في ذكرى رحيل الأديب عبّاس يحياوي

167

في ذكرى رحيله
الأديب عبّاس يحياوي : تجربة شعريّة باذخة وجهود علميّة متميّزة

د. محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة
كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنابة ،الجزائر

 

هو عيّاش يحياوي ؛ وُلد سنة: (1376هـ/1957م)،في منطقة( عين الخضراء) ؛ التي تقع في الجانب الشرقي من مدينة (المسيلة) الجزائرية العريقة ، ونشأ في أسرة بسيطة ومتواضعة،و ترعرع في كُتاب منطقته ؛ فحفظ قسطاً من القرآن الكريم بها، وبعد أن زاول تعليمه الأول ؛ تلقى المبادئ الأولية في الفقه،والنحو، والعقائد، وبعد إتمامه لمراحل التعليم القاعدي ،تخرج بتفوق من المعهد التكنولوجي لتكوين الأساتذة ببوزريعة في(الجزائر العاصمة) ،وبعدها انضم للعمل في قطاع الصحافة ،و عمل بجريدة«الشعب»، و اشتغل لعدة سنوات في أسبوعية: «الشروق العربي» ،و أصبح مديراً جهوياً لجريدة «الشروق» بالغرب الجزائري في مدينة(وهران) ، وكتب فيها مقالات كثيرة،و بعد أن انتقل إلى دولة الإمارات العربية المتحدة سنة: (1418هـ/1998م) عُيّن محاضراً في «أكاديمية الشعر» بأ بوظبي ،وأصبح كبير الباحثين في«دائرة الثقافة والسياحة بأ بوظبي » ؛ حيث عمل بها سنوات طويلة،و أصدر عشرات الأعمال العلمية التي تتصل بالتراث الثقافي في دولة الإمارات العربية المتحدة ،والخليج العربي، كما تولى رئاسة مكتب جريدة «الخليج» ؛ التابع لصحيفة الخليج الإماراتية العريقة ، كما رأس قسمها الثقافي لعدة سنوات ؛ وبفضل جهوده الكبيرة أضحت الصحيفة من أهم وسائل الإعلام المُهتمة بالشؤون الثقافية على مستوى الخليج العربي، وقد عُيّن بعدها مُديراً لتحرير الصحيفة(الخليج) ،كما أشرف على تحرير مجلة (شاعر المليون) ،وتولى التدقيق اللُّغوي فيها ، و نظراً لخبرته، وتميُّزه ، ودقته ؛ فقد عُيّن عضواً لتحكيم العديد من المسابقات العلمية ،والثقافية ،والأدبية، ومن بينها: « مسابقة رابطة أديبات الإمارات»،و«جائزة لطيفة بنت محمد لإبداعات الطفولة»،و«مهرجان الشعر العُماني»،و كان عضواً في اتحاد الكتّاب الجزائريين منذ سنوات الثمانينيات من القرن المنصرم ،وقد توفي الأستاذ(عيّاش يحياوي) بدولة الإمارات العربية المتحدة في مدينة (أبو ظبي)،يوم الاثنين : (22جُمادى الآخرة1441هــ) ،المُوافق لـ (17فيفري2020م) .
ولا يُمكن لكل من يتحدث عن الباحث و الأديب (عيّاش يحياوي)،أن يُغفل الحديث عن أنشطته الثقافية ، والأدبية المُتنوعة ، والغزيرة ،إلى درجة يصعب الإلمام بها ؛ فهو يُعدّ صوتاً شعرياً متميزاً، وصاحب تجربة شعرية باذخة ؛ أسهمت بشكل كبير في تطوير مسار الحركة الشعرية الجزائرية المُعاصرة ؛ فالشاعر (عيّاش يحياوي) أحد الوجوه الثقافية والأدبية البارزة على مستوى المشهد الثقافي،والإبداعي الجزائري،امتدت تجربته مع الكتابة إلى أكثر من أربعة عقود،تميّز بالغزارة في كتابة النصوص الشعرية ؛ فقد أسس لنفسه مكانة داخل الإبداع الأدبي الجزائري منذ عمله الأول الموسوم ب: «تأمُّل في وَجه الثّورة»(1983م)، وما تبعه من أعمال إبداعية أخرى تكتسي أهمية بالغة، وهي ما تزال بحاجة إلى دراسات عميقة، وتأويلات مُتعددة، ومتنوعة، ومن بينها نذكر: «عاشق الأرض والسنبلة» ،والذي صدر سنة : (1986م)، و« وشم على وجه حفيد » ،و «صهيل الأحزان» ، و«انشطارات الذي عاش سهواً» ،سنة: (2000م)، و «الصعلوك»،و« عبور الجنازة ما يراه القلب الحافي في زمن الأحذية» ،والذي صدر عام : (2000م) ، و«قمر الشاي» ،وقد طُبع عام: (2008م)،و«جزر الإمارات المُحتلة : طنب الكبرى ،و طنب الصغرى ، وأبو موسى»، و«تباريح بدوي متجول» ،والذي صدر عام: (2010م) وغيرها.
كما أنجز الباحث والأديب(عيّاش يحياوي) مجموعة من الدراسات الأدبية ،والعلمية ،و من بينها نذكر : «ابن ظاهر : شاعر القلق والماء»،وقد طُبع في دولة الإمارات العربية المتحدة ،عام: (2004م) ،وهو كتاب يتناول بالدراسة والتحليل شعر وحياة الأديب الإماراتي الماجدي بن ظاهر ؛ الذي يرجع غموض شعره إلى أن اللهجة التي كُتب بها قد اختفت اختفاءً تاماً تقريباً،وقد اعتمد الباحث(عيّاش يحياوي) في قراءته لشعر ابن ظاهر على محاولة التقاط ما بين السطور،والتأمل،والمساءلة،ورأى أن منبع القلق عند ابن ظاهر ينطلق من تحليله للأسئلة الكبرى في الحياة،والوجود،والموت ؛ فقد تأمل في علاقات الكائنات بمحيطها،وقوتها، وضعفها،وأشجانها،وأفراحها،كما حرص على عدم تقليد ومحاكاة من سبقه،فحاول التجديد،وتجنب التكرار قدر الإمكان،وما تميز به ابن ظاهر هو الأسلوب الذي أبدع به ؛ الذي يختلف عن سواه من الشعراء ، وقد كرس دراسته هذه للكشف عن مواضع الشجن ،وأسئلة القلق في شعر الماجدي بن ظاهر ؛ فرؤاه المعمقة التي نبعت من تجاربه في الحياة ، ومن فهمه الشامل لأعماق الوجود ؛ هي ما جعله يُقدم ملاحظات مهمة،وشديدة الحساسية عن مصير الإنسان، وعلاقاته بالكون،وبالآخر ؛ فقام بالربط بين عناصر الطبيعة،وبين وجود المرء، ومصيره، فكثيراً ما يجد قارئ شعره أنه يُذكّر الناس بعدم الاغترار بالحياة،فشبهها بالحية،وأشار إلى تجنب التعامل معها خارجياً،ولابد على المرء أن يعيها ويحيط بها من شتى الجوانب. وقد كرس الماجدي بن ظاهر حياته العاصفة ، والمؤلمة من أجل حمل رسالة عميقة،وثقيلة،تنم عن معرفة شاملة للروابط الخفية بين الإنسان وسلوكياته.
كما أصدر الأديب والباحث (عيّاش يحياوي)، كتاب: «العلامة والتحولات»، عام: (2006م)،وكتاب: «أول منزل :دراسة وحوارات حول خمسين مثقفاً من الإمارات»،و« لقبش: سيرة ذاتية لحليب الطفولة»، وقد صدر سنة : (2008م)، و( لقبش ) ؛ هو الاسم الذي كانت تنادي به أم (عيّاش يحياوي) ابنها، و«السهم الأبكم : مثقفون انتبهوا لعبوره وكتبوا»، وذلك عام: (2010م)، وقد نال الأديب والباحث(عيّاش يحياوي) العديد من الجوائز الوطنية ،والعربية ،ومن بينها: جائزة« أحسن كتاب حول الإمارات»، وذلك خلال مسابقة: « معرض الشارقة الدولي للكتاب» ،لعدة سنوات ،و « جائزة سلطان العويس للإبداع الشعري»، سنة: (2015م) بدولة الإمارات العربية المتحدة، وقد أسس جائزة« لقبش للإبداع الشعري»؛ من أجل تشجيع الحركة الثقافية والأدبية في الجزائر .
والحقيقة أن الغوص في عوالم الإبداع الشعري، وجمالياته عند الشاعر المتميّز (عيّاش يحياوي) لهو مغامرة غير محسومة النتائج ؛ فهو شاعر من طراز فريد،و صاحب شاعرية مكتملة ناضجة،ورؤى فلسفية، وفكرية تدفع القارئ إلى التحليق نحو آفاق رحبة،وعوالم ليست لها حدود،كما نلاحظ قدراته العفوية على التعبير،ويتسم بصياغته الجذابة،وإيقاعه المنغم الجميل، ويُلاحظ القارئ لأعماله الشعرية أن أغلب شعره في قد صيغ بأسلوب سلس ،وبلغة عذبة،و رقيقة،وقد استعمل الشاعر كلمات المعجم تارة على وجه الحقيقة،وتارة على وجه المجاز(الرمز)،واستخدم صوراً ،وأخيلة، ورموزاً من القديم بأسلوب حديث، وأغلبها منبثقة من المدارك الحسية، وحاسة البصر هي أنشط الحواس في تشكيل الصور عنده ، و تمتاز قصائده باحتوائها على أفكار،ورؤى فلسفية،و مضامين اجتماعية، وأخلاقية راقية،كما أنها مفعمة بأحاسيس رقيقة،ومشاعر فياضة،كما نجد في أعماله عدداً غير قليل من القصائد الرؤيوية ذات الطابع الفلسفي، والتأملي ؛ فالمتأمل في شعره يستشعر قدرات الشاعر( عيّاش يحياوي) العالية على تأمل الأحزان، والآلام،ونجد مجموعة من القصائد تتصل بذات الشاعر، وآلامها ،وأشجانها في هذه الحياة،وبعضها الآخر ينفتح على الهموم الاجتماعية، والقضايا الوطنية ، ودواوينه الشعرية تحفل بالمجاز، والصور المتخيلة ، و المتنوعة ، وتتميز بامتلاكها كثافة دلالية ضخمة ؛ ولذلك فهي تقبل كثيراً من التأويل ؛ فهي نصوص نابضة بطاقات تعبيرية كثيفة،وقد كتبت بلغة شعرية جميلة،وأنيقة،وقد بدا لنا أن الأديب (عيّاش يحياوي) يخوض غمار تجارب فنية تستهدف مجموعة من القيّم الجمالية المخصوصة ،و بالنسبة إلى أبعاد المكان في شعره ، نُلاحظ أن حضور المكان باسمه الحقيقي قليل جدا ؛ فشاعرنا يتخطى باستمرار حدود الأشياء الحسية ليصل إلى اللا محسوس، وإلى عالم الأفكار، والمشاعر،والمُثُل العُليا،والمُطلق،و لا يهتم كثيراً بتسمية الأمكنة،و لا يركز على تسمية المكان باسمه الحقيقي ،أو أن ينسب التجربة إلى مكان مُحدد يتعرف عليه القارئ دون التباس، ووصف الشاعر للطبيعة كذلك يمكن أن يتخيله القارئ في أي مكان، أو بقعة في العالم، و هذه الخاصية هي نتيجة منطقية للاتجاه الوجداني ؛ فالوجدانية تسمح بالتجريد،وتفتح آفاقاً للتعميم، أكثر من التخصيص، والتحديد المركز،و بالنسبة إلى اللُّغة الفنيّة الموظفة من قبل الشاعر (عيّاش يحياوي) ؛ نُلاحظ أنها قد توزعت على حقول دلالية متنوعة المفاهيم، وقد جاء هذا التوظيف الفني للُّغة الأدبية تعبيراً عن رؤى معينة، فهو يؤسلب لغته على أساس من المحسنات البلاغية المعروفة من استعارة، وتشبيه،ومجاز، وفيما يتصل بالمعجم الفني،أو المستوى المعجمي عند الشاعر(عيّاش يحياوي) ؛ فقد اتسم بالثراء ،وتوزع على مجموعة من الفضاءات، لعل أبرزها:وصف الفضاء: (فضاء الطبيعة):والذي تجلى من خلال الزمن ومؤشراته،والمؤشرات المكانية، و من أبرز ما يتجلى للمتأمل في شعره أنه ينتقي مفردات من التراث التليد،ويمزج في بعض الحالات بينها ، وبين اللغة السائدة في هذا الزمن بغرض تحقيق تواصل سليم مع القارئ،دون إهمال الجانب الجمالي ؛ فعيّاش يحياوي لديه هوس بتصوير المشاعر، والانفعالات من خلال مجموعة كبيرة من الألفاظ المُحملة بالدلالات الشعورية، والجمالية، التي تتردد كثيراً في قاموسه الشعري الثري،وهي ألفاظ تدل على عُمق تجربته الشعرية المُتميزة ، وقد شيّد الشاعر في بعض قصائده جسور تواصل وطيدة مع تراثه العربي،حيث إنه ينظر إلى هذا التراث بحسبانه مصدر إلهام، وإيحاء مهم لا غنى للشاعر عنه ؛ فعلاقة الشاعر (عياش يحياوي) بالتراث لا تقوم على التقليد، وإعادة إنتاج التراث كما هو ؛ بل تقوم على التفاعل العميق مع عناصره،ومعطياته، وذلك بغرض تطويعها، وتجسيدها في قصائده، واستغلال طاقاتها، وإمكاناتها الفنية للتعبير عن هواجسه، وإيصال أبعادها النفسية، والشعورية إلى المتلقي ؛ فالتراث يُعدّ بمصادره المختلفة منجم طاقات إيحائية لا ينضب له عطاء ؛ فعناصر هذا التراث، ومعطياته لها من القدرة على الإيحاء بمشاعر، وأحاسيس لا تنفد ، والدارس لشعره يلاحظ أنه قد تأثر بمصادر تراثية عديدة،دينية،وأدبية،وتاريخية،كان لها الأثر الكبير في تعميق تجربته الشعورية ،وإرهاف أدواته التعبيرية،وأغلب القصائد تجسد هواجس الشاعر الذاتية،وتصور أحواله النفسية،وانفعالاته، وتجاربه الخاصة المستمدة من واقع الحياة بمعضلاتها ، ومظاهرها المتعددة، ويتجلى من خلالها وهج المعاناة، وحرارة الصدق،والحساسية المُرهفة.
يقول عنه الباحث والناقد الدكتور (عبد الملك مرتاض): «…بدأ عيّاش يحياوي ينشر بعض أشعاره في أواخر الأعوام السبعين من القرن العشرين. ويعدّ أحد شعراء الحداثة في الجزائر ، وأحد الذين يمتلكون لغة أنيقة نقيّة معاً تجعل من قراءة شعره متعة فنيّة. كما ينماز شعرُه بترداد بعض العبارات والألفاظ فيوظّف تكرارها توظيفاً فنّيّاً في كتابة قصائده ، دون أن يسقُط في التّأفيقيّة والتسطيحيّة التي تطبع بعض الكتابات الشعريّة للكتّاب غير الشعراء الذين يُصرّون على كتابة الشعر…، وكأنّ عيّاش يحياوي ببعض ذلك ينحو منحى نزار قباني ،ولو من بعيد».

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع