معظم الأيام أمشي باتجاه مكتبة قريبة من منزلي أقضي فيها ساعتين من المتعة
أقرأ ما يشفي غليلي من نهم القراءة من روائع كتابنا العظماء أمثال العقاد
ونجيب محفوظ وطه حسين والمنفلوطي وإحسان عبد القدوس ثم أعرج على الحديقة
العامة التي بجوار المكتبة ارتاح قليلاً قبل العودة لبيتي ، أنا لا أحب
الثرثرة وزيارات النسوة لمشاركتهم في الحديث عن الأزواج والأبناء والجيران تلك
الأحاديث لا تهمني .
في هذا اليوم حدث شيء جديد على برنامجي اليومي فقد اقتربت مني امرأة في
الحديقة بعد أن ألقت التحية عليَّ وسألتني السماح لها بالجلوس قلت تفضلي ليس
لديَّ ما يمنع جلوسك
قالت المرأة أنا فريال الحناوي بيتي قريب من هنا وشرفته تطل على تلك الحديقة
لفت انتباهي وجودك شبه اليومي هنا وبنفس التوقيت تحملين دفتراً وقلم وتجلسين
هنا وحدك لذلك نزلت من البيت كي ادردش معك، هل أنتِ مدرسة —؟
قلت لا أنا ماجدة تقي أعمل — قطعت هي إجابتي على الفور الكاتبة —؟
نعم أنا هي لكن أنا لا أعرفك فكيف تعرفيني أنتِ قالت : من النت أنا اتابع ما
تكتبينه على الفيس .
حوارنا استمر نصف الساعة ثم انصرفت كلتانا مودعة الأخرى
في اليوم التالي وجدت فريال تنتظرني في الحديقة ومعها حزمة أوراق بيدها
ناولتني إياها قائلة : تلك الأوراق فيها بعض ما دونته عن حياتي يمكن أن يكون
فيه عبرة للغير أو فكرة لقصة جديدة تكتبينها .
فعلاً أخذت الأوراق معي وبدأت أقرأ.
ما كتبته فريال موضوع جديد يستحق أن يكتب عنه ، خلال شهر كامل كل يوم أذهب
للحديقة علني اعثر على فريال الحناوي لكنها اختفت سألت عنها في تلك المنطقة
للأسف حتى اسمها كان وهمياً
مذكرات تلك المرأة تقول :
منذ أولى طفولتي كان لي شغف كبير بالسينما وفي متابعة المسلسلات التي تذاع في
الراديو أو نشاهدها على التلفاز .
عندما كبرت قليلاً صارت قراءة القصص هي متعتي الوحيدة أعيش مع أبطال قصصها
فأثني على تصرفاتهم أو انتقد بعضها الآخر حتى أني كنت انتقد بعض الروايات
البوليسية المترجمة كقصص أرسين لوبين والكاتبة أغا تا كريستي وكذلك الحبكة
لقصص الحب فكيف لي أن أقتنع بأن أحدهم قد جنَّ وهام في الصحراء لعدم زواجه من
حبيبته كما في سيرة عنترة بن شداد
وكيف لروميو وجوليت أن ينتحرا معاً لعدم تمكنهما من الزواج كنت أضحك عندما
أتذكر قصة مي زيادة مع جبران خليل جبران وكيف تعلقت مي وأحبت رجلاً لم تراه
وأحبها وكل ما جمع بينهما هو رسائل عشق بريدية تبادلاها عبر آلاف الأميال .
بعد تخرجي من الجامعة تزوجت زواجاً تقليدياً خوفاً من كابوس العنوسة ذاك السيف
المسلط على رقاب فتيات مجتمعنا العربي المغلق الذي يرفض أن تعيش المرأة
بمفردها دون زوج تنتمي إليه ليحميها من مخاطر وألسنة المجتمع ونظرته الدونية
للمرأة المطلقة أو العانس تزوجت بلا تعارف أو حب وكل من حولي قال لي الحب
سيأتي بعد الزواج بالمعاشرة لكنه للأسف لم يأتي وكان ثمرة زواجنا طفلين .
توفى زوجي بعد ذلك ، قتل في أول الأحداث في سورية بسيارة مفخخة ،
هؤلاء الطغاة داعش ومن يساندهم بالمال والسلاح استباحوا بلادي ودمشق الآن تلبس
ثوب الحدادِ وتسأل ترى من هؤلاء المتآمرين على بيع أرض بلادي .
بقيت مع أولادي نصارع للعيش في تلك الحياة المرة بلا معيل لنا مادياً أو
معنوياً أبي متوفي وأمي رفضت العناية بهم حين تقدم لي رجل ٌآخر يطلبني للزواج
كونها مريضة وهي بحاجة لمن يرعاها هكذا سارت بنا الحياة كمن يركب البحر و
تلطمه الأمواج دون معرفة ما سيحصل وهل سينجو ويصل شاطئ الأمان أم سيغرق ليكون
طعاماً لحيتان البحر وأسماكه لم يكن بمقدوري تحمل نفقات إكمال تعليمهم الجامعي
وقرب موعد ذهابهم للخدمة الإلزامية في الجيش لكنهما لم يرغبا بذلك عزًّ عليهما
أن يقتل المرء من هو شريكه في العيش في الوطن فقط كونه من طائفة أخرى أو ينتمي
لمذهب ديني آخر تركا سورية دون حتى اخبارنا أنا وأمي إلى أين سيتجهان .
استمريت على تلك الحال مع والدتي ستة أشهر نعيش وحيدتين كفرت بالعالم من حولي
والأهل وكم تمنيت الموت كي أرتاح فقد ضاقت بي دروب الحياة .
إحدى زميلاتي بالعمل نصحتني بشراء كمبيوتر ربما أجد فيه متعة لي وشيء من
المعرفة فتبعد عني الوحدة وفعلاً عملت بنصيحتها ولم يكن لي خبرة في الكمبيوتر
ومعرفة مسبقة بهذا العالم الافتراضي ولا أجيد اللغة الإنكليزية طلبت من زميلتي
عمل صفحة لي على فيس بوك ففعلت ووضعت لي صورتي عدت من عملي وفتحت النت كي العب
في المزرعة السعيدة التي اختارتها لي كي أتسلى بها ريثما أعرف كيف أكتب على
صفحتي وأدخل مجموعات لأقرأ وأشارك الآخرين فيما يطرحون من آراء ومعلومات ، ما
أذهلني وجود عدد كبير من الرجال يطلب صداقتي رغم خلو صفحتي من أي كتابة ورسالة
من أحدهم يقول لي كم هو طولك آلمني السؤال حينها جداً لسبب ادراكي كم هو
مجتمعنا ذكوري بنظرته للأنثى التي لا يهمه منها سوى شكلها الخارجي وشكل جسدها
في الفراش حين يطارحها الغرام
أمضيت عدة أشهر أتعلم كيف أتعامل مع تلك الشاشة الزرقاء هذا العالم الافتراضي
الذي يوجد بين طياته الكثير الكثير من الزيف والأقنعة انضممت لبعض المجموعات
وأخذت اتفاعل مع ما يكتبه البعض من أفكار مطروحة للنقد لكني لم أجد في تلك
المجموعات ما كنت أبحث عنه من فنون الأدب مما جعلني أنشئ كروب خاص يهتم فقط
بمن له علاقة بالأدب ومن تلك المجموعة تعرفت على الكثير من حملة الأقلام
الجيدة التي تلتزم بقضايا الوطن ولا تيأس برغم أن الحياة لا تعدنا بالأفضل لكن
المتفائلين يتوسمون فيها الخير وينتظرون على أمل التغير لحياة أكثر عدلاً
ورحمة للناس جميعاً رغم أن الطبقة الوسطى لم يعد لها وجود في مجتمعنا فقد قتلت
هي وأحلامها ودفنت بظروف سرية غير واضحة المعالم ..
مع ذلك لم يخلو الأمر من الوجوه المقنعة التي تخفي كل ما هو سيء خلف القناع
الذي ترتديه تظهره لمن تريد وتخفيه عن الآخرين عرفت فيهم الذئب مرتدياً قناع
الحمل الوديع والنصاب في جلباب وعمةَّ الشيخ التي لا تفارق أعلى رأسه وفي كثير
من الأحيان تكون الحقيقة مرة وصادمة والكلمات الجميلة مزيفة.
وبين السالب والموجب من خلال معرفتي بهؤلاء الناس اهتديت أيضاً لرجال ونساء هم
قمة في الطيبة وحسن الخلق والمعاملة ربطتني بهم صداقات جميلة ..
ذات يوم وجدت اسمي على صفحة الفيس ضمن منشور شهادة تقديرية بسبب فوزي بمسابقة
شعرية كنت قد شاركت بها والكثير من النساء والرجال علقوا لي على تلك الشهادة
لفت انتباهي أحدهم فقد دخل على صفحة الدردشة خاصتي بكل احترام عرفني على نفسه
هو روائي له العديد من المؤلفات سألني إن كنت أقبل الانضمام لكروب يعمل فيه
كرئيس ولديه عدد من المشرفين في الكروب يساعدونه في النشر والتعليق على ما
ينشره الشعراء والكتاب .
الرجل كان مهذباً جداً في طلبه فقبلت مع مرور الزمن اصبح صديقاً جيداً لي يرسل
إليَّ ما يكتبه قبل الطباعة كي يأخذ رأيّْ وانأ أيضا أسأله فيما يخص معرفته
بالكمبيوتر الذي أجهل الكثير عن كيفية استخدامه وأيضاً يعلق على قصائدي التي
كانت صبغة الحزن تخيم على حروفها وينصحني بالتغيير كان يعتبرني ابنته أو أخته
الصغرى لفارق السن الكبير بيننا وكنت سعيدة أني وجدتُ فيه الرجل الذي يحاكي
عقلي ويحترم طريقة تفكيري حدثني عن خصوصياته وشاركته في خصوصياتي كصديق أحترم
رأيه لكون خبرته في الحياة أعمق من خبرتي شيئاً فشيئاً بدأت أشعر بانجذابي له
وبدأت كتاباتي يتغير أسلوبها وكل من كان يقرأ لي لاحظ أن حباً قد دخل حياتي ،
تغيرت كلماتي للفرح والأمل مضت شهور لكن ذلك الرجل الصديق والحبيب بقي يتجاهل
احساسي نحوه او لعله شعر بذلك هو أيضاً لكنه خشي إن صارحني بحبه لي أن اترك
النت ويفقد حتى صداقتي فكتم ذلك بنفسه ، ذات يوم كتبت قصيدة كل مشاعر الحب
فيها كانت موجهة له رغم أني لم اذكر اسمه أو أي تلميح يشير إليه بشكل مباشر
فما كان منه إلا تعليق ببعض كلماتِ ناداني بها يا صغيرتي لا أدري حينها كم
الحزن الذي عصف بقلبي وفعلاً تركت النت حوالي عشرون يوماً كانت فترة عصيبة
جداً على نفسي لم يخرجني الا صوته حين اتصل ع موبايلي يسأل عني حينها أدركت كم
أنا أحبه فقد فاضت عينيَّ بالدموع حينها ، صارحني بحبه سمعت كلامه والدموع
تتساقط من عينيً لكنها كانت دموع فرح وشعرت أن الحياة بدأت تبتسم لي من جديد
بتحول تلك
الصداقة لحبٍ كبير ملأ حياتي سعادة وفرح وأعطى لروحي السكينة والأمان حبٌ فيه
من واقع الحياة ومشاكلها ما جعله لن يكتمل بالنهاية السعيدة التي كنت أتمناها.
لم يكن بمقدري الاستمرار في تلك العلاقة الرومانسية مع هذا الحبيب أو تركه .
أصابتني الكآبة والحزن تملكني لعدم اهتدائي لطريق الصواب الذي عليَّ اختياره
فكم هو صعب ومؤلم أن تحلم بحلم وأنت تشعر أنه مستحيل التحقيق ومع ذلك يسكنك
يحتل كل تفكيرك ولا تستطيع التخلص منه ومسحه من خيالك—-فريال.
كم تألمت لقصة فريال تلك وكم أوجعتني نهايتها لكني كنت متفقة ضمنياً معها بأن
الحياة لا تعطينا كل ما نرغب به ويسعدنا وجوده وأدركت أن الحب لا يقيده زمان
ومكان ولا يعترف بعمر الانسان كان صغيراً أم كبيراً عندما يدخل قلوبنا يملأها
فرح وسعادة وقد يشقيها بل وفي بعض الأحيان نكتشف فجأة أن من ضحينا بسعادتنا في
سبيلهم خدعونا ولا يستحقون منا كل هذا الحب الصادق لكن بعد فوات الأوان .
ويبقى الحب دينٌ قائم بحد ذاته يحتاج مريدين ولا يمكننا نكرانه على من اعتنقه
وآمن به.
ماجدة تقي
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.