هذا المكان باننامجنونات لا يمكن الاطمئنان منهن ومن شرورهن لكنني ارى باننا اصبحنا نشترك جميعا فيمكان واحد). نعم هذا الوعي يمكن ان تجدوه داخل المستشفى يعبر عنه مرضى, وفي ص 84يقترح مريض متعلم اقتراحاً بنّاءاً وتنموياً, ولكن ( كريم عبدالله ) كالعادة يتركناهنا في حيرة بين تصديق تحقق الامل أم الاستمرار في الحلم بالأمل. هل سيتحقق فعلاًمشروع المريض (مهند المهندس الزراعي) وهل سيتم تطبيق نظام البيوت المحمية (ص 110)بدل ترك المرضى في قاع نسيان المجتمع والاهمال القاتلين .؟ . هل يمكن ان يكون كلعراقي كلكامشاً يحكم بعدل وإنسانية ويتبنى مفهوم ( كريم عبدالله ) لمعنى العملالجماعي من أجل حياة سعيدة (ص١٠٤ الاعمال الكبيرة تبدأ من …) ؟؟؟

الرواية توثق وتغور في الصراعات النفس اجتماعيةللمجتمع العراقي وتكون عشتار هي مسبار الغور . عشتار في واحدة من الرحلات فيالرواية تتقمص شخصية (وزيرة الكردية) لتبحر في ثنايا الرواية في بحثها عن لذة لايسمح بها المجتمع فتسقط اسيرة الجنون بسبب الصراع بين الرغبة والخطيئة . الصراع فيمجتمع لا يستطيع ان يطور مفهوم لحقوق الانسان وكيف يمكن احترامها مع الحفاظ علىالانتماء الجمعي , وعلى الاغلب تذهب النساء ضحية الاتهام بالعهر. وأيضا يبقى مايسمى بالشذوذ الجنسي عاراً يدمر ضمير يتصارع مع شهوة تصل الى حدود الهوس المرضيولكن يبقى المجتمع يحاسب هذا الانسان ذكرا ام انثى بدون اي تفهم وتقدير لعاملالاندفاع بسبب المرض النفسي . في ص 121 نهاد تناجي نفسها المعذبة ( أنا الملعونةالشريرة , انا المكروهة من الجميع فليطاردوني ويرجمونني بالحجارة….فشلت في كل شيءمع نفسي مسلوبة الارادة وعقلي فارغ, لا أحد يغفر لي شروري الخارجة عن سيطرتي,….أحاول ان اتخلص من شرور نفسي بالانتقام, عليهم ان يتحملوا ما ارتكبوه بحقيكلهم ساهموا في سقوطي نحو الحضيض) أسأل نفسك عزيزي القارئ كم عاقل يستطيع انيستكشف دواخله كما تستكشفها هذه المجنونة لئلا يقع في السلوك الانتقامي بشكل أوبآخر؟؟؟ .

وطبعاً لابد ان يضم العنقود حبات عن الواقعالسياسي للمرحلة الحاضرة من تاريخ العراق. جسد العراق الذي انتهكته صراعات سياسية بين قوةعظمى أحتلته ولاعبين سياسيين فاسدين استخدموا أسم الله حتى كفر البعض باللهبسببهم, اذ استخدم اسم الله دون فهم حقيقي للإنسانية في الدين ومعنى ان يقولالامام علي عليه السلام “من لم يكن لك أخاً في الدين كان نظيرك فيالخلق” فصارت عقلية القطيع الطائفي تتحكم بالعراق. يقع المرضى وسط قتال بينالقاعدة الامريكية وهؤلاء اللاعبين (ص 151), وتحترق ردهات في المستشفى في خضم هذاالفساد والصراع, ويسأل ( كريم عبدالله ) ايضاً دون خوف (ص ١١٧ من المسؤول عن قتلالكفاءات .؟. ) ويستعرض الاحتمالات (عملية سرقة ام تصفيات سياسية ام عمليات مدبرةمن قبل جهات مجهولة لتصفية البلد من الكفاءات..!!!), وفي ص (116) يذكرنا ( كريمعبدالله ) كيف ان آلامنا اصبحت لقمة سائغةيتداولها مراسلي القنوات الفضائية كل يمضغها وفق اتجاه القناة السياسي ليغسل بهاعقول القطعان. اما نحن العراقيين فلانزال نتصارع في حوارات, اغلبها يظهر على شكلعنف دموي وليس حواراً عقلانياً , في ص 125 يتنقل الحوار بين ( تأثير التناقضاتالداخلية والضغوطات الخارجية…..- فقدان العدالة….- لقد تورط الانسان في هذهالمذابح , اصبح عبدا لمعتقداته ونزواته ورغبته بالانتقام. -نحن لا نمتلك فضاءًنمارس فيه حريتنا, فضاء يرفض العسكر والخرافة, وتكون السلطة للقانون….).

ونصل اعماق العنقود المجنون بالتفكير بمعنى الوجود,اقول انه مجنون لان عقل انسان الشارع العادي يقبل ما يقال له بدون مسائلة للحقيقةفيسمى “عاقل”! في ص 93 يكمن السؤال الوجودي للمجنون (من انا, من نحن,ومن هم سنبقى نحن هم الذين نحن…..نحن الشاهدون على هشاشة الواقع, نحن الوارثونلإرث الخراب العنيف……, لقد قدر علينا ان نكون نحن.), فالمجتمع لن يميز ال(أنا) بل سيبقى يحكم على (هم) وفق منطق قطيع ال ( نحن). فيما يبحر القارئ بينالسطور سيجد دائما الصراع بين الحياة والموت الذي يواجهه الانسان الذي فقد مكانهفي المجتمع ليدفن حياً في المستشفى ويجد الوقت والظرف المناسبين ليتعمق في حقيقةالصراع بين فائدة الحياة وفائدة الموت, ويواجه صدمة كلكامش بموت أنكيدو فيستمر بالبحث عن ماهيةالحياة بين الرغبة في خلود مؤجل او مجهول أو غير ممكن, والبحث عن سعادة حياةمفقودة ولكن مصطنعة في عالم الواقع. وعلى مستوى آخر سينتقل ( كريم عبدالله )بالقارئ من الوجه الديكارتي لعملة (أنا أفكر اذن انا موجود) الى وجه (أنا مجنوناذاً انا غير موجود) وهو الوجه الآخر لمعنى الحرية عندما يتصارع العقل مع التفاحة بشهادة الغيب (ص 154- 155: آه ايها الضميرالمستفيق في زمن الوهم, متى تمنحنا الطمأنينة بدلاً من وخز سياطك….ما هي حقيقةوجودنا في هذا الزمن, كيف سنصل الى معرفتها ونحن نعيش ها هنا…..ما الفائدة منالتمسك بالأخلاق وقد تساوى الجزاء في حالة تطبيقها أو بعدم ذلك…..لا بد من وجودعالم آخر تتحقق فيه العدالة والسعادة, لكن من يضمن لنا وجود هذا العالم الآخر .؟؟؟!!!. ويصبح رمز الانسان التفكري بعمق لدى ( كريم عبدالله ) : (ما زلت امتلكالمتناقضات, الموت والحياة, الوجود واللاوجود, الخير والشر, السعادةوالتعاسة……انا ادرك مقدار هذه المعاناة, وارغب بألاّ اتخلص منها, أي عشقللآلام ارتكبه بحق نفسي.) ثم في ص 160 -161 نقرأ (حينما تنتابنا نوبة الجنون نكوناكثر سعادة يتخاصم الجسد مع الوعي, لا سلطة لأحد على الآخر كل يغني على ليلاه,يهرب الجسد بعيداً ويمارس افعاله دون رقيب بينما وعينا يمارس رياضة أوهامه في فضاءشاسع, اننا سجناء افكارنا….ربما ما يفعله الجسد هو بعض من الحرية, وان ما يقومبه الفكر حرية بأضعف الايمان) .!! .

ويبقى دائما العقل المتحرر من أقصى قيوده فيرحلة الذهاب والاياب اللا متناهية في مشاكساتها, فنجد في ص 124 (ها هو العالميغتسل مني في منيّ القبح بينما الانسانية محاصرة بالغام هائجة, أخفت فراديس الاملمؤسسات الأديان التي شوهت وجه الله…….الذين يحرقون الجمال في جحيم الرب بشرهمبالثبور يوم يأتي نبي الخصب يزرع بذور الامل ينمو في النفوس الرب لا يقتل اولاده)الامل هو (ما زالت الارض حبلى بالأيمان, لن تتنازل تحت طغيان الكراهية بعدماملأتها الحروب فجيعة, لابد أن تعود صافية يظللها قوس الله…سيجئ نبي الجمال يؤمنبالحياة, ويعيد للإنسانية بسمة عريضة, ينشر الامل في الارض وتورق الاحلام اياماًجديدة).

ولكن هذه ليست الخاتمة بعد, لا خاتمة لهذهالرواية العنقودية, إذ يبقى ( كريم عبدالله ) يجادل لماذا وماذا هو الموت وتبقى(الريح تعبث بمكر بأوراق الشجر) ويستمر الاستفزاز (ص 164 هل وجودنا حقيقة في هذاالعالم, …فهل ان هذا العالم عالم حقيقي….هل نحن شيء ام لا شيء .؟؟؟!!). وفيالصفحات الثلاث الاخيرة يتدلى العنقود الى (علينا ان نكون اوفياء للحياة حتى نتحملالموت علينا ان نعشق الموت حتى نعيش الحياة)!…(اين يكمن النور, في الموت ام فيالحياة, هل ان حياتنا هذه جديرة بان نعيشها كما هي ما الخير والشر في الحياة, وماالشر والخير في الموت..)!…(أنا قررت ان انهي هذا العنقود من الشيزوفرينيا بهذهالطريقة لكي لا يتكرر مرة اخرى……ربما كانت الحياة قصيرة, ولكنها كانت جميلةوتستحق, لقد اشغلت حياتي بالكثير من الاعمال الخيّرة, الان انا آمل بان تستمرحياتي وتكتمل, الان سأنعم بالراحة الابدية, الان سأعبر الى الضفة الاخرىبأمان…..ستبقى الحياة هي الخير الاعلى, فلولا الموت لما كانت هكذا مدهشةونادرة…..)…… لا تستعجل ايها القارئ الكريم فصدمات العنقود لم تنتهي بعدفالكاتب الكريم يبقينا في حيرة مستفزة لحرية اختيارنا مع سطره الاخير (سقطت يده منعلى صدره حرة متدلية في الفضاء, بينما الاخرى مازالت تمسك بقوة في مسند الكرسيّ).

د باهر بطي

طبيب أختصاصي أمراض نفسية

بورتلاند, أوريكون,الولايات المتحدة

07/11/2021

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع