في مصعد المشفى رايته يبكي رجلٌ جاوز الثمانين من عمره موضوعٌ بسلة كبيرة
مصنوعة من جلد إطار السيارات ، الجو شديد البرودة والرجل لا يستر جسده الا
قميص داخلي من القطن ، أرعبني منظره تكادُ تُعدْ عظام جسده .
غادرت المصعد مُسرعة للقيام بواجبي الذي طلب مني بالإسعاف السريع كنت مناوبة
ليلية في المشفى التي اعمل بها ، بعد ساعة من الزمن أنهيت حالة الإسعاف وعدتُ
للمصعد ثانيةً كي أعود لمكان تواجدي الرئيسي راعني وجود الرجل من جديد وحيداً
في المصعد هنا تبدل خوفي وزادت التساؤلات في نفسي حول هذا الكهل اتصلت بشرطة
المشفى كي يعيدونه إلى سريره وبقيت أنتظر إجابة من العجوز عن من يرافقه في
المشفى وفي أي شعبة هو نزيل كي أساعده في الوصول لشعبته . الإجابة الوحيدة منه
كانت دموعه التي تتساقط فوق وجنتيه وصل شرطي المشفى لكنه تفاجئ كما تفاجأت أنا
من وجود هذا الكهل واتصل بإذاعة المشفى منادياً من يرافق العجوز التائه عن
شعبته . انتظرنا طويلاً كي يأتي مرافقه ليأوي هذا الرجل في سريره لكن دون جدوى
والإجابة
كانت مبهمة من أحد عمال النظافة حين قال لنا أن العجوز هنا منذ ثلاث ساعات فلا
توجد شعبة من شعب المشفى يمكنها قبوله ، الرجل مجهول الهوية هناك من تركه في
المصعد واختفى تملكتني الحيرة ماذا أفعل الساعة تجاوزت الرابعة صباحاً والشرطي
ترك العجوز وعاد لمقر عمله بعد ان ساعدني في سحبه لمكان قريب من مكان تواجدي
هنا قمت بستر جسده بتغطيته بحرام صوفي خاصتي وقدمت له القليل من الطعام الذي
هو بحوزتي تناوله الرجل وعيناه المنكسرتان تحدق بي تناولت كوباً من الشاي
وناولت العجوز كوباً لعله يهدأ ويكف عن البكاء أخيراً خرج العجوز عن صمته
قائلاً : سأروي لكِ حكايتي فقد توسمت فيكِ الرحمة ،
لكن أعطيني وعداً أن لا تخبري ابني عن مكان وجودي قلت أعدك يا جدي أن أحفظ سرك
ولا اتفوه به لأي شخص .
قال : فواز ابني البكر لم يكمل تعليمه الجامعي حصل على شهادة البكالوريا
والتحق بالجيش للخدمة الإلزامية لسوء حظه كانت قطعته العسكرية ممن توجهوا
للبنان اثناء الحرب الطائفية فيها ، في تلك الفترة في لبنان حصلت معارك في
الجنوب بين الجيش الإسرائيلي والجيش اللبناني وحزب الله فقدنا فواز فيها هكذا
أُخبرنا لكن لم يُعثر على جثته طلبنا العوض من الله فيه وأقمنا مأتم العزاء له
لكن بعد ثلاث سنوات عاد إلينا في عملية تبادل الأسرى التي تمت بين حزب الله
وإسرائيل كم كان فرحنا عظيماً بعودته زوجناه سريعاً كي نسعد بأحفادنا منه بنفس
البيت الذي نعيش فيه أنا وأمه لأن أحوالنا المادية ضعيفة أما ابني الأصغر فقد
سافر لليبيا بعد عودة فواز لتحصيل لقمة العيش ، هناك تزوج واستوطن ، والبنتان
لدي تزوجتا وأيضاً غادرتانا، كل منهما وعائلتها في بداية الأزمة بسورية كلجوء
انساني فقد دمرت بيوتهم من قبل العدو داعش لعنهم الله ولم يبق لنا غير فواز
وزوجته وأبنائه الثلاثة نتقاسم لقمة العيش معاً في تلك الظروف الصعبة ، فواز
يعمل ممرض متمرن وزوجته تعمل بروضة أطفال أما أنا وأم فواز فلا دخل مادي يسند
تلك العائلة سوى دخلي من التقاعد . وأين هي أم فواز لماذا لم تأتي بصحبتك
للمشفى لترعاك وأنت في هذه الحالة —؟
هي عند أرحم الراحمين سقطت دموعه من جديد ، صمت قليلاً ثم تابع حديثه أم فواز
ماتت منذ عشر سنوات وتركتني أعاني من قسوة الحياة ومرارة العيش مع زوجة ابني
الظالمة وأحفادي فقد استولوا على بيتي لم يبق لي فيه غير مكان سرير في زاوية
برندة المطبخ التي لا اعرف فيها كيف أنام ومتى أستيقظ بسبب الضجيج من حولي .
منذ حوالي عام طلب مني ابني أن أوقع له على وكالة عامة كي يقبض لي راتبي
التقاعدي الذي اتقاضاه من الدولة كوني كنت اعمل موظفاً لديها كحارس ليلي ،
صحيح هو راتب قليل لكنه يكفيني لشراء ما أحتاجه من دواء ، منذ شهر سمعت ابني
يكلم زوجته دون معرفته أني أسمعه معتقداً أني نائم قال لها الحمد لله أخيراً
هناك من اشترى البيت مني ولم يبق هناك عائقاً مادياً أمامنا للسفر واللجوء غير
والدي الكهل الذي لن يستطيع تحمل مشقة السفر وعلينا أن نفكر فيه وأين سنضعه
سمعت كلام ابني تساقطت دموعي تألمت وكأن سكيناً غرزها بصدري ولم أقل له أني
سمعت حديثه فلا فائدة ترجى من الكلام وقد سبق السيف العزل ،
وها أنت الآن عرفت قصتي يا ابنتي فلم يعد لي مكان آوي إليه فقد أصبحت الأن
عبءً على من عملت طوال عمري لإسعادهم
لم أشعر يوماً بمرارة وقسوة الحياة كتلك اللحظة فما كان مني إلا تطيب خاطره
ببعض الكلمات وقولي لا تقلق يا والدي إن الله معنا ولن ينسى عبدٌ من عباده في
ضيق ولا يجعل له مخرجاً . وانتظرت بقرب العجوز حتى أتى مدير المشفى وتكلمت معه
قد يكون هناك حل لديه وفعلاً تجاوب المدير لتلك الحالة .
قال : نعم الان هناك مأوى دار العجزة الذين يأوون فيه من لا مأوى لهم ولا يوجد
من يرعاهم اتصل بهم هاتفياً كي يخبرهم بالحالة وطلب مني ان أكمل معروفي وأكون
برفقة العجوز واثنان من عمال المشفى كي يساعدوني بتهيئته كم فرحت بهذا التصرف
الإنساني من قبل المدير لكن ما ان وصلنا لمكان العجوز حتى وجدناه قد فارق
الحياة كان الله أرحم به من أولاده سقطت دموعي بينما عقلي يقول ليت هذا العاق
لم يعدْ لعائلته فقد كانت عودته بطعم العلقم—-انتهت
قصة من واقع الحياة
توقيع ماجدة تقي
من مجموعتي القصصية يحدثونك من القلب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.