عن العجمة .. وتردي الشعر
بقلم / محمود عبد الصمد زكريا
هل كان للفتوحات الإسلامية وما نتج عنها من اختلاط بين الألسن والأعراق حافزا لتفجير العديد من طاقات الإبداع في الثقافة العربية وعاملا من العوامل التي مكنت هذه الثقافة من تجديد أسئلتها وتنويع معارفها وخبراتها؟
الإجابة بالتأكيد هي نعم ..
لكنهافي الوقت نفسه قد شكلت خطرا على اللغة العربية ومدى تمكن العامة من الناس من تملك عبقريتها والإحاطة بقوانينها.
يقول أبو حازم القرطاجني ( القرن 13م )عن هذا الخطرفي نبرة جازمة:
“وانما هان الشعر على الناس كل هذا الهون لعجمة ألستنهم واختلال طباعهم. فغابت عنهم أسرار الكلام وبدائهه المحركة جملة فصرفوا النقص إلى الصنعة، والنقص بالحقيقة راجع اليهم وموجود فيهم”..( منهاج البلغاء وسراج الأدباء ص 124 ؛ 125)
إن عجمة اللسان هي نوع من الخروج من عالم اللغة، بموجبه، يعجز المرء عن التصرف في الكلمات وفق ما يفي بحاجاته التعبيرية والجمالية، إيصالا وتقبلا.
جاء في لسان العرب (ابن منظور / مجلد 12 ) مادة “عجم”:
“الأعجم: الأخرس.
والعجماء والمستعجم: كل بهيمة… سميت عجماء لأنها لا تتكلم
قال: وكل من لا يقدر على الكلام فهو أعجم ومستعجم…
تقول: هذا رجل أعجمي إذا كان لا يفصح، كان من العجم أو من العرب. “
يعني هذا أن عجمة اللسان حدث في منتهي الخطورة.
لا سيما أنها لا تتهدد طرفا واحدا من أطراف عملية الإبلاغ الشعري بل تعصف بجميع الأطراف
الشعر والشاعر والمتلقي. فهي إنما تقود، من جهة كونها نوعا من العجز عن الإحاطة بالقوانين التي عليها جريان الفظ ، إلى انكفاء مقدرة الشاعر على التصرف في الكلام وإجرائه وفق ما يضمن له القراءة والابتداع. وتؤدي، في الآن نفسه، إلى وهن الشعر وضعفه واكتفائه بالمألوف والمعاد والمكرور لأن العجز عن الابتداع يوقع الشعر في مجاراة العادي من الأقاويل أو في اقتفاء أثر المشهور المتداول ومحاكاته وتقليده.
ولعجمة اللسان مخاطر أخرى ؛
فهي التي تجعل المتلقي عاجزا عن تبين أسرار الكلام، فتشتبه عليه الطرق ويضيع الفارق بين الشعر والكلام الذي صور في صورة الشعر من جهة الوزن والتسجيع والتقفية
العجمة انحباس في اللسان…
ارتباك يطال ملكة التصرف في اللغة…
لذلك عدها القرطاجني بمثابة قوة معطلة للفعل الإبداعي، ماحية لجميع طاقاته. واليها أرجع ما آل اليه أمر الشعر من هوان… وهي ليست ظاهرة جدت في عصره بل هي حدث تاريخي له تراكماته وأطواره. فلقد بدأت قبل ذلك بكثير وتواصلت من بعده. يكفي هنا مثلا أن نعود إلى مقدمة لسان العرب ونجد ابن منظور(القرن الـ14 م) يشهد، في
نبرة طافحة بالشجن، على يتم اللغة العربية وانحسارها بعد أن أهملها ناسها و “تفاصحوا” في غيرها من اللغات. يكتب في مقدمة كتابه (مجلد1 ص 8 ) مبينا أسباب شروعه في تأليفه
فإنني لم أقصد سوى حفظ أصول هذه اللغة… وذلك لما رأيته قد غلب، في هذا الأوان، من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أمسي اللحن في الكلام يعد لحنا مردودا، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودا. وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير اللغة العربية، فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون وصنعته كما منع نوح الفك وقومه منه يسخرون ….
بهذا أيضا يحدثنا ابن خلدون في المقدمه (المقدمة ص 554 _568) فيذهب إلى أن “عجمة اللسان هي التي دفعت إلى التكلف والصنعة. وهي التي قادت الكتاب إلى تعسف الكلام وإكراهه على التشكل وفق طرائق تضمن لأصحابه التستر عن عجمة ألستنهم والتكتم على عجزهم عن التصرف في الكلام وفق حاجات الجنس أو الغرض الذي فيه يكتبون. وهو يرجع عجمة اللسان وما ينتج عنها من تعطيل للقوة الخالقة التي عليها جريان الإبداع إلى الشروط التاريخية التي حفت بالثقافة العربية. فيذهب إلى أنها كانت نتيجة طبيعية للفتوحات واختلاط اللغات والأعراق.
وهي أيضا نتيجة حتمية لخروج الحكم من أيدي العرب واستيلاء غيرهم من الأعاجم على أمور الملك والسياسة. والشروط نفسها هي التي أدت إلى إيجاد متقبل غير عارف بطرق الكلام وأسراره، غير قادر على تمييز الشعر من الكلام الذي صور في صورة الشعر أو ذاك الذي استعار منه البعض من مكوناته. ولم يكن وجود هذا الصنف من المتقبلين غير العارفين ببدائع الكلام دون نتاج. فبه استكملت الأزمة شروطه؛ وبه تمت الدائرة..
إن انغلاق الدائرة طي الشاعر والشعر والمتقبل هو الذي مكن المأزق من توسيع دائرتها. فسرعان ما أدى التواطؤ المسكوت عنه بين الشاعر والمتقبل، على تشييء الشعر والتعامل معه من زاوية قيمته التبادلية النفعية، إلى هوان الشعر. “فصار غرض الشعر في الغالب إنما هو الكذب ؛ وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من المتأخرين..
هكذا كف الشعر عن كونه فعل وجود. وكف النص عن كونه فضاء فيه تسترد الذات حريتها وتنكشف بكل أبعادها. ولم تعد الممارسة الشعرية ضربا من الابتداع لطرائق في التعبير جديدة توسع إدراك الإنسان بالعالم. صار الشعر مجرد نظم لا غاية لواضعه منه سوى التكسب والارتزاق. كف أيضا عن كونه كتابة تكشف رؤية الشاعر للعالم وموقفه من قضايا الإنسان. وصار صنعة ذات قيمة تبادلية. ثمة تبدل طال الموقف من الشعر. ثمة تغير طرأ على موقف الشاعر والمتقبل. فابتدأ الأفول تاريخا. هذا الإحساس المضني بالأفول القادم، بالنهايات الفاجعة، هو الذي مافتئ يعاود الظهور ويلون وعي المفكرين والمنظرين العرب منذ القرن العاشرالميلادي ..
عنه صدر ابن طباطبا مثلا، فتحدث عن محنة شعراء زمانه.(عيار الشعر ص 17 ) ومنه انطلق ابن منظور فأعلن أن كتابه يشبه، من جهة المهمة التي يهفو إلى تحقيقها، فلك النجاة الذي صنعه نوح قبل حصول الكارثة. وعنه صدر ابن خلدون فألف كتاب “العبر” ليمنح الأجيال اللاحقة فرصة الاعتبار مما حدث حتى لا يحدث مرة أخرى. وهو الذي جعل أبو حازم القرطاجني يختار لكتابه عنوانا يجسد رغبته في مغالبة هذا القدر العاتي: إنه منهاج للبلغاء في زمن التباس الطرق؛ وهو سراج يمكن أن يهدي الأدباء في عتمة الليل الطويل الذي بدأ يطبق على الشعر العربي.
هذا أيضا ما تلح عليه بعض الدراسات الحديثة. من ذلك مثلا ما يشير اليه إحسان عباس في كتابه (تاريخ النقد الأدبي عند العرب ص 496 ) في ما يخص حال الشعر في القرنين الـ12 والـ 13 م، إذ يذهب إلى أن اللغة العربية قد زحزحت عن مكانتها وجاءت اللهجات العامية لتنوب عنها في الاضطلاع بدورها. وكان من نتائج عملية الانحسار تلك أن الشعر العامي شهد انتشارا واسعا إنتاجا وتقبلا. وهو أيضا ما يذهب اليه حسن حسني عبد الوهاب في كتابه( مجمل تاريخ الأدب التونسي ص 235) إذ يجزم بأن ضياع الشعر في تونس في المرحلة المسماة بعصور الانحطاط لم يأت من قبيل الطفرة بل جاء نتيجة “لفساد اللغة الفصيحة بتوالي أزمنة الجهل” ؛ والجهل باللغة هو الذي أدى إلى انتشار الشعر العامي ورواجه بشكل عمق مأزق الشعر المكتوب باللغة العربية وزاده يتما ووهنا.
وافر الاحترام والتقدير ومزيد من الشكر لأسرة تحرير صحيفة فكر وشكر خاص للأستاذة / اروى شريف .