قراءة في ديوان الشاعر:فاضل ضامد–المعنون(وشمٌ في ذاكرة الملح)

245

بقلم : كريم عبدالله – 19/5/2020 – بغداد

المقدمة :

يقول سركون بولص : ونحن حين نقول قصيدة النثرفهذا تعبير خاطىء , لأنّ قصيدة النثر في الشعر الأوربي هي شيء آخر , وفي الشعرالعربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وأنا أسمّي هذاالشعر الذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه إليوت و أودن وكما كان يكتبه شعراءكثيرون في العالم . واذا كانت تسميتها قصيدة النثر , فأنت تبدي جهلك , لأنّ قصيدةالنثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه , أي قصيدة غير مقطّعة . من هنا بدأنا نحن وأستلهمنا فكرة القصيدة /السرديّة التعبيريّة / بالأتكاء على مفهوم هندسة قصيدة النثر ومن ثمّ التمرّدوالشروع في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب من ضجيج كثير بدعوى قصيدة نثر وهي بريئةكل البراءة من هذا الاّ القليل ممن أوفى لها حسبما يعتقد / وهي غير قصيدة نثر /وأبدع فيها ايما ابداع وتميّز , ونقصد انّ ما يُكتب اليوم انما هو نصّ حرّ بعيد كلالبُعد عن قصيدة النثر . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة تتكون من مفردتي / السرد– التعبير / ويخطيء كثيرا مَن يتصور أنّ السرد الذي نقصده هو السرد الحكائي –القصصي , وأنّ التعبير نقصد به الأنشاء والتعبير عن الأشياء . انّ السرد الذينقصده انما هو السرد الممانع للسرد أي انّه السرد بقصد الأيحاء والرمز والخيالالطاغي واللغة العذبة والأنزياحات اللغويّة العظيمة وتعمّد الأبهار ولا نقصد منهاالحكاية أو الوصف, أما مفهوم التعبيريّة فأنّه مأخوذ من المدرسة التعبيريّة والتيتتحدث عن العواطف والمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة , اي التي تتحدث عن الآلآمالعظيمة والمشاعر العميقة وما تثيره الأحداث والأشياء في الذات الأنسانيّة . انّما تشترك به القصيدة السرديّة التعبيريّة وقصيدة النثر هو جعلهما النثر الغايةوالوسيلة للوصول الى شعرية عالية وجديدة . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هيقصيدة لا تعتمد على العروض والأوزان والقافية الموحّدة ولا التشطير ووضع الفواصلوالنقاط الكثيرة او وضع الفراغات بين الفقرات النصيّة وانّما تسترسل في فقراتهاالنصيّة المتلاحقة والمتراصة مع بعضها وكأنّها قطعة نثريّة . أنّ القصيدة السرديّةالتعبيريّة هي غيمة حبلى مثقلة بالمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة ترمي حملهاعلى الأرض الجرّداء فتخضّر الروح دون عناء أو مشقّة .

تجلّيات اللغة في القصيدة السرديّة التعبيريّة

1- الخيال في القصيدة السردية التعبيرية

اعتقد قد آن الاوان ان نتحدث عن القصيدةالسردية التعبيرية , هذه القصيدة التي تحاول الانفلات من تبعية قصيدة النثروالانعتاق من ارثها والانطلاق في محيط خاص بها وبعيدا والتحليق عاليا في سماواتمشرقة .نحن نعلم جيدا بان اول المرجفين والمشككين بالقصيدة السردية التعبيرية سيكوناصحاب القصيدة العمودية , سيتهمونها بتشويه الذائقة وما اعتادت عليه الاذن منموسيقى ووزن وبحور الخ . ونعلم جيدا للآن هناك صراع ما بين قصيدة النثر والقصيدةالعمودية , ونعلم ايضا بان هذا الصراح سيستمر , فكيف اذا جئنا بالقصيدة السرديةالتعبيرية !! .

ان ما حققته قصيدة النثر عجزت قصيدة العمودعن تحقيقه , فلقد جاءت بلغة مغايرة جعلت الكثير من شعراءها يغادرونها الى قصيدةالنثر والابداع في كتابتها بطرقة مذهلة . واليوم ظهرت القصيدة السردية التعبيريةبلغة العاطفة القويّة وخصوبتها وحسن عرضها وتجانسها , والمشاعر العميقة الصادرة منالقلب والغازية له من اوسع الابواب . هذه اللغة المشحونة بالعواطف القويّة تحرّكالاحاسيس لدى المتلقي وتحيّ شعوره بالجمال وتغذي النفس بالمتعة والدهشة . هذاالكمّ الهائل من المشاعر والاحاسيس والعواطف مصدره الشاعر , لذا فعليه ان يبثّعاطفته العميقة وشعوره الفيّاض في اسلوبه وفي نفس القارىء والمستمع , وكلما كانصادقا في مشاعره وعواطفه كان اكثر قربا من الجمهور . يقول ( انيشتاين ) انّ الخيالاهم من المعرفة وهذا يعني بان الخيال بالنسبة للادب هو مفتاح العاطفة وانه اشبهبالمستودع الذي تستمد منه قوى النفس مادتها الاولية . لذا على الشاعر ان يمتلك خيالاخضبا منتجا يجعلنا نتلمس المشاعر ونتصورها شاخصة ملموسة نتحسسها ونتشمم عطرها :

فهناك خيال بسيط وهو ما تدركه الابصار وحاسةالبصر , وهناك الخيال المركّب عند الشاعر الذي يستطيع خلق صور عما يشاهده او يقرؤهاو يحسّه صورا لا عهد لنا بمثلها نقف عندها تصيبنا الدهشة , تعمل على اثارةالعواطف وتمنح القصيدة حياة متجددة , وتشويقا يجتذب المتلقي اليها , وكلّما كانالخيال خصباً كلّما كانت صور الشاعر برّاقة ومشوّقة . وبالعودة الى ديوان الشاعر , سنجده يطفح بهذاالكمّ الهائل من الخيال الخصب والذي يجعل المتلقي يقف بخشوع أمام أمواجه الهادرة ,والدليل عنوان الديوان / وشمٌ في ذاكرة الملح / هذا العنوان الذي أختزل كلّجماليات اللغة السردية التعبيرية , هذا الباب الذي من خلاله سندخل عوالم الشاعرالزاهرة على الدوام بابداع فذّ ومقدرة عالية على تطويع اللغة وإعادة صياغتهابطريقة ابداعية جديدة وإلباسها لباس الواقع وأنصهارها عبر تشكيلات فنيّة تجعلنانقف بخشوع وبـتأمّل عميق لما جاء به الشاعر . ففي نصّ / سخام في الأروقة / نجد حرص الشاعر على رسم لوحاتهالشعرية بطريقة فذّة مستعيناً بما يمتلكه من خيال منتج , / فيالخزعبلات تجد الخيول بلا ظلال النساء يرسمن وشماً على أحلامهنالصغيرة يضفرّنَ السنابلَ للقيامة
يحرقّنَالبخورَ على السواقي للحراسة من الماء الاسود / . وفي قصيدة / دقيق مترف الاخضرار / نجد هذا الخيال كيف شكّل لنا هذهاللوحة الزاخرة بكلّ هذا الجمال / أنتفُ عقاربَ الوقتِ من ريشِها حتى يظلُاللدغُ مرهوناً بعددِ الاصابعِ أحركُ محراثَ الزمنِ على أرغفةِ المكانِ لينبشَ فيداخلِها دقيقاً مترفاً لقمحِ البقاءِ أنضجُ مع الحصادِ سنبلةً بغرتِها العجوزليبقيها المنجلُ تحت اظافرِه ألماً يحزُ اسنانَه المُهلِكَة / . انّالمتلقي سيجد في هذا الديوان وعياً مارسه الشاعر اشبه بالحلم في لحظات الواقع ,فلقد استطاع أن يحرّك كلّ كائناته وإدخالها في علاقات غريبة لم نألفها في واقعنا ,لقد أستطاع الشاعر أن يسخّر كلّ طاقات خياله معبّراً عن مواقفه وعن الذات الشاعرةوبثّ الروح في نسيجه الشعري .

2- البناء الهندسي في القصيدة السردية التعبيرية

جميعنا يعلم بانّ هناك أربعة أشكال من الشعر وتكون هندسة القصيدة فيها كمايلي :

أولاً : القصيدة التقليدية ( العمودية ) وهيتعتمد على الوزن والقافية وبقية تقنياتها وتكتب بالطريقة العمودية .

ثانياً : قصيدة التفعيلة وهي التي تعتمد علىعدد من التفعيلات في السطر الواحد ولا يلتزم بقافية واحدة .

ثالثاً : القصيدة الحرّة وهي التي تتخلّى عنالوزن والقافية الموحّدة الا انها تشترك مع القصيدة العمودية شكليا من حيث التشطيروتوزيع الكلمات بطريقة معينة وترك الفراغات والنقاط والفواصل والتوقفات فيما بينفقراتها .

رابعاً : القصيدة السردية التعبيرية وهي التيتكتب بطريقة النثر الواضح حيث لا تشطير ولا وزن ولا قافية موحّدة ولا فراغات ولافواصل او سكتات بين فقراتها , تكتب على شكل فقرات متواصلة وربما متداخلة مع بعضهاالبعض ومن خلالها ينبثق الشعر وتتفجّر طاقات اللغة وهذا مايسمى بـ ( النثروشعرية )حيث ينبثق الشعر الكثير من النثر . تعتمد على بناء جملي متواصل كما هو في النثر , مندون سكتات و لا ايقاعات و لا فراغات و لا تشطير و لا تسطير, و هي جمل متداخلة ، الا انها متداخلة بطريقةمتوحدة ، فهي تقع بين الفقرة و الجملة , ان هندسة القصيدة السردية تتخلّل فقراتها( الفارزة الواحدة او النقطة الواحدة فقط – , / . ) . انّ جميع النصوص في هذا الديوان جاءت نموذجية وعلى شكل كتلة واحدة متماسكة, وهذا نموذج واحد يبرّهن لنا على ذلك / أنَّ …عصفور الجنان / تصور ان هذا الامتلاء يمنعنك أن تضع كلماتك الحزينة وأن كل هذا العنف يمنعك أن تسطر جملة واحدة على الارصفة العتيقة مثل شمعة شاردة بنورها لشهيد تذوب ولا تنتهي هكذا علمتنا الشوارع أن اكتنازها بالرياحين أكبر من أن تقال بقصيدة وأي خيال يتوقف عند رصاصة غانية لتقتله يالبأسه العجيب لايبرد طاحونة قمح للعصافير والنحل والارض حتى السماوات تخلت عن مذهب الغيم فأنجبت مطرا من دم. / .

3- الرساليّة في القصيدة السرديّة التعبيريّة

الأدب رسالة انسانيّة , والرساليّة مهمة في الشعر وقدتكون رسالة جماليّة فنيّة أو رسالة اجتماعية , فالرسالة الجمالية الفنية تعنيالغوص في تجربة الشاعر عميقا بينما الرسالية الأجتماعية تعني كل ما يكون خلف النصّمن رسائل وبوح . وتظهر ملامح الرساليّة الأجتماعية بأشكال مختلفة كـ / البوحالتوصيلي / والبوح الأقصى / والبوحالتعبيري /.

انّ البوح التوصيلي نعني به التوصيلية الأمينة وطلبالخلاص وذات رسالة واضحة , ونجد ذلك في هذا النصّ / نريد وطن.. ألواني تهتف / حين خبأت اللون عن لوحة دون أخرى تزاحمت كل الخيالات للوصول الى الفرشاة كي أبذر ألواني على القماش الأبيض كان الطريق موحلا بالأفكار وأن كل الشجيرات يندبن حظهن هذه المرة فلا مناظر طبيعية فالمزاج غائم وأبليس الأهمال يتراقص على الغواية كي أخرج الى الشارع وأركب ) الكيا(* حتى أصل تاهت من جيبي علبة سجائري وقداحتي الفريدة كون هول الشارع لايسمح لي بالتدخين فالمكان تملأه سحرة بأصابع ملائكة وهم ينثرون أصواتهم بالمكبرات ولا أحد يزيد عليهم شجاعة حتى في تاريخنا القديم / .

اما البوحالأقصى وهو طريقة الكتابة حين تشتمل على تعابير لفظية شديدة البوح وتحمل أقصىغايات البوح وإبراز المكونات النفسية , نجد هذا في نصّ / تكتبين وجهي على على ثقوب الناي وتعزفين لحنا غادرني منذ سنين وكأن الصوتَ سياطٌ تشتد كلوعة الاصابع وهي تتهاوى على القصبة لمي الذي تفرط من عنقود مجدنا وخلدي الخيط الرفيع بيننا ربما نلتقي فنطبع قبلتين على الورد لنزهر من جديد وانت تحسنين التنهد وانا يكثرني الشوق ،جسدي حبات قمح لا أرض تنبت فيها غير جسدك الخصب سأمد جذوري حيث قلبك الذي امتلك / .

أما البوحالتعبيري هو وصف العالم وطلب الخلاص بطرح رؤية فردية عميقة للحياة والعالم . ويتجلّىذلك في هذا النصّ / النجمةُ المضيئةُ أضْحيةٌ زُحامٍ الظلمةِ ،حين اعتلى القافيةَ حرفٌ زائدٌ رقصتْ الأرصفةٌ للخلاصِ من التوازي ، ودّعها محبرةً من حجر مدادُها الارضُ ، القلمُ طائرٌ غطاسٌ يصطادُ الكلماتِ ليكتبَ الجوعَ على أوراقٍ معدتٍه الفارغةٍ ،تورم القفصُ ، بحاجة الى حُجامة لتخرج العصافير الى الشرفات تتنفس هواء المفاقس ، مشرد دائما لوني المفضل أتركه يرعى بين إخوته إلا أن أحدهم رماه في لوحتى فنمى غصنا ثم ثمرة ، روحي لا معالج لها غير بعثرة كلماتها / .

4- الصورةالشعرية في القصيدة السردية التعبيرية

ان العاطفةبدون صور تعتبر عمياء والصورة بدون عاطفة تعتبر فارغة .

الصورةالشعرية : رسم عن طريق الكلمات وهي ادراك حسّي ينفذ الى باطن الاشياء وهي تعدّعنصرا مهما في بناء القصيدة الشعرية تؤثر في المتلقي وتبرز المعاني . فالشعر يعتمدعلى الصورة وهي تختلف من شاعر الى شاعر اخر فلا شعر بدون تصوير . عن طريق الصورة الشعرية يتمّ التفاعل ما بينالشاعر والمتلقي , وكلما كان الشاعر حاذقا ومبدعا يستطيع ان يعبّر وبلغة شعريةتستثير حواس المتلقى وتبعث فيه روح المشاركة . الصورة الشعرية تتكون من الايقاعوالوزن والايحاء واللغة والموسيقى والاحاسيس والمشاعر , وهي ( الصورة الشعرية )مرتبطة ارتباطا ةثيقا بخيال الشاعر وافكاره , لان عن طريق الخيال الخصب يستطيعالشاعر ان يعبّر عمّا في داخله ويفجّر افكاره كي تصل الى المتلقى صورا ملموسةنتحسس عطرها ونتشمّم ألوانها . الشاعر الحقيقي يرى صوت العصفور كما يسمعه ويصوّرلنا الريح مجسّمة ويستطيع ان يؤنّسن الوجود ويلبسه عواطف وخلجات ومشاعر انسانية .

الصورةالشعرية تستطيع اداء وظيفتها التوصيلة عن طريق ( الرمز / الاستعارة / التشبيه /المجاز / والكتابة ) , ولكل واحدة منها تفسيرات خاصة بها . و تتيح للشاعر انيأخذنا الى عالمه الفسيح ويقحمنا عنوة فيه , فهو يكتب القصيدة في ذاكرته ومن ثمّيرسمها على الورق زاهيّة الالوان برّاقة الصور ويبعث فيها الروح والجمال ويلبسهاحلّة جميلة تجعل المتلقي يتفاعل معها ويعيشها ويتأملها ويغرف في تأويلاتها . انالشاعر الحقيقي يجب ان يكون كالمونتير السينمائي الحاذق يستطيع ان يحذف المشاهد (الصور الشعرية ) التي ترهّل القصيدة وان يضيف مشاهد / صور شعرية تجعل القصيدةتتوهّج اكثر ويكون منتهبا لئلا تتسلل الى قصيدة نفايات وزوائد تشتت فكرة القصيدةوتمحو بريقها . والمتلقي سيجد كلّ نصوص الشاعر عبارة عن لوحات صوريّة رُسمت بحرفيةعالية وبدراية وبفنيّة فذّة , كل النصوص جاءت هكذا صورها الشعرية , فمثلا نجد هذهالصور الرائعة في نصّ / الأشجار تصفق أيضا / الصباح الذي ارتطم بالبيوت كان لون الشمس وهي تشرق باذخة الابتسام ، الهواء الذي يحميني من بقايا عتمة الليل كان النسيم مسالما يمر حمامة وغصن زيتون ، الروح الذي تصحبني هائمة كعطر ماء الورد ينعش ما مات من خلايا الشم / وكذلك في نصّ / وحيدا أكتب على الماء / وجهك واحة باسمة وبيدر ألوان قمح ،وسادة من خجل وينبوع معنى غزل اتوق لضيائه على حانات العتمة وكؤوس الوجد ، طرز ليجدائلك الذهبية طريقا للوصول حيث اللقاءات المشبعة بالهوى وجهك نافذة انتقال بينالغيم والمطر يستحيل كلما جنت سماواتي، انا كالنورس أتعلم كيف تكتب أساطيلة الطائرةعلى بحرك لغة الرحيل وتباشير العودة / .

5- اللغة في القصيدة السردية التعبيرية

اللغة هي الجناح الذي به يحلّق الشاعر بعيداوتتشكّل القصيدة حيّة نتلمس عطرها وتلاحقنا صورها بدهشتها وعمقها وفضاء تأويلهاوالاستئناس بلذّتها الحسيّة والجمالية تملأ ارواحنا بالجمال واللذة , اللغة هيالشجرة الوارفة التي تحتها نستظلّ فيئها وتأخذنا الى عوالم بعيدة تنتشلنا من كلّهذا الضجيج الذي عمّ الافق وسدّ منافذه وانتابنا خمول في الذاكرة ونقطف ثمارهاناضجة لذيذة . اللغة هي اليقظة والنشوة والدفء والضوء الذي ينبعث من اعماق الذاتتسحبنا من نومنا العميق تستفزّ خمولنا . على الشاعر الحقيقي ان يمتلك لغة خاصة بهيحنو عليها ويشذّبها ويعمل عليها كالمونتير الذكي يقطع المشاهد التي تجعل القصيدةمترهّلة ويضيف اليها ما يوهّجها اكثر ويفتح للمتلقى أفقاً شاسعا للتاويل , يغامرالشاعر بلغته ويرتفع عن لغة الواقع كونها لا تمتلك عنصر المفاجأة والغواية يجعلمنها قطعة مشحونة تستفزّ الخيال وتمارس الانزياح الشديد حيث نهرب اليها من نهارناالمكسو بالتشتت والضياع والحيرة نتيجة ما يكتب اليوم باسم قصيدة النثر وهي براءةمن هذه التهمة .

وبعد ان حققت قصيدة النثر هذه المصالحة معالذائقة العربية بالخصوص وكسرت حاجز النفور بينها وبين القصيدة العمودية ومنحتنافسحة تنفّسنا من خلالها هواء جديدا صار لزاما للشاعر ان يمتلك لغة يشكّلهاويدمّرها كيف يشاء , لغة تفقد الحدود وتتفتّح عن عوالم تنبعث مما وراء الحلم تمتلكحضورا قويّا تلهبنا بسحرها وجماليتها . واليوم تظهر اللغة السردية التعبيرية منحتالنصّ امكانيات كبيرة , لان السرد يتطلب وبشكل ملحّ لغة عذبة سلسلة تترقرقكالينبوع تحلّق عاليا مدهشة مبهرة تنفذ الى اعماق النفس والوجدان عند كل قارىء .نجد أن لغة الشاعر : فاضل ضامد قد حققت الكثير من ذلك وتجلّى في جميع النصوص , لانجد نصّا إلاّ وكانت لغته لغة عظيمة , لا يمكننا أن نختار هنا جميع هذه النصوص ,وأنما سنختار نصّا واحدا كدليل على عظمة اللغة السردية التعبيرية في هذا الديوان ,ففي نصّ / الخرق الثاني /يومالحصاديحتفلالمنجلبأسنانهوترتعدالسنابلالريحخافقةمرعوبةحتىالترابدكباقدامالفلاحفانحسرالماءليبدوالجفافكأنشفتيكمزقهاذئب، سحنتك كأي رحيل بلا عودة وان الحقائب فارغة ، كأن عينيك تورمت لاختفاء الضوء، ثم تمسك روحك على نهر آفل ، الغربان تورد منقارها من جسدك المنهك ، تركت فينا خواء تدور فيه طيور الشوق لتأكل بيادر الحب فنسفت مواثيق الثبات فغدا القلق اشرعة تبحر على حجر لينهش ما تبقى من طفولتنا ، كأن وجهك غادر وانت تكتب وهما .

6- الموسيقى والايقاع الحسّي في القصيدة السردية التعبيرية

المفردة في الشعر هي الاداة التي تعبّر عنالصورة والخيال والموسيقى والعواطف والمشاعر داخل القصيدة الشعرية و تنقل افكارالشاعر الى المتلقي . فالجملة الشعرية مثلا تتكون من مفردات ( حرف – اسم – فعل )وكلما تآزرت مع بعضها أعطتنا صورة واضحة المعالم تدهشنا بجماليتها وخيالها المنتجالخصب وتدغدغ مشاعرنا واحاسيسنا و تطربنا بموسيقاها .

ان اللغة السردية التعبيرية منحت الشاعر فضاءشاسعا وفسحة كبيرة لأستثمار طاقاتها , ومنحته ايضا زخما شعوريا قويّا وكذلك ايقاعاموسيقيّا تطرب له الاذن والنفس . انّ كل مفردة في القصيدة السردية تمتلك جرساورنينا يستطيع الشاعر من خلال اختياره الصحيح للمفردة وقوة رنينها وموسيقيتهاومجاورتها للمفردة الاخرى وتآلف الالفاظ مع بعضها ان يشكّل منها مقطوعة موسيقة داخل القصيدة , وكذلك المفردات مع بعضها فينفس المقطع بامكانها ان تعطينا موسيقى خاصة بهذا المقطع , وهكذا في مجاورة المقاطعمع بعضها وانسجامها وتنافرها اذا لم تكن متكلفة سوف تسمع الاذن انغاما تنبعث منداخل القصيدة . وكلما كان الشاعر حاذقا في اختيار المفردة ذات الجرس الموسيقى وعملعلى حذف المفردة البائسة موسيقيا والتى لا تحمل جرسا معينا كانت الموسيقى صافيةوواضحة وساحرة تنبعث من القلب وتدخل الى القلب نتحسّسها ونشعر برطوبتها وهي تغمرنابفيض من المتعة والدهشة . نفس المفردة في المقطع الواحد من القصيدة تستطيع ان تبعثفي اعماقنا موسيقى خاصة عن طريق ما توحي اليه من معنى , وهنا سنختار نصّ / جندب / في عراء السرادق . الجنادب تقضم خيط السماوات فتحفر لغزا . يثور كالبركان . أينما وضعنا أصابعنا نغلق أبوابالترهات . هكذا علمتنا الجدة أن ننحت تحت ظلامالليل عذرية الورد . ونرمي مياسمها في مواقد الدفء .حيت لا نجدة الا بعض صراخ الأفكار وهيتنبض كالأفاعي في وكرها المغلق . تعلمنا في المنفى القديم أن أكثرالأنهر تتشعب خلجانها من خلجاتنا . وأن مصباتها في أباريق الروح .حيث تسقي عطش الوجد . والخيبات حين تلوح لنا نهرب . الا أن اقدامنا تترك آثارا فتتبعنا . تعلمنا أن عواصف الأحلام القادمة منأرصفة الوسادة . تنثر علينا أملا مبتورا لا معنى له غيرأن الجندب كان واحدا من احلامنا المريضة. / . أنّ مجرّد ان نسمع بمفردة / الجندب / سيتبادر الى أذهاننا صوته وهويقفز ما بين الأعشاب والصوت الذي يُحدثه اثناء قفزاته , والصوت الذي يُحدثه أثناءالقضم والطيران , أما في / في عراء السرادق / فأنّ المتلقي لو تأمّل قليلا في هذهالمفردات فسوف يستشعر ماذا يحدث لو حرّك الهواء هذا السرادق وكيف سيكون الصوتالمنبعث منه , أما / يثور البركان / فهنا سنتلمّس ونستشعر بصوت الانفجار الرهيبالذي يحدثه البركان , وكيف سيكون تدفق حممه البركانية , وكيف تسيل على الأرض وهيتحرق كلّما يصادفها , سنسمع حتماً اصوات الأحتراقات التي تحدث في الطبيعة , أمامفردة / الجدّة / فسوف تاخذنا وتثير فينا ذكريات بعيدة عن حكاياتها لنا , وسنسمعصوتها الواهن بيننا , أما مفردة / المواقد / فسنستشعر بصوت النار وهي تلتهب فيالموقد وتأكل الحطب , أما مفردة / صراخ / فستجعلنا نعيش لحظة هذا الصوت المتدفقبقوّة وعلى شكل موجات صوتيّة عالية , أما مفردة / الأنهار ومصبّاتها / فستوحي لنابصوت المياه المتدفقة فيها , أما مفردة / العواصف / فستشعرنا بقوةّ الريح وهي تصرخفي كلّ مكان وما تحدثه حين تصطدم بكل ما تواجهه في طريقها . أما في نصّ / لسان..وتر صامت / حنجرتي لا ترغب بالغناء موسومة بالصمتحتى بلغت اللسان ما كان للفم ان ينزلق تحت مراسيم موت الصدى وهو يخفق بشفتيه يحاولان يرتب موطئ قدم تحت عباءة الصوت الا أن الوادي كان فسيحا لا يسمح للريح ان تموتعلى أذاننا كأن موعد حصاد القحط يحتفل كنبتة يباب نجتره أواخر المسرات (الهلاهل) مسامير يطرقها العازفون على اللهاثوالرأس حين ينحني يموت الخجل وحيدا تحت الرقاب وتسفر عاهات التملق فزاعة حقل عارية / , فأننا نجد في كل مفردة صوتاً ورنيناً وموسيقى /الصمت / الغناء / ينزلق / الصدى / يخفق / يرتّب / الصوت / الوادي / للريح / تموت /حصاد / الهلاهل / يطرقها / العازفون / اللهاث / فزّاعة . هذا من حيث المفردات ,ولكن من حيث المقاطع النصّي نجد / وتر صامت / حنجرتي لا ترغب بالغناء / ما كان للفم ان ينزلق تحت مراسيم موتالصدى / وهو يخفق بشفتيه / يرتب موطئ قدم تحت عباءة الصوت / الا أن الوادي كان فسيحا لا يسمح للريحان تموت / (الهلاهل) مسامير يطرقها العازفون على اللهاثوالرأس /. هكذا يجب أن نقرأ النصوص الشعرية ونتحسّ رهافتها ونستشعر من خلال مفرداتهاالموسيقى التي تنبعث من خلالها .

6 – الإيحاء والتجلّي في بناءالقصيدة السردية التعبيرية

يستطيع الشاعر الحاذق ان يستخدم الإيحاء بطريقةابداعية يعبّر فيه عن مواقفه النفسية , كونه من العناصر المهمة في بناء القصيدةفهو يلعب دورا مهما في عملية الابداع ويمنحها العمق والتأثير لدى المتلقي .فالإيحاء يستخدم للتأثير في ذهن المتلقي بفكرة معينة , وكلّما كان الايحاء قوّياازداد تأثيره , لذا لابدّ ان يتقن الشاعر طريقة يحدث فيها تأثيرا ايجابيا يرسم منخلاله صورا تتزاحم في ذهن المتلقي وتثير انتباهه وهذا ما يسعى اليه الشعر . وهناكطرق يستخدمها الشاعر في الايحاء عند المتلقي , فاما يكون عن طريق المفردة التيتدخل في النسيج الشعري , او عن طريق الصورة الغريبة والمثيرة , او عن طريق الالوانالتي يستخدمها في داخل هذا النسيج , وكل واحدة ستؤثّر حتما على حواس المتلقي وتثيردهشته .

سنختار نصّا واحداً كدليل على الزخم الهائل منالأيحاء في هذا الديوان وهو / هندسة .. حين نكون هلام / يضعنا امام زخمابداعي غريب عن طريق استخدامه للاشكال الهندسة التي تصدمنا منذ عنوانها حيث استخدممفردة / هندسة / ومفردة / هلام / حيث التناقض ما بين الشكل المنتظم واللامنتظم فيمحاولة لصناعة الغرابة واللامتوقع ورسم صورة إيحائية مثيرة لدى المتلقي .

اننا امام لوحة تجريدية استطاع الشاعر رسمهابالكلمات بدلا عن الالون , وظف الأشكال الهندسية مستعينا بها لتوحي لنا هذهالاشكال المنفردة مرة ومتداخلة مع بعضها مرّة اخرى عن حجم المعانات والتشظّي فيالذات الشاعرة , هذه الصور التشكيلية كان يريد من خلالها جمالية شكلية لكونهاتمتلك من الدلالات الرؤيوية والتعبيريةالصورية ما يمنحها عمقاَ وصراعا مستمرا داخل النصّ , وكذلك رؤية جدلية ما بينالذات المقهورة والواقع الشرس .

وبالعودة الى النصّ نلاحظ هذا الأرباك الذي يخلقهالشاعر في ذهنية المتلقي وخلق صور مستفزّة وتأجيج الصراع , فمثلا نقرأ ../ علىالمربع الدائري كان يقف المثلت الافقي ليضيء دروب المستطيلات المعينية وهي تنسكبمن دلو الاهرامات المنبسطة على ارجوحة مغلقة ../ .. انّ الشاعر استطاع حشد عددكبير من الأشكال الهندسية في هذا المقطع الشديد التكثيف / المربع / الدائرة /المثلث / المستطيلات / المعين / الهرم / , ان اغلب هذه الاشكال الهندسية تعبّر عنهزيمة الانسان وصراعه وجوديا وفكريا واجتماعيا وسياسيا , وكذلك عن الأنظمةالأستبدادية وصراعه في دائرة مغلقة لا سبيل للذات من الخروج منها , او هي عبارة عنحواجز تحيط بالذات الساقطة في الفتن ووسط هذا الاضطراب الذي يعمّ الواقع , وربما توحيلنا بمستوى التهديد المستمر الذي تعانيه هذه الذات يوميا وانهيارها وسقوطها . وهنانقرأ ايضا هذا القلق والخوف والمعانات في هذا الواقع الموبوء مستعينا بالاشكالالهندسية / الكرة – الدائرة / المخروط / المثلثات / المكعب / المربع الخطوطالمستقيمة / التحدّب منحينيات / ليزيد من حالة الصراح في لوحة تشكيلية مثيرة ,فمثلا نقرأ هنا ../ قلقلة تلك الكرة السائلة كالمخروط هاربة من وكر المثلثاتبزواياها الخيطية، حتى المكعب بنى داره على مربع مهاجر، قاسية هذة الخطوط كلمااستقامت يظهر التحدب عرضيا كأن المواقف عمر بلا آفاق وكأن العمر منحنيات بلا فائدة../ ..هذا القلق المستمر واللاجدوى والانهزامية لدى الذات الشاعرة والمصيرالمجهول الذي ينتظرها , وشحن هذه الاشكال الهندسية برمزية محببة تدفع المتلقيالمبدع الى الوقوف عندها طويلا في محاولة فكّ شفراتها والبحث عن التأويل المناسبلها وقراءتها قراءة ابداعية منتجة . ونقرأ ايضا ../ .. تبقى صورتي هندسةالمرايا ثالوثنا العمق نمد اصابعنا فيرتجف الهلام حينها نختزل البصمات بقضمات منورق ونغادر كأرغفة فارغة من دقيق ساعاتنا المترهلةعلى أعمدة النور فتبقى الطرقات تطوي نفسها لتترك الخطى على التراب يمحوها مهندسالريح وبارع العواصف على مقابض الانزياح ../ . .هذا التشتت والتشظّيوالتقاطع معبّرا عن التصدع في الذات والانهيار بسبب الظلم والتسلّط والاستبدادوبشاعة الواقع اليومي , يحاول الشاعر ان يرسم لنا ملامح صورته عبر هذا الاشكالالهندسية في زمن مغلق وبنظرة تشاؤمية . ويختتم الشاعر نصّه بهذه اللوحة الغريبةوالمثيرة ../ .. نبقى مستعمرة لأعمال بيكاسو وبراكثم ينهال علينا محتلون اخرون لا يحملون حقائب الاسعافات لنتخلص من رتم هذا اللحنكأن بوق الأنابيب يمتص أصواتنا لنعود اجسادا صامت ../ .. حيث تبقىالذات الشاعرة التي تمثّل الجماهير المغلوبة على أمرها منهزمة تحت رحمة القمعوالفساد تعبّر عن حالة النفي والغربةوالفناء .

وختاماً , فقد جاءت جميع نصوص هذا الديوان عبارةعن لوحات فنيّة رسمها الشاعر : فاضل ضامد , بحرفيّة العارف بمكامن الابداع والجمالوالفن والشعر , وكأنّه كان يمسك فرشاة وليس قلما حين يكتب قصائده , فرشاة يحرّكهاكيف يشاء فتتشكّل هذه الكتل اللغوية – اللونيّة المثيرة للدهشة والذهول . لقد كانتهذه قراءة في تجلّيات اللغة في القصيدة السرديّة التعبيريّة لديوانه المعنون / وشمٌ فيذاكرة الحلم / , أنا متأكد بأنّ هذا الديوان يحتاج الى قراءات متعددة لغرض أكتشاف المزيد من الابداع والمزيد منالفن والجمال والشعر .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع